العشاء السفلي
محمد الشروقي
“دعوة لها شكل الخطر ذاته، دعوة مترنحة و منهمرة بطيش “
تلك هي الدعوة التي يبذلها لنا المغربي محمد الشركي في نصه الجميل (العشاء السفلي).
عندما نشرت دار توبقال هذا النص، كتبت على غلافه (رواية). وأخشى أن هذا التصنيف ليس سوى فعل من استدراج القارئ لنص مغاير، قادر على الذهاب به إلى الأشراك، إذا كان متشبثاً بالنوع الأدبي.
محمد الشركي، في (العشاء السفلي) يستجيب لجديد الكتابة الذي تستدعيه (فتنة غريبة لارتياده). هذه الفتنة التي ستهيمن على مناخ النص، لغة و رؤيا. منذ الوهلة الأولى يندفع بنا الصوت (مغران) في نوع من الاستحواذ الأورفيوسي، نحو (ميزار) التي بعثت برسالة صغيرة تستفز بها ذاكرة مغران : “(هل تذكرني ؟ أنا حاضنتك التي كنت تحفر وشم وجهها بأظافرك الطفولية.. تعال لأراك) و تفعل الرسالة بروح مغران ما يفعل السحر فيستثار، يذهب إلى الموعد، كمن ينحدر نحو جحيمٍ، هو جنته المشتهاة. و لكي يصل إلى (قصبة النوار) حيث تنتظره ميزار، سوف يعبر مطهرا موغلا في التجارب المترفة بالرغبات المجهولة، حيث مقبرة ابن عربي، و ضريح لسان الدين ابن الخطيب (يخرج من رماده و لحيته لا تزال خضراء كثة). و سيدخل (باب المحروق) حيث المقهى، لتغمر أنفه رائحة الكيف المحترق، رائحة نبتة القمر السهرانة في الجبال، يطلب شايا، نكهته غرائبية، و ستبدو أمامه (الطريق إلى أعماق النبتة انجرافات عشبية وانقلابات كوكبية). و هذا بالضبط ما سنصادفه في تلك الليلة لتناول عشاء المحبة، سوف يستغرق الطريق استحضار الذاكرة، حيث : (النسيان مستحيل). و الذاكرة في نص محمد الشركي ليست تاريخا واقعيا لبشر غائبين يجري استعادتهم. الذاكرة عنده تسّـعير لفعل المخيلة. فعشاء مع مخلوقة من (المملكة السفلى) ليست نزهة مأمونة. إنها مغامرة. و النص هو أيضا فعل مغامرة، يخترق بها الكاتب حدود الواقع ليصوغ ضربا من الميثولوجيا الشعرية. مازجا فيها بين مخلوقات عجائبية أكثر رأفة من البشر، و عالم الموتى الجميل القادر على التفاهم أكثر مما يفعل الأحياء. و قبل أن نطمئن إلى افتراض كون (ميزار) امرأة حضنت (مغران) في طفولته ثم ا فترقا لتعود إليه، سوف يذهب بك النص إلى أسطوريته التي تهيأ لها منذ لحظته الأولى :
(هل أنت عائد إلى عبر ليل اللغة الكبير، ليلها الشاسع الذي لا ينيره سوى الموت ؟ أهبك هذه السهرة المرصعة بحمق مبدئها و حمق جميع المبادئ، أهبك أرقا باذخاً لا يعنيه حساب).
( 2 )
بين أن يتصل مغران بميزار بعين الرؤية و بين أن يبصرها بطاقة الرؤيا مسافة غير قابلة للإدراك، إلا إذا تسلح القارئ بحرية المخيلة التي يتوسل بها محمد الشركي. النشاط المتدفق لحس الميثولوجيا في هذا النص، سوف يؤهلنا لأن نتعرف على ميزار في صورة ذئبة رئيفة تعطي حليبها لطفل رضيع وحيد. لكن دون أن نستسلم للتداعي الذي تفرضه هذه الصورة للوهلة الأولى، (حي بن يقظان أو ما شابه ذلك). العناصر و المخلوقات هنا ليست ثابتة، إنها في تحول دائم، فالذئبة ليست كذلك، إلا في لحظة تحقق اللقاء الجديد عندما تتماهى الذاكرة بالمخيلة.
(كنت قد استلمتك ملفوفاً في الأقمطة الأولى، فأخذتك وأعطيتك صدري قبل أن يختمر حليبه..كم آلمتني و كم أدميتني، كان الهزيع الأخير من الليل يشرف دائما على ذئبة نازفة الأثداء، و قربي طفل وحشي مضرج الفم و الأصابع بحليبي الدامي، كانت صرختك مرفوقة بعويلي، و كنا معا من أرض أخرى غير هذه الأرض، كنت أموء خلفك مثل قطة هائلة (..) وأحملك فوق ظهري و أجري على أربع مثل زاحفة ليلية مبهورة بالضوء ). التجربة التي تبدأ مع الإنسان منذ طفولته، ستكمن له طوال الوقت مثل طبيعة الأشياء. و عندما تصبح الحياة هي (الصحراء) أمام الإنسان، سيكون عليه أن يقوى على (بذخ هذا العبور الصحراوي و كل ما سيحدث له، آنذاك، هو (ضروري أن يحدث).
كيف يريد لنا محمد الشركي أن نتعاطى مع (تجربته).
هذا النص اقتراح يغري بما لا يقاس من اكتشاف المهالك. و المولعون بثنائية الشكل / المضمون، ينبغي أن تصيبهم الخيبة. في (العشاء السفلي) سوف تتمثل التجربة في هذا التماهي الذي لا فكاك منه، بين اللغة و بين المناخ الذي ينشأ من هذه اللغة. التجربة تكمن هنا، في هذا التصاعد الشعري المأخوذ بعناصر الميثولوجيا. حيث (مغران) هو وليد هذه التسمية التي تنير أمامه الظلامات (ليل اللغة / ليل النص). حيث (الاسم هو تلك العلامة السرية التي تلمع في ليل واهبتها).
والتسمية هي طقس غرائبي يمنح الإنسان، بفعله، طبيعته إزاء أشياء العالم. و لعل التجربة التي اقتحمها مغران فيما هو يتكون، ويتخلق معه اسمه، إنما هي ذاتها التجربة سترافقه، تعود إليه، يذهب إليها، متصلا (بدهشة النسوغ المظلمة) التي عمدته بها ميزار.
( 3 )
ليلة (العشاء السفلي) جنوح نحو مفهوم ذاتي للرحيل، حيث الرحيل لا يعبأ بجغرافية الخارج، بقدر ما يسبر جغرافية الروح و الجسد في آن. و مثلما عثرت ميزار في سفرها على وجهها العميق، و أطلت على جسدها الآخر و على حقيقتها، فإننا لا نكاد نعرف حدود ميزار من حدود مغران. تحكي له [طوبوغرافيا الروح] : فضاء مترع بالجفون المغلقة في أرحام المرايا، فضاء مسكون بشهوة ما، عربدات عطورات و أملاح.
المسافات / السفر الذي عبرته، تبوح له، فيما هي تنتخب له النبيذ أقداحا أقداحا، حتى لكأننا نحس بمغران لا يتوقف عن غيبوبة الرؤيا منذ أن بدأ مع نكهة ذلك الشاي الغرائبية، منجرفا في أعماق تلك النبتة، مأخوذا بالتجربة.
[مغران أحبك أبعـد من اللبن الذي أرضعتك]
تفتح أمامه النافذة، باب شرفة يفضي إلى عرصة فسيحة مضاءة بالأغراس.
ميزار (من هنا عرصتي، أرى في عينيك إنها تدعوك. قم إذن، لا تهرب من مكان يدعوك. فكل مكان تكون فيه هو مكاني. أخرج وتجول ريثما أدخل دورة المياه، سنتعشى بعد عودتك) -العرصة هي ساحة الدار –
فيما تدخل هي (دورة) المياه، يدخل مغران (دورة) التجربة. في (عرصة ميزار) يتقدم، ميزار هي تجربة مغران، رهيبة الجمال. كأسه في يده، وسوف يعبر منعطفات و أدراج و أبواب مبذولة و مغلقة. و نفق ، و سيبدو كمن ينزلق إلى أعماق منسوجة بحس فانتازي، ستسعفه، في معظم الأوقات، الطاقة الشعرية المبثوثة في لغة محمد الشركي. هناك (لا شيء يحدث عبثا) موكب نساء يبدو أنهن انتطرنه طويلا، ذو اللحية الخضراء ( هل لسان الدين بن الخطيب مجددا ؟!) تتكشف له الأشياء ويتذكر كلام ميزار : (كل مكان تحضر فيه هو مكاني.. لا تهرب). شهوة التجربة تتملكه. أليس هو القادم لكي ( يتسقّط الشرر الدليل)؟!
[بلاد، موتاها هم الذين حكموها / هذه البلاد سؤال رهيب / حبر الجرائد يلطخ الأيدي و العيون و الجدران / ملصقات كرة القدم تتناسل و تفرخ على الرصيف / الكتب تتفسخ بهدوء في الغبار]
وسيلتقي شاب أعمى عرف سيدة القصر، الملكة. جاسدها فأطفأت عينيه بأصابعها. لنتذكر أوديب، دون أن يتيح لنا النص مقاربة رمزية بالمعنى الموضوعي السائد. (لكن المدينة كالمرأة، جسد لا يمكن التكهن بمآله) وكذلك التوغل الذي يأخذ بمحمد الشركي، غير العابئ سوى بالرؤيا الهذيانية التي يستدعيها المشهد. (عرصة ميزار) برزخ بين الوجه والجسد. مغران لم يكن يذهب – فيما يتجول في العرصة – إلى مكان آخر. إنما هو ينزلق إلى أعماق قريبة. أعماقه هو. انه ضرب من سبر الكوامن في لحظات مجابهة التجربة. و كيف يمكن الفصل بين مغران وتجربته.
في (عشاء ميزار) تتجسد التجربة في فعل الحب الفاتن الذي تحسن ميزار ابتكار عناصره. و بدل (غلالة الساتان الأسود) التي فتكت بالشاب الأعمى في (عرصة ميزار)، نرى ميزار في غلالة بيضاء شفافة. للبياض هنا حضور البدايات. يتبادلان حبات العنب السوداء بالشفاة، من الفم إلى الفم. (لم تكن قبلة، كنت افتتاحا لسفر لا يؤآزره فكر). (فناء كبير). وسوف يتراءى لنا أوديب مرة ثانية، عندما تترنح ميزار في شهوة الخلق : (بصوتٍ ازداد رجعه الكهفي).(كنت أعرف أن ما حدث في السابق لابد أن يحدث مرة أخرى.. أعطيتك صدري صغيرا و أعطيك إياه هذه الليلة كبيرا..) يتجاسدان. تعطيه الحب الذي فطمته عليه، ليصرخ بها أخيرا :
(ميزار، أيتها ألأم الداعرة، أيتها ألأم المؤلمة). أي نوع من العشق يمكن أن يتمثل في تجربة معذبة، مشغولة بالميثولوجيا يهذا الشكل ؟!
محمد الشركي يصدر عن حس الفجيعة، بحيث لا تصمد أمام هذياناته الجميلة أية عناصر رمزية ثابتة، إلا بالدرجة التي تدفعنا إلى غموض الملابسات و التفاصيل المفتوحة أمام نشاط المخيلة. فالنص هنا يطلب منا دوما عدم التوقف عند حدود الصورة، و إلا فان صرخة ميزار المتماهية بالعشيقة و ألأم الثاكل، كفيلة بالوقوع في سكون معطيات الذاكرة :
( – مغران، يا ولداه، إذن قضي الأمر..)
( – يا مغران لن تكون في حاجة لأن تراني، فقد وهبتك كل شيء، لبني ، غيابي، و الآن أهبك جسدي و موتي. إنني أترك توقيعي الهذياني في فكرك و جسدك، فاعتبرني ممرا إلى شيء آخر يشملني و يتعداني،
شيء أبعد مني و أخطر..)
هل كان م مغران ذاهبا إلى الموت مدججا برغبة الحياة ؟!
هل ميزار هي جنة التجربة و جحيمها في آن ، و ما الحياة سوى مطهر لتتهيأ الكائنات لتلك الجنة / ذلك الجحيم ؟
هل مغران و ميزار هما الحب و الحرية معا، و كلاهما يسعى إلى الآخر، يسعى و لا يصل؟
نص محمد الشركي يقترح علينا كل ذلك، وأشياء أخرى أكثر جمالا. فإذا تيسر لنا، كقراء، أن نتسلح بعناصر الحرية التي مارس بها الكاتب كتابته، فسوف تتاح أمامنا فرص الاستمتاع بالحب الذي هيمن على أجواء (العشاء السفلي). ذلك الحب الخرافي، بين عناصر أسطورية، لا ترى في الواقع إلا مواد أولية خرجت تواً من الدمار، و علينا أن نعيد تكوينها.
محمد الشركي، المغربي المشاكس، يجتاز بنا تخوم المخيلة الشرقية.
شكرا محمد الشــركي