قاسم حدّاد مخفوراً بطرفة بن العبد

 
خليل صويلح

 

من أعماق الجاهليّة إلى قصائد التيه الباريسي

عام أمضاه في برلين، بصحبة زميله الملعون الذي نسجت حوله الأساطير. لقد غاص الشاعر البحريني في المخطوطات والمراجع والنصوص، ليلتقي «مواطنه» البعيد، متجاوزاً الكثير من المغالطات والأوهام السائدة عن صاحب واحدة من أجمل المعلّقات في الشعر الجاهلي. وفي انتظار نشر المشروع، صدر كتابه الجديد في دمشق بعنوان «دع الملاك» خليل صويلح لم يشأ قاسم حداد أن «يفضح» أسرار مشروعه الجديد عن طرفة بن العبد (539 ــــ 564)، قبل إنجازه تماماً… كأنّه لا يرغب بمغادرة مسوداته عن هذا الشاعر الملعون. كلما أوغل في قراءة أشعاره وسيرته الملتبسة، وخصوصاً لجهة مقتله الغامض. يكتشف منطقة شعرية جديدة تنسف طمأنينته في تظهير صورة حقيقية وملموسة لصاحب واحدة من أجمل المعلّقات في الشعر الجاهلي، بعيداً عمّا لحق بها من أساطير وأوهام وتزوير. لعله أراد ردمَ المسافة بين الصورة المتخيّلة لشاعر الأمس المولود في البحرين، وصورة شاعر اليوم الذي يعيش فوق الأرض نفسها. الإقامة الإبداعية التي استغرقت عاماً كاملاً في برلين بمنحة تفرّغ من «الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي»، عاشها صاحب «أيقظتني الساحرة» (2004)، بصحبة طرفة بن العبد. هكذا، راح يستعيد نصوصه، ويشتبك مع سيرته، محاولاً تفكيك عناصرها، على نحو مختلف، عمّا دوّنه الرواة. وإذا به يجد نفسه في مهب أسئلة وشكوك تتعلق بتجربة هذا الشاعر، لتصل ــــ في النهاية ــــ إلى شكوك بالتاريخ الثقافي لكلّ ما كان يُسمَّى الشعر الجاهلي، وخصوصاً تاريخ ملوك الحيرة. يوضح قاسم حداد: «كانت شكوكي في محلها حول أسطورة طرفة بن العبد، وما طاولها من تحريف، إن لجهة شعره أو أسباب موته. الروح التي تنضح بها معلّقة طرفة بما فيها من تجربة وحكمة، تتناقض مع الروايات التاريخية عنه. هناك طرفة آخر، مختلف تماماً، لم تُحسن هذه الروايات إزاحة اللثام عن جوهر شعره بدلالاته البالغة الغنى والتنوّع». «طرفة بن الوردة» كما يحلو لشاعرنا أن يكنّيه ــــ نسبة إلى والدته ــــ فتح نص قاسم حداد على مسالك متشعبة. هذا النصّ، عدا أنّه تحية شخصية لشاعر استثنائي كان إحدى المرجعيات التي تقاطعت مع تجربة قاسم في مراحلها المختلفة، ينهض أيضاً على عناصر شعرية وسردية وبصرية، لم تكتمل ملامحها بشكلها النهائي. الاضطراب والحيرة سمتان رافقتا الشاعر البحريني المعروف خلال اشتغاله على سيرة طرفة، وتالياً اكتشافاته المتجددة في الشعر الجاهلي وجمالياته الفريدة، والنبش في المخبوء واللامرئي في هذا الشعر. «هذه التجربة وضعتني في مهب شعري جديد وغامض، قادني إلى ممارسة حريتي في إعادة تركيب حياة طرفة بن العبد باعتبارها تجربة شعرية بالأساس… إضافة إلى لذّة الكتابة التي سيعيشها القارئ بالمتعة والإغراء ذاتهما». ويعترف صاحب «عزلة الملكات» (1992)، بأن هذا المشروع أخذه بعيداً، لجهة اللغة والأسلوب وزاوية النظر الشعرية. «قراءتي الجديدة للشعر الجاهلي، وحواري العميق معه، فتح أمامي أفقاً نوعياً في الكتابة، وصقل تجربتي إلى حد بعيد». لن نجد في نص قاسم حدّاد إذاً، سيرة ذلك الشاعر الذي ذهب إلى حتفه طمعاً بدنانير عمرو بن هند، ملك الحيرة، وهو الذي هجاه مراراً: «هناك، من دون شك، استخفاف في الرواية المتداولة عن قتل طرفة، تبعاً لمواقف القبائل المتناقضة، ما أسهم في التباس الرواية، وتغييب الحقيقة. لنقل إن التاريخ كله مشبوه ومزوّر، فما بالك بالتاريخ الثقافي؟». سيذهب النص مرغماً ربما، إلى علاقة الشاعر بالبلاط، وموقف الشاعر من السلطة، في الأمس واليوم… ويمضي في تركيب حياة مشتهاة لهذا الشاعر، خلال البحث والتحديق في موته المبكر: «لقد ترك سؤالاً معلّقاً، وكنت أحاور هذا السؤال من وجهات نظر متباينة، أو لعلني كنت أثأر لطرفة بن العبد من الظلم الذي لحق به، وبشعراء آخرين، ومحاولة استكمال وترميم ما لم يكتبه خلال حياته الخاطفة، لذلك كنت أهدم الزمان والمكان معه، في أقصى تجليات المتعة». هذا الشغف بصاحب «لخولة أطلال ببرقة تهمد/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»، لا يمنع قاسم حدّاد إعلان قلقه واضطرابه من هذا النص، وتأكيده أنّ المشروع في صيغته النهائية «سيكون مختلفاً عما كتبته قبلاً». لكنّ قاسم حداد يطلّ أيضاً من ضفة أخرى، في كتاب جديد حمل عنوان «دع الملاك» (دار كنعان ــــ دمشق)، ويشمل قصائد كتبها عن تجواله في باريس. هنا تشف نصوص صاحب «لستُ ضيفاً على أحد» (2007) إلى مستوى الرحيق، وعذوبة مذاق النبيذ، وأبصار تتشهى لذّة الحياة، وكتابة الحلم بكل هذياناته، والولع في مراودة الظل والمنسيات. هذا شاعر ثمل بأسباب الجمال، وباللحظة الهاربة من جحيم الأسى والشقاء إلى جنة العيش. هكذا يلتقط ثماره اليانعة من نافذة مترو… يسحق معدن الفولاذ بعنف، ليأخذه إلى متاهة الضوء، ووحشة المقاهي، أو إلى ريح الرغبة، وشظايا اللغة وهي تجوس تضاريس معنى آخر: «امرأة تتهجى فهرس الهزائم بأنخاب تبادلتها مع العاصفة في سجال المخمورات». ويتوقف الشاعر ملياً في متحف «أورسي»، يتأمل غواية اللون، والمسافة بين بريق تفاحة سيزان وشهيق تفاحة نيوتن «تعبيريون يخلعون قمصانهم لقصف أكثر الانطباعيين قدرةً على الصخب». من موسيقى اللون عند رينوار إلى ادغار ديغا المفتون براقصات الباليه، إلى فان غوغ «الأزرق القاني في حضن صفرة الذهب». تتخفف العبارة من الرنين لتتماهى بأجراس اللون والإيقاع، وشهقة الدهشة أمام إغواء «الذهب الطري الذي يندلع من الطين»… ثم يخشع أخيراً أمام لوحات أوديلون ريدون الغارق في الحلم إلى منتهاه.

تجربة النصّ المشترك: اللوحة والصورة والقصيدة

اختارت التشكيلية البحرينية لبنى الأمين شذرات من نصوص قاسم حداد التي كتبها عن «برلين/ باريس/ البحرين» كي تكون موضوعاً لمعرضها الجديد «نزوة الملاك» (راجع الصفحة المقابلة). المعرض الذي افتتح مطلع العام في برلين، ويقام حاليّاً في البحرين، قبل أن يحط في باريس ابتداءً من 7 أيار (مايو) المقبل، هو مقاربة بصرية لأشعار صاحب «يمشي مخفوراً بالوعول»، وتتقاطع خطّياً مع مرئيات الشاعر الذي أسهم في تنفيذ بعض اللوحات، وذلك بكتابة عبارات بخط يده. يقول حداد «تفترق هذه التجربة عمّا سبقها من تجارب مشتركة، نظراً إلى الحوار العميق بين الكلمة واللون، وحرية التأمل بصراً وبصيرة. وينبغي أن نصغي إلى اللوحة بوصفها نصاً مشتركاً». لبنى الأمين التي عايشت هذه النصوص خلال عام كامل، انتهت إلى رؤية تجريدية باستعمال خامات مختلفة مثل الاكريليك والخشب والورق المقوّى. وتأتي هذه التجربة الأخيرة ضمن تجارب سابقة خاضها الشاعر مع آخرين. ربما علينا أن نتذكر مشروعه المشترك مع التشكيلي العراقي ضياء العزاوي «أخبار مجنون ليلى» (1996). ذلك النص الذي تعانقت فيه أسطورة المجنون بالأسطورة الشخصية للشاعر من جهة، وخطوط وألوان العزاوي من جهة ثانية، فأتى الكتاب معجماً صوتياً وبصرياً في مساءلة الحب والجنون. وسيدخل مرسيل خليفة لاحقاً على النص في تجربة موسيقية، وإذا به يعزز مفاصل النص برؤى تعبيرية جديدة ومفارقة. مهلاً، هناك تجربة أخرى أكثر رحابة وثراءً في عناصرها وتوليفاتها الإيقاعية في رفد النص الأصلي، جمعت أشعار قاسم حداد مع موسيقى وغناء خالد الشيخ، ولوحات إبراهيم السعد. كان عنوانها «وجوه» (1987)، وهي محاولة لافتة في تمازج الكلمة بالفنون البصرية والسمعية والذهاب بالنص المكتوب إلى تخوم أبعد. ثم انتقل قاسم حدّاد إلى حقل إبداعي آخر، في تجربة مشتركة مع المصوّر الضوئي السعودي الراحل صالح العزّاز بعنوان «المستحيل الأزرق» (2001)، قامت على تقاطع صريح بين التعبير الكتابي والتعبير الفوتوغرافي. نصّان يتجاوران ويفترقان تبعاً لمخيّلة الكلمة أو الصورة، وذلك بالتأكيد على الشحنة البصرية وما تقترحه على العين من أسئلة وهواجس، نتلمّسها مبثوثةً في متن النص المجاور. بالطبع لن ننسى تجارب الشاعر المبكرة مع مواطنه أمين صالح التي كانت من أوائل التجارب العربية في كتابة النص المشترك. نقصد هنا نصهما المشترك «موت الكورس» (1984)، وسيلتقيان مرةً ثانية في «الجواشن» (1989)، لتتناوب الرؤى والمقاصد الجمالية بما يشبه حواراً محتدماً في الكتابة والهدم بأقصى حالات الشك والمساءلة والنقض، أو تمارين في الحرية لنفي قدسية النص وثباته ووضعه في مهب الشبهات واندفاعات العاطفة والصور والمخيّلة.

ادب وفنون
العدد ٨٠١ الاربعاء ٢٢ نيسان ٢٠٠٩،جريدة الأخبار اللبنانية