قاسم حدّاد.. من نجار ومناد على «الباصات» إلى شاعر

 
 

عزمي عبد الوهاب

 
عندما تقرأ «ورشة الأمل» للشاعر البحريني قاسم حداد ستجد نفسك أمام سيرة استثنائية، مكتوبة على نحو غير تقليدي، ولن تخطئ عيناك قط أنك أمام شاعر، بيته الأول هو الكلمات، إنها سيرة شخصية لمدينة «المحرق» كما رأتها عين طفل، طلب من أبيه حذاء أبيض، في يوم غير مناسب، وكانت الأم هي المنقذ، إذ سمع الطفل قاسم حداد حركة في الظلمة، فإذا بالأم تفتح صندوقها الصغير تحت سرير الأب، ثم تزحف نحو رأسه، وتقدم له نقودا، جمعتها من عملها في الخياطة، من أجل أن يأخذ ابنه في اليوم التالي إلى السوق، ليشتري الحذاء المطلوب للطفل، وتقول له: «إنه ولدنا الوحيد، نحن تعودنا على حالة العوز، لكن لا تكسر قلب ولدك يا محمد».
هنا يعلق قاسم حداد: «يا محمد؟ لم أسمع أمي تنادي أبي باسمه مجردا، قبل تلك الليلة على الإطلاق، هذه المرة الأولى التي أشهد العلاقة بين أمي وأبي بهذا الوضوح والمباشرة والصرامة والحب في لحظة واحدة، وكان عليّ أن أصم أذني، لكي لا أسمع الاضطراب المتسارع لدقات قلب أبي وكلماته التي كانت تشبه النشيج، وهو يتلعثم بكلمات غامضة، ولكي يكتمل ذلك الموقف محفورا في الذاكرة، لم يعرف أبي نوما، قبل أن يقترب مني، معتقدا أني في النوم، ويلثم وجهي بقبلة، حسبت أنها الجنة». بين البيت والمدينة والوجوه ينتقل قاسم حداد، فالبيت هنا هو بيت الطفولة، كما حدده باشلار حين قال: «إنه البيت الذي ولدنا فيه، المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا، إنه مكان الألفة، وعندما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا بيت الطفولة». عمل حداد في ورشة حدادة مع أبيه، كما عمل في صناعة البناء، واشتغل نجارا ومناديا على باصات النقل، وظلت المدينة هي التي تحكم علاقته بالكون، بالعالم، فالبحر يحيط المدينة في علاقة ودود، حتى إن الشاعر يقول: «منذ أن خرجت من البيت متعرفاً بأطراف مدينة «المحرق»، كنت أصادف البحر في كل مكان، لقد تداخلت» المحرق»مع البحر بصورة تكاد تجعلنا نؤمن حقا بأن هذه المدينة صديقة البحر بامتياز. كان البحر يدخل بيوت المدينة بلا استئذان، وحين تطول غيبة الرجال في رحلات الغوص تخرج النساء إليه مبتهلات له أن يعيد رجالهن، وإن طالت الغيبة أكثر، يتحول شعورهن القلق إلى غضب، يدفعهن إلى معاقبة البحر، يذهبن إليه وفي أياديهن سعف النخيل المشتعل، يغمسنه في الماء، لكي البحر، كان البحر هو الحياة، حتى أن النساء كُن يقدمن له القرابين، أملا في عودة بحار من رحلة غوص، أو نجاة مريض من مرض.
الخلاصة أن الكتابة عن «المحرق» ممكنة من مستويات وزوايا مختلفة، غير أن قاسم حداد كما يقول: «أحب أن أتحدث عنها متقاطعة بالرؤية الإنسانية التي أنشأتني، وتصاعدت في تجربة كان لها الدور الأكبر في صياغتي ثقافياً وإنسانياً وإبداعياً، لا أكتب كل شيء، لأنني لا أعرف كل شيء، عرفت مدينة»المحرق»في لحظتين باهرتين من الاكتشاف: الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً، والثانية بوصفها ورشة الأمل». عندما تصل إلى مثل هذا الكلام عن المدينة تكتشف أن قاسم حداد قد خدعك حين كتب على غلاف كتابه «سيرة شخصية لمدينة المحرق» فالحقيقة أن حداد حين يكتب عن المكان يكتب عن نفسه، فهو أيضاً، لمن يعرفه أشبه ب«مدينة الأبواب المفتوحة دائما» و«كأن تلك المدينة كانت اقتراح المستقبل الإنساني بالنسبة لأجيالنا»، هكذا يؤكد قاسم حداد، فطوال رحلة الحياة من الطفولة إلى الكهولة لن يرى حدوداً فاصلة بين داره وعائلته، وبين الدور والعائلات الأخرى، أليس نص حداد الشعري ذاته هو نص الأبواب المفتوحة على الطفولة والعالم بكل تقاطعاته؟!
كان حفظ القرآن الكريم مرحلة تأسيسية مهمة بالنسبة للطفل، قبل التعليم النظامي، وكان التسابق إلى حفظ القرآن حقلاً، يحق للأهل أن يفاخروا بمن يجتاز ذلك الدرس بجدارة، لكن قاسم حداد لم يوفر لأهله التمتع بتلك المفاخرة، وهو يوضح: «لم أكن ممن يتميزون بموهبة الحفظ في أي مرحلة من حياتي، كان الحفظ هو نقيض السليقة التي ذهبت لها حواس الطفل»، ولذلك كان اليوم الأول له في «الكتَّاب» يمثل انتقالا كونيا من أحضان نساء العائلة إلى البيت الغريب بين جمع الأطفال، كان حدثا بمثابة الصدمة التي سببت له ما يشبه اللعثمة، وكما يقول: «لفرط الارتباك وصدمة التجربة الجديدة، شعرت بجفاف في حلقي، بحيث احتجت إلى شرب الماء مرات عدة في ذلك الصباح». لا تختلف تجربة اليوم الأول في المدرسة عما جرى في «الكتَّاب» فقد حاول قاسم الاجتهاد، ليواجه مصيره وهو الضياع، ولم ينقذه سوى «الأبواب المفتوحة للمدينة»، كانت تلك التجربة مؤشرا على أن يتوقف الشاعر عن الدراسة، قبل إنهاء المرحلة الثانوية، فهو يقول عن يومه الأول، بعد أن أوصلته الجدة إلى المدرسة، ثم انصرفت: «انتهزت فرصة سانحة لكي أخرج قبل سماع جرس الانصراف، واعتقدت أنني أعود إلى البيت وحدي، الأمر الذي جعلني في متاهة طوال النهار، لقد تهت عن طريق البيت لكي تكتشفني جدتي آخر النهار في أحد بيوت المحرق، حيث دخلت تلك الدار بشكل عرضي باكياً».
 
عندما تاه حداد، وجد أبوابا كثيرة مفتوحة، واعتقد لحظتها أن كل دار منها هي بيته الافتراضي، فيما بعد سوف يكتشف هذه المدينة أكثر، ويتعرف بها في مرحلة انخراطه في العمل المبكر، وقتما كان يشتغل «فاعلاً» في البناء، فمعنى أن يعمل صبي في البناء هو أن يتجول في معظم البيوت، كما لو كان جزءا من العائلة.
تحت كل الظروف لن تكف «المحرق» عن فتح أبوابها، ففي العام 1965 كانت الشرطة تطارد المتظاهرين، بالقنابل المسيلة للدموع وكان «الأهالي يقفون في انتظارنا على أبواب بيوتهم المفتوحة حاملين قطع القماش المبللة بالماء، ثم بحبات البصل التي كنا نقاوم بها الدخان الخانق» كما يذكر حداد ويضيف: «أجمل من ذلك أن أبوابا طوال النهار والليل كانت مفتوحة لنا أيضا أثناء العمل النضالي، عندما كان بعضنا يتفادى المبيت في داره أثناء الأحداث بسبب ملاحقات رجال المخابرات، كنا نجد المجال مفتوحا برحابة القلب لدى بيوت كثيرة لكي نقضي كل ليلة في بيت مختلف، وكانت العائلات، ومعظمها لا تعرفنا شخصيا، تهيئ لنا المبيت والطعام، وتسهر علينا كما لو أننا من أبناء الدار». برغم الطفولة القاسية التي عاشها قاسم حداد فإنه لم يتحول إلى ناقم على أيامه وأصوله، فهو يقول: «إنني أدين لوالدي كونه عرفني بكل هذه التجربة فنية التنوع، فقد وجدت في الأشخاص الذين تعرفت بهم كنزا من الخبرات والأخلاق والمشاعر، تعلمت دروسا لم أصادفها في حقول معرفية أخرى، إلى درجة أنني أستطيع الآن أن أستعيد بوضوح شبه كامل، العديد من المواقف والأشخاص كلما تعلق الأمر بتجربة أو موضوع محدد في حياتي، منذ أن وعيت علاقتي بمدينة المحرق، لقد كنا عائلة واحدة بحق». في المحرق عرف قاسم حداد المكتبة، التي تعرف من خلالها بسلسلة قصص «المكتبة الخضراء» ومجلات «سندباد وسمير» والصحف العربية، وفي مدرسة الهداية كان نزوعه المبكر للأدب والشعر عن طريق أستاذ أردني، وفي المدرسة ذاتها عرف شاعرا كان يعيش في البحرين اسمه «طرفة بن العبد» نبذته القبيلة ومات غريباً وصغيراً: «بدأت بالشعور مبكرا أن لحياتي الراهنة علاقة ما بحياة طرفة بن العبد لمجرد أنه عاش في السديم التاريخي نفسه لهذه المنطقة». وكان في مجلة الآداب، ودواوين السياب ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، وحجازي، والفيتوري ونزار قباني مادة خصبة للنقاش، دفعته لأن يسأل أستاذ اللغة العربية عبد الحميد المحاميد أن يعلمه بحور الخليل بن أحمد، الذي نصحه قائلا: «إذا أردت أن تكتب الشعر لا تشغل نفسك بتعلم الأوزان، لأنني أخشى أنك ستفقد الشعر إذا شغلت نفسك بغيره.
في تلك اللحظة وجد قاسم حداد نفسه في مواجهة الحرية، التي لم تكف عن التأجج بداخله طوال الوقت، لينتج لنا نصوصاً جديدة، تدل عليه وحده، ويكتب لنا سيرة من أهم سير الشعراء في الوطن العربي.
________
*الخليج الثقافي

التاريخ : 2015/10/08 01:32:45