“صامتًا وفي نيتي أنْ أصرخ…”

p03gmmbh

سركون بولص قائلُ هذا السطر الساحر يكشفُ عن شعريةٍ فذةٍ، إذْ  يدعو إلى أنْ نتأملَ هذا الصمتَ العظيم، المحشوَّ بصرخاتٍ لا متناهية الجذور والتواريخ والآفاق.

إنه الصمتُ المبدعُ الذي يدوّي صداه في أعماقِ الكون؛ لا ليعلنَ اليأسَ أو يبشرَ باللاجدوى؛ بل ليفضحَ الصراخَ الفارغَ الذي يملأُ حياتنا من ألفها إلى يائها…

إنه الذي يقولُ، بلا صخبٍ، ما لا يقالُ، من خلالِ عمقه الشعريِّ، من خلال صمتهِ المتدفقِ بالاحتجاجِ والغضبِ والجنون، من خلال حُبه الساطع كالذهب الذي يتساقط على الرمل اليابس.

ينقلُ أحدُ أصدقاء الشاعر أنه أخذ يستغرقُ في جوانيته أكثر فأكثر، إذْ بدا له دائم الصمت عندما رآه آخر مرة. لعلَّ الهدوءَ الخلاّقَ يختزنُ عبقريةً أكثر مما تختزنُ الضوضاءُ الضحلة؛ ولذلكَ كانت الموسيقى السمفونية الهادئةَ أعلى مستوًى من الناحية الإبداعية والفنية مما سواهاـ قارن بينها وبين أفضل ما أنتجته موسيقى الروك والجاز الصاخبتين على سبيل المثال لا الحصر. هناك، في السمفونيات: سكينةٌ ورزانةٌ من الخارج، عمقٌ من الداخل. وهنا في الروك والجاز: ضجيجٌ من الخارج، وخواء من الداخل.

هل ذلك ينطبق على فن الشعر؟

على الأرجح، كلما كانتْ لغةُ الشعر طنانةً محاكيةً لعناصر الواقعِ وعاكسةً لضجيجهِ، كلما فقدتْ عمقَها الداخلي أكثر فأكثر.وتبعا لذلك ينجرفُ الشاعر في سيلِ هذا الواقعِ، الذي لا يرحمُ من يخضعُ لأبجدياتهِ المملوءةِ بالزيفِ والتمويه.

سركونُ بولص، على النقيض، يتحدّى قوانينَ هذا الواقع، بتجلياته كلها، وفي المعنى العميق للكلمة. الواقعُ هو الذي يتكسرُ أمامَ جوهرانيةِ شعريته الصامتة العميقة الضوء.وهو إذْ ينسج حروفَ قصيدته على الصفحة البيضاء، يحاول أنْ يجرفَ كلَّ ما هو رديء في صفحة هذا الواقع. بل ربما، هو لا يعترف به أصلاً.لا يعترف بغثائياته والضوضاء اللعينة المتربعة في زواياه..

حقًّا، لو إنَّ الشعرَ الخالصَ موجودٌ في هذا الزمن، لكان هو الصمت.

ولقدْ أتقنَ سركون بولص في حرفية بارعة ومتفردة جماليات هذا الصمت، صمته المكتنز بالشعرية الخالصة، والخيالات الجديدة والخارقة للأبعاد كلها.وقدْ كانَ يؤثثُ مدنَه العاليةَ بما هو ناصعٌ في بياض الصفحة، فيما أنيابُ الحروب تنهشُ جسدَ بلاده في حلكة هذا الواقع. ولم يزل شعرُه صامتًا، في الوقت الذي يصرخُ في وجه هذا الظلام الكثيف.

اعتصم بصمتك، أيها الشاعر.لعلك أنت، وحدك، الذي نجوتَ مِنْ طوفان هذا الخراب العميق والمتسّع…

عبدالله زهير