علي محمود خضير في( الحالم يستيقظ)..ظاهرة شعرية أم إيكولوجية؟
عبد الغفار العطوي
جريدة تاتو العراقية
سأتناول ثقافياً ما طرحه الشاعر ( علي محمود خضير ) في مجموعته الشعرية ( الحالم يستيقظ) من إصدارات الجفال ط2|2011 م لأن العنوان يهدف إلى فهم العلاقة بين الشعر كمنتوج لفظي يتأثر باللغة الحاملة له والوجهة التي يقصدها ، وبين الحاضنة المنطوية عليها آلية الاستقبال ، ففي هذه المجموعة الشعرية ينتصر السياق الثقافي على الاشتغال الشعري في نقاط مهمة ، سنتطرق إلى بعضها لاحقاً ، وطغيان الثقافي على الشعري مرده إلى أن الشاعر يمارس نوعاً من المماحكة الثقافية على حساب المسالمة الشعرية ، أوجبه رؤية المرحلة التاريخية التي تشكل مساره ،وتدفعه إلى الوقوع في دائرة التنظير والتجريب في الشكل والمحتوى، وإليك التفصيل الذي يبين مغزى بروز ( علي محمود خضير ) في الشعر على اعتباره ظاهرة يمكن دراستها.
1-يطل الشاعر في بداية المجموعة على قرائه من خلال عتبتين: الأولى : يؤكد على اسمين هما ( روان وملاذ )على اعتبارهما جناحيه في العاصفة ! وهي عتبة غامضة تقرأ ثقافياً ، على قياس التجربة التي يغامر بها الشاعر متعرضاً للعاصفة ،ولا نعرف أية عاصفة التي تتطلب جناحين قويين ، وقد نفسر المغزى الذي يتجه إليه الشاعر بالتنويه بالعاصفة عند أعتاب العتبة الأخرى التي احتواها الغلاف الأخير للمجموعة ، وضمت كلمات التعريف والإطراء والمديح بموهبة الشاعر، وإظهار مزاياه على يد ثلاثة كتاب معروفين في الوسط الثقافي العراقي والعربي وهم الشاعر والكاتب المغربي محمد بنيس والناقد العراقي فاضل ثامر والكاتب عيسى مخلوف، وهذه الأقوال تدخل في نطاق المماحكة الثقافية التي تظهر المساحة التجريبية التعريفية التي يحظى بها الشاعر التي يصفها بنيس بالمغامرة ، ويربط ثامر تجربة الشاعر بالزلزال الذي حدث عام 2003 من جهة ، ومن جهة ثانية بنزعة حداثية متقدمة على حد قوله في كتابة قصيدة النثر الخ ويختم مخلوف هذه العتبة بقوله : والعالم من حوله غربة !وهذا ما يحدث تماماً في شعر على محمود خضير ، لنجد إن الشاعر فيما عرضته العتبتان يحمل نمطاً مميزاً من الكتابة الشعرية ، ربما هي كما تود أن تطرح نفسها مختلفة في شكلها ومحتواها ، وفي رؤية الشاعر إلى العالم والشعر واللغة والسياق، بدفع مباشر وغير مباشر من أقلام هؤلاء السادة الكتاب ، وفي الحقيقة إن نزوع الشاعر إلى وضع هاتين العتبتين بهذا القصد سيعطي انطباعاً بوجود سلسلة من عمليات الترقيع في آلية صناعة الظاهرة، بغياب المؤشرات الثقافية التي تمسح مساحة بروز الظاهرة الفكري والاجتماعي والسياسي، ولو قرأنا ما كتبه فاضل ثامر من جديد في الغلاف الأخير تصورنا فداحة السكوت على فقداننا لهذه الصناعة.
2 – لا شك إن المجموعة عموماً تهتم بالسياق الثقافي على حساب الاشتغال الشعري في نقاط محددة ، وتضيق على المساحة الشعرية لصالح الشواغل الثقافية والسوانح المعرفية التي تخدم خط التفوق الفكري العام على حسابات الشعرية المتشظية في تضاعيف المحاولات التجريبية الحداثية التي يحرص الشاعر على إسداء الرأي في بعض جوانبها ،فرؤيته الحداثية للفضاء الشعري الذي يعوم فيه هو من بديهيات الثقافة المعاصرة التي تفضل غلبة العامل الثقافي على المنتوج الشعري ، في شكل الرؤية وتراتب النزعة الكتابية التي تحاول المزج الاجناسي ، في (كأن لا ليل له ص7) تبرز سمات المغالبة الحداثية في نوعية الشعر المنثور الذي تطغي عليه لمحة السرد مع الأخذ بالعرف من وجهة تسالم معينة ، في علامة( الموتى أو الملائكة).
كان يشعر بالوحشة
وحشة من يموت الليلة
كأن جماعة من الموتى أو الملائكة ينتظرونه كي يأخذوه معهم
حيث لا رجعة أبدا
مرات عدة أفلت النوم منه
وظل قلبه يحوم بأرجاء البيت
كعصفور أضاع سبيله ليدخل غرفة بالصدفة
الفراش سجادة أشواك باردة مهدت بعناية
وفي ( خيار خاسر ص 11) يستخدم العلامة السردية بصيغة الماضي ( حدثك مرة ) كعتبة للدخول إلى فضاء مليء بالتوقعات الخاسرة التي يبتدأها بفعل ( أحسب) الذي يعني الظنية الساكنة التي تتضارب مع قول ( حدثك):
حدثك مرة
كل ليلة تصلح أن تكون الأخيرة وكل نهار يحمل بقلبه بذرة العدم
أحسب إن في رأسي يتجادل ملكان
لا يملآن حساب المرات
التي أدرت ظهري فيها لرسائل الليل والنهار
أحسب إنهما تعبا كثيراً معي فتركاني هائماً في دروب لا تستحي
أحسب إن نهاراتي القادمة أقل حظاً
وأني خسرت بياضي بانتظار سوادك
وأن ذنوبي لا تغفرها رحمتك
3 -الشاعر يمزج بين البنية السردية والشعرية بغية توصيل جملة من الانفعالات لا تتم إلا وفق هذا المنظور الحداثي الثقافي ، لأنه يؤسس لرؤية دقيقة في ما وراء المعنى ، وفي ما خلف النص ، كما في ( مشقة أن تعرف ص 17) التي سيكررها في النصوص الأخرى:
البارحة
حينما خرجت من جسدي سالماً
رأيتك تركضين برداء أسود ودمعة أخيرة
كان الليل وقتها على أتم سواده
والريح خلفك تنبح
ويكررها في ( حتى تجد خلوتك الدافئة ص23):
لن يهمك
ستمشي في الشارع المكتظ وقت الغروب
وتحتدم بالحشود المربكة
الوجوه العجولة والوجوه الحائرة
ستنسى إنك نسيت
وتوفر دموعك قليلاً
قليلاً حتى توفر خلوتك الدافئة
4 -في نص ( وهي تتحول إلى ملاك ص 33) الذي أهداه إلى عبير العراقية الصبية الجميلة التي أنتهك عرضها وأغتصبت في ليلة ليست كباقي الليالي وأحرقت جثتها بعد قتلها وعائلتها والبيت المنعزل الذي كان غافياً على البراءة ،أحرقهم حفنة من الجنود الأمريكان المحتلين من دون وازع من ضمير أو رادع من عقل ، لتتحول عبير إلى قضية العصر التي تصور بشاعة انتهاك البراءة والتمثيل بها ، وهذا النص كان متفوقا في إيصال هذه الدلالة ، في حركة سردية شعرية متلاحمة ، مع مستهل يبدو قادماً من وراء النص ، مما يؤسس لنص يتلاءم مع حركة الرؤية التي ينقلها الشاعر بعين الكاميرا لتتشظى الوقائع في فضاء الجريمة البشعة النكراء:
كما تحل العتمة فجأة
هبط مطر آذار
في الخارج الحديقة تسهر بأشجار تين راجفة
هل أجعل أصابعي في أذني كي لا أسمع نحيبها
كيف مرت البارحة؟
بماذا فكر رجال المارينز قبل أن يقتحموا عليها الدار
ماذا سيقولون للرب؟
ألم يكن الباب موارباً؟
وماذا عن أنين أخت منتظرة
وأب يتعثر الرعب على لسانه ويموت ؟
ويبدو نجاح الشاعر علي محمود خضير في هذا النص الهجين دفعه لتكرار هذا النموذج في بقية النصوص ، في رص قطع النصوص المتشظية لانتاج ظاهرة شعرية ، تتألف من مستهل +حركة سردية تصل حد الحكاية + بنيات شعرية إما مرصوصة أو مبعثرة كما في ( دهشتي كلها ص 37 | إذ تعكس الشمس أحمر شفاهك ص 43 | رسالة ستضل عنوانها أيضاً ص47) 5 -من ضمن التجارب الحداثية في شعر علي محمود خضير هو إندفاعه نحو السياقات الثقافية ، التي تحمل هم المغايرة في البناء الشعري والاهتمام بالنسق السسيو-ثقافي الذي يبرز ما وراء المعنى على حساب المعنى الذي يعتقده القارئ قريباً، في ( ما يتركه المارة ، مسرعين ص 63) بعض التجريب الذي يكرر الفعل( أتأمل ) للزيادة في النمو الثقافي البديل عن المعنى:
أتأمل أمي تصنع خبزها بتنور فزعنا
أتأمل أبي ، يسند بيتنا لئلا يشيخ
أتأمل إبنتي تثقلني وترفع عني
أتأمل مروحة السقف ساكنة منذ البارحة
أتأمل يومي وهو يمر
أتأمل الخديعة والخيانة والخسارة
أتأمل الساعة قاسية -لا تنتظر
أتأمل نفسي وأنا أنتظر.