«كلام يعنيني» لعصام التكروري..
شجاعة الكتابة عن الحرب الدائرة في البلاد منذ أربع سنوات؛ تضع النص الشعري الجديد أمام مسؤولياته الفنيّة أكثر من أي وقتٍ مضى؛ فقبل أن تكون القصيدة مجرد حشرجات كلامية، هي «تفكير بالصور» وإعداد مناخات مغايرة لما هو سائد في ركام الإصدارات الشعرية الزاخرة بالاحتلامات اللغوية ونشازات «الفايسبوك».
تبدو اللغة هنا أكثر من وسيلة تعبير، فتتجاوز وظيفتها الدلالية لتكون ظاهرة صوتية تقف في وجه القتل العبثي؛ ولئن اختار الشاعر عصام التكروري في كتابه «كلام يعنيني» (دار التكوين، دمشق) الكلام كعنوان لمجموعته الأولى؛ إلا أن الشعر سيكون مجازفة فنية تتخطّى «الكلام الجميل» بكثير؛ حيث تبدو الفروق واضحة بين كلامٍ وشِعر، بين صراخ عبر أنا المتكلم، وأنين الجماعة الخافت الذي يُبرمه الشاعر عبر مونولوج مطوّل عن بلادٍ ذات «نهايات مشمسة».
يذهب «التكروري» إلى اقتفاء خيط الدم الذي تركته السواطير على جثث الياسمين الدمشقي؛ مستعيراً نمور زكريا تامر في يومها العاشر: «ذلك النمر العائد ليموت في غابتهم؛ كيف لهم أن ينتزعوا براءتها من عينيه؟ وغنجها من مشيته، بعد عشرة أعوامٍ من سياط مدرّب السيرك؟». هكذا يتقدّم «التكروري» من مائدة الشعر؛ مترافعاً هذه المرة عن بسالة قصيدة الحرب ومشروعية خطابها حين لا صوت إلا صوت المعركة؛ تصرخ القصيدة في وجه القتلة؛ متكئةً على توقيتها العاطفي والنفسي عند قرائِها الموشكين على الموت: «عندما تنتهي الحرب؛ سأقدّمُ لكِ كوباً من الكابتشينو الأنيق؛ سأحدّثكِ عن قهوة الجندِ الموحِلة؛ تلك التي يحتسونها في الفاصل بين قصفين جهنميين». في الوقت ذاته لا تغفل نصوص الشاعر السوري توقها إلى كل ما هو شخصي في بنيته المونولوجية هذه، فيدخل الشاعر إلى النص بهويته الفريدة وبمزاجه وبطبيعته النفسية المضطرمة، فمزاج الشاعر هو أساس هذه اللعبة في كل سلوك يختصّ بالنهوض بذائقة الجملة الشعرية التي ينشدها (التكروري)، معتبراً كل قصيدة هي فعل افتداء لعالم يترنّح باستمرار؛ ففي «قلائد لرمادها المغدور» يقول: «سنمضي عميقاً في قشرةِ الوقتِ، نأخذُ ما لنا من شغبِ الأشجار في أعراس الربيع؛ مالنا من سكينة البحيرات؛ عند هبوب المغيب؛ سنمضي من وقتٍ؛ لا برتقال لنا في فجره؛ ولا في غسقه.. سُمّاق». تظل القصيدة في «كلام يعنيني» تعويض عن سعادة غائبة لا تُنال ولا تُطال؛ وعن خساراتٍ خلفتها الحرب كذاكرة موازية؛ حيوية نفسية تنتج الاغتراب كنص يتداول الموت كطرفة؛ حيث يدخل هذا النص إلى قلب القارئ ووجدانه عبر نضارة اللغة التي يكتب بها (التكروري) مقطوعاته؛ غارفاً من معين الحرب ويومياتها الدامية: «وكنا نطلقُ على الريحِ أسماءَ الخيلْ، عرفاناً بالصهيل، أما الجهات فتعنينا، بقدر ما يحتاجه عبّاد الشمس؛ ليقدّمَ فروض الطاعة للذهب السارحِ؛ في عرباتِ (شمش). قبلكم – يا أخوة المعدن، الجهات كانت دوائر، أنتم من سمَّاها؛ وعلى أربعٍ أقعاها؛ لتضعوا إحداثيات المجزرة». هذه النبرة لم يغب عنها إصغاء الشاعر لصوته الداخلي من خلال قصيدة تبني مخيلتها وفق تكوينها العاطفي وسيولتها ودفق مجازها؛ فعلى أساس الصدق في القول الشعري؛ لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ يكون التعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن؛ والمؤسِس لإشراقات جديدة في القصيدة السورية المعاصرة: «أنا السائح في قانون الإيجار، وابن الوطن في قانون الجندية، بائع الآيس كريم في القطب الشمالي، ومعاطف الكشمير في الربع الخالي؛ وأنا الميتُ دهساً الذي استيقظ، على هدير البلدوزر، يزيل قبره، ليمتدَ شارعٌ طويل».
سامر محمد إسماعيل
(دمشق)