«ظلّ الريح» للإسباني كارلوس زافون اقتفاء آثار أبطال متخيّلين دمّرتهم الحروب
- هيثم حسين – كاتب و روائي سوري مقيم في بريطانيا | نوفمبر 6, 2016 | كتب
مجلة الفيصل
يحاول الإسبانيّ كارلوس زافون (1964م) في روايته «ظلّ الريح» الغوص في التاريخ، واقتفاء أثر شخصياته في تنقلاتها بين أمكنة وأزمنة مختلفة، ليلتقط المتغيّرات الطارئة والمستجدّة، والتراكمات التي أنتجتها خلال رحلة العبور إلى الآخر الذي يكون في الوقت نفسه صورة الذات في تمرئيها وتغيّرها. هل للريح أيّ ظلّ؟ هل للكتب أيّة ظلال؟ هل يمكن اقتفاء ظلال متخيّلة لبعض الأشياء والأفكار العصيّة القبض عليها؟ هل يرمز الظلّ إلى أثر ماضٍ ضائع في متاهة الزمن وكهف الذات؟ إلى أيّ حدّ يمكن تلمّس آثار أحداث مفترضة على المرء في رحلته نحو اكتشاف محيطه وعالمه؟ هل يتحوّل الإنسان إلى ظلّ لنفسه وغيره في أزمنة الحرب؟ هل تغدو الكتب مصدر تعاسة لأصحابها، وباعثة على تبديدهم كظلال في ضوء الوقائع الأليمة؟
هذا بعض من الأسئلة التي يثيرها زافون، روايته (نشرتها دار مسكيلياني في تونس بترجمة معاوية عبدالمجيد 2016م) التي يستهلّها بفصل «مقبرة الكتب المنسيّة»، يعود إلى مدينة برشلونة سنة 1945م، يسلّم السرد لراويه الفتى الصغير دانيال الذي يقتاده والده المكتبي إلى مكان سرّيّ، ويطلب منه عدم إخبار أيّ أحد عنه. يتذكّر دانيال أنّه ما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها حتّى اجتاحت الكوليرا البلاد وسلبت منهم والدته. تغيّرت حياة الفتى الذي نشأ بين الكتب، وبصحبة أصدقاء خياليّين يسكنون صفحات الكتب الذابلة ذات الرائحة الفريدة، بعد زيارته لمقبرة الكتب المنسيّة، وهو الذي كان قد اعتاد على حكاية بعض الأحداث الخيالية لروح والدته الراحلة، ويشعر بالأمان وهو يستحضرها ويشركها معه في خيالاته وأحلامه وأفكاره.
لاحظ الراوي وجود عشرات الأشخاص على منصّات المكتبة ودعائمها، عرف بعضهم، بدوا لمخيلته البريئة كأنهم جماعة سرّية من الخيميائيّين يتآمرون على شيء ما في غفلة من العالم. يخبره والده أنّ ذاك المكان سرّ، وأنّه معبد، حرم خفيّ. كلّ كتاب أو مجلّد تعيش فيه روح ما، روح من ألّفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله، وأنّه في كلّ مرّة يغيّر الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته تستحوذ الروح على قوة إضافية. بعد أن تجوّل الفتى دانيال في تلك المتاهة، واستنشق عبق الصفحات القديمة والسحر والغبار، راح يتنقّل بين الرفوف والأروقة التي كانت تشعره بأنّها تعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. لمع في رأسه أنّ كلّ غلاف يحوي وراءه عالمًا لا نهاية له، عالمًا يحفّز النفس على استكشافه، بينما يهدر الناس في الخارج أوقاتهم في متابعة مباريات كرة القدم والمسلسلات، وينفقون المال على جهلهم أيضًا.
طفولة ضائعة
لا يدري إن كان الأمر يتعلق بتأمّلاته أو بالصدفة، لكنّه أيقن أنّه وجد الكتاب الذي سيتبنّاه، اقترب منه بحذر وتلمسه، كان عنوانه «ظلّ الريح» لمؤلف اسمه خوليان كاراكاس، ينكب على قراءة القصة التي يتعلق بها ويغوص في تفاصيلها، ويشعر بها تتحوّل إلى ملحمة معقّدة، رجل يبحث عن والده الحقيقي بعد أن أخبرته أمه قبل وفاتها بلحظات عنه، يناضل بطلها بحثًا عن طفولته الضائعة وشبابه المفقود حيث تتجلى شيئًا فشيئًا ظلال حب ملعون تلاحقه حتى آخر يوم من عمره.
يلفت الراوي إلى أنّ بنية الرواية التي يجد نفسه منغمسًا في قراءتها وأحداثها تذكره بالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة. والسرد متشظ إلى ألف حكاية، وكأنّ القصّة تدخل في معرض للمرايا فتنقسم إلى عشرات الانعكاسات، لكنها تظل محافظة على وحدة بنيتها. وهذه البنية التي يتحدّث عنها راويه في وصفه للرواية المتخيلة هي نفسها بنية روايته وطريقة هندسته لمعمارها الفنّيّ. يرى دانيال أن ذاك الكتاب انتشله من أرض إلى أخرى، أنقذه من عالم غريب، وكأنّه حين أنقذه من مقبرة الكتب المنسية بادله الكتاب وفاء بوفاء، وأنقذه بدوره من عجلة الاستهلاك والتسليع، وحرّر خيالاته وأفسح له مجالًا للتحرّك والتفكير بعيدًا من قيود الواقع وظلال الحرب الكابوسية التي تغرق البلاد.
ينتقل زافون من شخصية إلى أخرى، يسلط الأضواء عليها، بحيث يوحي أنّها استلمت زمام الأحداث، في لعبة تناسل شخصيات لا تنتهي إلا بالوصول إلى المآلات التي يختارها في سنة 1966م، حيث الفتى دانيال يغدو رجلًا خبر كثيرًا من التجارب الحياتية، تعرّف إلى أسرار وألغاز كثيرة في أثناء رحلة بحثه عن روائيه المجهول خوليان كاراكاس، ويكتشف أنه صورة عن ماضيه ومستقبله ربّما. «فيرمين، جوستابو، برسلوه..» وغيرهم من الشخصيات التي تؤثّث فضاء الرواية بأفكارها وارتحالاتها، تساهم بتوثيق شهاداتها عن الحكايات والشخصيات الواقعية المستعادة بصيغ شتّى، ربّما تختلف حكايات مزيّفة في مسعى لتزييف الواقع أو الردّ على التزييف نفسه، وتكون أمام امتحان التاريخ واختبار الرواية. هناك كارلا التي تكشف بدورها جزءًا من السرّ، أو تساهم في شرح بعض التفاصيل المحيطة بالحوادث التي ينبش عنها دانيال، وما أن يمضي الراوي في بحثه عن الروائيّ المفترض حتّى يغدو ذاك الروائيّ نفسه بطلًا في حكايته المتخيّلة عنه، تكون حكاية الرواية هي أهمّ ما يبحث عنه، كما يكون البحث المضني عن شخصية الكاتب المجهولة وحياته وأسراره في ظلّ الاهتمام برحلته واكتشافاته.
شبح وخيال وأسطورة
يستمتع دانيال باختلاق ماضٍ لخوليان الذي يتحوّل إلى شبح وخيال وأسطورة بالنسبة له، ولا سيما حين تعمقه في السؤال عنه ممّن يفترض أنّهم كانوا على صلة به، وكيف أنّه مرّ بعلاقة حبّ مع «بينيلوب»، وهنا يكون إسقاط تاريخيّ، حيث «بينيلوب» الإغريقية حاضرة في حياة روائيّ غامض، عبر افتراضات وحكايات عنه، انطلقت من مقبرة الكتب التي كانت بمثابة شرارة لفكّ طلاسم التاريخ والواقع معًا.
يتماهى الراوي مع الروائيّ المتخيّل الذي يبحث عنه ويتقصّى أثره ويتحرّى سيرته، يتخيّله حين كان في عمره وما إن كان سعيدًا في تلك الأثناء، ويفكر لوهلة أن الأشباح الوحيدة هي أشباح الغياب والفقدان، وأنّ ذاك الضوء الذي يبتسم له كان مجرّد ضوء عابر. ويتمنّى لو أنّه ظلّ لبعض الثوانيّ لعلّه يستطيع التمسّك به. يستنطق زافون شخصياته ليحكي على ألسنتها تنبّؤات عن المستقبل في النصف الثاني من القرن العشرين، من ذلك مثلًا استشراف بطله فيرمين ما سيغدو عليه التلفزيون من تأثير في المستقبل، وهو يصفه بأنّه المسيح الدجال، وأنه لن يعود بوسع الناس فعل أيّ شيء من دون الاستعانة به، وأنّ الكائن البشريّ سيتقهقر إلى العصر الحجريّ، إلى بربريّة العصور الوسطى، بل إلى مرحلة تخطاها الحلزون في نهاية العصور الجليدية. وتراه يعبر عن سخطه وتبرّمه من الاستهلاكية التي تجتاح العالم، وكيف أنّ التسليع دمّر كثيرًا من التفاصيل الجميلة، يصرّح بأسى أنّ العالم لن يفنى بسبب قنبلة نوويّة كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة. يستمع بطله إلى رأي يقول: إنه في الأشهر الأولى من الحرب اختفى الكثير من الأشخاص دون أن يتركوا أثرًا وراءهم، ويتجنّب الجميع التحدّث عنهم، والقبور الجماعية كثيرة، ويغدو معها من المستحيل العثور على شخص مفقود أو قبر له وسط تلك الفوضى الكارثيّة والمقابر الجماعية المنتشرة.
يتبدّى مسعى زافون في التحريض للبحث عن المفقودين والراحلين، وتوثيق حكاياتهم وحيواتهم، وعدم التعامل معهم كأرقام، وضرورة التأثّر لهم كأرواح راحلة ينبغي إعادة الاعتبار لها، كما يظهر مسعاه في تشييد مقبرة للكتب المنسية لتكون عبارة عن مكتبة حياة الراحلين، يدوّن فيها تفاصيلهم وأخبارهم.