عماد أبوصالح في جحيم المعتزل أبوصالح صاحب مشروع شعري له ملامح خاصة ومحفورة باسمه في سجل قصيدة النثر العربية.
قد يكون من المناسب الآن أن ننظر في تجربة الشاعر المصري عماد أبوصالح باعتباره شاعراً عربياً مهما ومؤثراً وحقيقياً، صاحب مشروع شعري له ملامح خاصة ومحفورة باسمه في سجل قصيدة النثر العربية، بعد أن مكثنا أعواماً نتعامل مع شعره وتجربته باعتباره رأس حربة جيل التسعينيات في مصر، وباعتباره إنساناً وشاعراً له من الخصوصية الإنسانية والفرادة، ما قد يتشابه تماماً مع ما يقدمه فنياً بشكلٍ يغري بالانتباه والاندهاش، نموذج للإنسان الوحيد طريد الأيدلوجيات الخائف من كل شيء والذي يعيد تفسير الأشياء وتقشير جلدها فلا يكتشف إلا المرعب والقاسي.
ثم ثانياً هو ذلك الشاعر الذي ينشر دواوينه في طبعات خاصة ومحدودة ويوزعها بنفسه، لكي تكتمل الصورة الأقرب للتعاطي مع الهامشية والظلال في حالتها الأكثر نصاعة، لكن المفارقة أنه كلما أمعن في الابتعاد عن الصورة التقليدية للعلاقة بين الشاعر والقراء والنقاد، الإنسان والآخر، كان حاضراً في متن الحركة الشعرية الجديدة، وفي التأثير كنموذج وحالة خاصة وصادقة، مقروءاً بل ومستنسخاً من أسماء عديدة وحتى اليوم، وكلما غاب بإصرار عن الحضور الإعلامي والمؤسساتي والجماهيري والرسمي، الاستهلاكي بالأحرى، صار مؤثراً أكثر، لأنه يقدم فناً لا يفتقر للصدقية وشعراً يمتلك من الجماليات الفنية ما يقربه من أسئلة الإنسان الخالدة في كل مكان وزمان، ثم جاءت ثورة الاتصالات لتنتشر قصائده على أوسع نطاق ويصير لعماد أبوصالح أصدقاء أكثر مما لو انتوى أن يُحصَّل ويراكم، هو الذي لم يكن ليفعل ذلك أبداً.
والآن وبعد أن مر الزمن باختباراته الصارمة، وهدأت رعشة القراءات المتورطة في الانحياز للتجربة باعتبارها معياراً لشعرية جيل كامل أو أسطرة كل التفاصيل التي تخص التجربة أو الشاعر، وكذلك القراءات التي ارتأت نقض هذه الشعرية والتعويل على خلوها من كل ما كان قديماً يضمن الخلود، على حد سواء، تستوي أمامنا تجربة الشاعر عماد أبوصالح والمكونة من ثمانية دواوين بدأت بديوان “أمور منتهية أصلاً” عام 1995 حتى ديوان “كان نائماً حين قامت الثورة” الصادر عام 2015 على أنها الدواوين التي تقدم شعرية تدلف إلى توجهها ببساطة ويسر، هذا التوجه الذي هو معاداة كل ما هو فخم ومتعال وسامي، والانحياز والتماهي مع الهامشي والبسيط، العاري من كل شيء سواء من البلاغة التقليدية أو اليقين.
يقدم الشاعر إنساناً دائماً ما يخدعك بأنه يشبهك نظراً لبساطة الصياغة ولقرب المفردات اليومية من عالمك، لكنه في الحقيقة يخشى من أن يشبهك يا أخي، إنه يشبه نفسه دائماً وفقط:
“أنا الذي لست أملأ أنبوبة البوتاجاز/ وليس عليَّ أن أحمي زوجة/…/ ولست مضطرًا أن أضاجعها ليلة الخميس/ أو أهديها زجاجة كولونيا/…/ أنا الذي ليس لي طفل/ يبلل مكان فمي على الوسادة/ ويرضع ثدييْ زوجتي/ ويحول قصائدي إلى مراكب”.
هذه النفس الممزقة التي داستها قسوة العائلة والقرية والمدينة و(عانت) ومن ثم (عاينت) ونقلت التجربة من الذاكرة إلى الفن، لتهتك وتفضح وضعية الكبار سواء كانوا من الآلهة أو الزعماء أو الآباء، تبدأ كل صباحٍ بتعرية كل الزيف الذي يحوطها بادئةً بنفسها، لا لأحد ولكن لحساب مرآة مشروخة في آخر الغرفة :
“أنا مجرد متسول/ لكنني / خدمت الثورة / أكثر من الثوار أنفسهم / كيف؟ / خدمتها بعدم مشاركتي /بقيت جالساً على هذا الرصيف أمد يدي للعابرين / مددتها بحماس / بإخلاص وخسة / بكل خبرتي في الوضاعة / أنا لا أحلم بحياة أفضل / ولا أهجر مهنتي / يروح ديكتاتور/ ويجيء ديكتاتور/ وأنا ثابت في مكاني”..
يعبر المقطع السابق من ديوانه الأخير – الذي أراه أكثر دواوينه طرحاً للأسئلة حول ماهية الأفكار والثوابت وحقيقتها – عن موقف ذلك المعتزل من الثورة التي يراها ويشارك فيها ويصنعها ويذمها ولكن وهو قابع في مربعه الضيق، الثورة التي هي محض وهمٍ لأنها حدثت! هو لا يريد ولا يستوعب إلا الحلم بها فقط! إنه يقدم نموذجاً فريداً لعينٍ جائعة على الدوام، نهمة، تتلصص على العالم وتشارك في صياغته، ولكن باعتباره محض فيلم يدور لكنهُ قد لا يخصني بالضرورة، أنا الذي ارتضيتُ ما نسيته الأقدار في حِجْري: أن أفتح عيني دائماً ثم أهز أكتافي بكل ملل :
أريد أن أبقى خفياً خاوياً.. أو على الأصح.. جاهلاً.. أكنسُ روحي
هذا الكائن البعيد عن التفاصيل الزائفة لا يخلو من حكمة، لكنه يصنع حكمته من إعادة النحت والصياغة، على غير مثال، سيما عيونه وروحه فقط :
“مكان نُقَطِ الماء الساقطة / من الثوب النسائي المعلَّق في الشرفة العلويَّة / نبتت شجيرة ..”
إنه يرى أن الحقيقة هي مقلوب ما حولنا لذلك تزحف روحه دائماً وتتسلل ببطءٍ وحذر لتحتل ما تحت السطوح لتكتشف ثم ترسم من جديد :
لا تفلح الطيور التي تعزف لها كل صباح في مصالحة أغصانها على نفسها فكل شجرة معركة خضراء ولكن هذه المعركة الخضراء حين تيبس تكون أداة لسفك الدماء، فكل عصا غصن شجرة وطاولة التعذيب غصن شجرة وكل فرع في الشجرة جاهز لحبل، فـكل شجرة إغراء بحبل مشنقة .
ولا تخلو هذه الذات من مقاربة الرومانسية والحب والحسية كذلك لكنها تقدمها من منظورها هي وبعدستها التي تضيق دائماً لترى أكثر، فترسم مشاهدها من زاويتها الخاصة لنبحث نحن بعدها، رغماً عنها، عن منظارنا وتفاصيلنا نحن :
“ستكونين لابسة قميصاً/ فوق ركبتيك / حمالته واقعة طبعاً على كتفك الأيسر / ومنحنية تغسلين البلاط/ أما أنا فستنزلق قدمي على عتبة الشقة / وينفرط كيس الرمان من يدي/ لا بد أن مسماراً في الباب / سيخلع قميصي/ ولا بد أنك ستسقطين فوقي/ وأنت تمدين يدك لترفعيني / وحين أقوم بعد فترة دائخاً قليلاً / ووجهي موسخ بالماء والصابون / ستكونين نائمة فوق ظهرك/ وعيناك مغمضتان / وقميصك وردة برائحتك/ مكور جوارك ..”
لا يخلو المشهد الموغل في الرومانسية من تحسُّسٍ وخوفٍ وفزع، ما يجعل الأمور تنسحب من كل ما هو معتاد، ويستمر الارتياب وكأنه جزءُ أصيلٌ وثابت وحقيقي ودائم :
“أحياناً تخاف وهي تتذكره / أن يقفز قلبها فجأة / وتلتهمه الماكينة / لدرجة أنها صارت تلبس ثوبين فوق بعضهما ..”
هذه النفس تجعلك تدلف للتعامل مع السماء ومع المطلق، بكل بساطة الصياغة وتداولية الجمل، وبسرد ومشهدية آسرة، وفي الآن ذاته بقدر واضح من الألم والتشاؤم والتساؤل، وهو ما يحمل التأثير من عينك إلى قلبك ثم عقلك :
(في يوم مثل هذا / جلست الحياة وحيدة / وضعت يدها علي خدها/ وبكت بحرقة: / “آه يا ربي/ الناس كلهم يكرهونني/ آه يا ربي/ لماذا تركتني مظلمة بهذا الشكل / آه يا ربي / أنا نفسي لم أعد أرى الفرق بين الخير والشر/ آه يار ..”. ربّنا لما سمعها من سمائه قال لها: “اخرسي /كفى ولولة / أنتِ التي خرَّبتِ نفسك بيدك/ ورغم أنني لم أعد أثق فيكِ / سأرسل لكِ اليوم/ بنتاً جميلة / تنير الطريق أمامك/ لكن إياكِ إياكِ/ أن تنام ليلة واحدة / وعلى مخدتها دمعة”. “هاتها يا رب هاتها / قالت لهُ الحياة / سأضعها في عيني/ توصيني على بنتي!” / الحياة / الفاجرة/ كانت تكذب على الله / وهو الذي يعرف/ متي شرب العصفور / ومتى أكلت النملة/ كان يعلم ذلك/ لكنهُ / أراد أن يرسل لها رسولة أخيرة / لئلا يكون لها أي حجة/ حين يقذفها / يوم القيامة / في الجحيم..).
إنها تقدم نموذجاً للتواصل مع الآخر يكشف وجوه الحياة الخبيئة، كحاوية للعنف والقسوة وصانعة ومؤطرة لهما في صورة فلسفات وأديان وسياسات وعلاقات، هذا التواصل بكل التباساته هو صورة للوجود القاتل الذي لا يمنح البهجة إلا بالدم:
“أنا وأنت /عاريين تحت الماء /في الحمام / فجأة / دون أي مقدمات / تشرحين وجهي بموس الحلاقة / وأنا دون غضب أو ألم / ألوي شعرك على يدي / وأخبط أسنانك في حافة الحوض..”
هنا تتجرد الشهوانية من ضيقها، من ظاهريتها الغريزية، وتتحول لشهوانية جمالية وفنية تمتلئ بالدلالات والمردودات النفسية والاجتماعية فوق بلاغتها الشعرية المتحققة في البدء.
إن الشاعر المصنوع من الألم ومن الخوف والفزع والارتياب يصلح ممثلاً للإنسان المعاصر الذي سحقته العجلات الحضارية والاجتماعية المسننة، ولم يعد يجد ثمة عزاء سواء في الخيال أو الموت، وكلما احتمى بتاريخه الشخصي قفز الحصار القاسي الذي يعصف بروحه لتنتقي من التاريخ الشخصي ما يحوله من حالة الفردوس المفقود إلى دراما الصانع الحي والساخن للجحيم الخام :
“حينما كان أبي يضربها / وتهجر البيت / كنت أتشبث بذيل ثوبها / وأجري في الغيطان / خلف خطواتها المتعجلة / وحطب القطن يخدش خدي/ لم تكن تحملني أبداً / لم تكن تبطئ خطواتها لأجلي / طرحتها السوداء التي يطيرها الهواء فوقي/ غمامة تمطر الدمع..”
عماد أبوصالح شاعر يقدم فلسفته وطريقته في تفسير العالم ورفضه بلغة شديدة البساطة، عارية وشفافة ومتقشفة عن كل ما يثقلها، تمتح من السرد المشعر الذي يُنَحِّي المجاز التقليدي ويقدم استعارات كبرى هي النصوص ذاتها، يقارب أسئلة الوجود والنفس البشرية ومتاهات اللاوعي بالضبط كما يقدم أسئلة العادي والتداولي ويقبض على الشعر في المنطقة الغائمة بينهم، متسلحاً بالسخرية السوداء الحادة من كل الثوابت والرواسب المعرفية والمصكوكات، يكشف مناطق الضعف الإنساني ويعيد الاعتبار للشر باعتباره منهلاً للفن ورسولاً للإنسانية الكاذبة.
https://middle-east-online.com/%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%AF-%D8%A3%D8%A8%D9%88%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D8%AD%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B2%D9%84