هاشم شفيق… هامشياً وحميماً
خليل صويلح
- شاعر الشجن العراقي يقتفي ظلال الأمكنة والأشياء
عاد بعد سنوات النفي بحثاً عن وليمة الحرية، فوجد بلاداً يحكمها البرابرة. «فقدت بوصلتي» يبوح الشاعر الذي يواصل تمجيد الهامش في «حميميات» (دار نينوى). هاشم شفيق، أحد ألمع أبناء جيله، يدعو إلى تجدد قصيدة النثر و«مواجهة العقول المحجّبة» يقف هاشم شفيق على حدة فوق خريطة الشعر العراقي! منذ كتاباته الأولى مطلع السبعينيات، ذهب صاحب الصوت الخاص، إلى المهمل والمنسي والعابر، ليؤثث قصيدته بمفردات الطبيعة والمحسوسات، مستنداً إلى نبرة غنائية خفيضة وشفيفة تنأى عن الهتاف، وتضيء الجوانب المعتمة والسرّية للكائنات. وإذا بمعجمه الشعري يحتشد بأسماء النباتات الغامضة، والأمكنة والأشياء ورنين الصمت. هكذا جاءت مجموعته الشعرية الأولى «قصائد أليفة» (1978)، لتعلن نكهةً خاصةً في الشجن الشعري العراقي. لا ينكر هاشم شفيق اليوم حيرة البدايات، ولا يخفي تأثره بمناخات كانت سائدة عند تبلور موهبته الشعريّة: «لم ألد من شق الحائط، بل تربيت على ذائقة شعرية تركت بصمتها على محاولاتي الأولى، وخصوصاً أشعار البياتي ونزار قباني. ومن ثم تأثرت بأدونيس وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وأنسي الحاج. قرأت هؤلاء وتمثلت بتجاربهم، وربما ظهر شيء منهم في أعمالي الأولى، لأن الشعر كما يقول المتنبي «جادة وربما وقع حافر على حافر». اليوم لم أعد أقرأ لأي من هؤلاء، بل أكتفي بالسياب». في «أقمار منزلية» (1980) و«شموس مختلفة» (1981) و«طيف من خزف» (1990)، دخلت تجربة هاشم شفيق فضاء آخر لتؤكد مغايرتها وانفتاحها على المغامرة والتجاوز والاحتفاء بالألفة ومعاينة الجمال النائم في المنسيّات والإصغاء إلى الداخل. أما مجموعته الشعرية الجديدة «حميميات» التي صدرت في دمشق أخيراً (دار نينوى)، فيمكن اعتبارها تمجيداً صريحاً للأمكنة. أمكنة عبرها صاحب «وردة الحنّاء» (1998) من دمشق إلى بيروت وطنجة وإسطمبول وبرلين. وإذا بالمكان يخيّم على القصيدة، بروائحه السرّية، وبقايا ضجيج مقاهيه وأسواقه، وفتنة حجارته. هناك أيضاً القصائد المهداة إلى الأصدقاء: شوقي عبد الأمير، بول باولز، محمد شكري، آدم حاتم، جودت فخر الدين. إنها وليمة كاملة إذاً؟ يوافق هاشم شفيق: «هناك أمكنة كثيرة في قصائدي، شوارع ومقاهٍ وأسواق ومطارح لا تحصى، فضلاً عن الأصدقاء الذين يجوبون برؤاهم سياق قصائدي». ويستدرك قائلاً: «المكان وحده ليس ميزة، إذا لم يؤثث بالتفاصيل الحياتية والملموسات والمرئيات واستجلاء الرائحة». نصّ هاشم شفيق يعتني بظلال الأشياء والعناصر والكائنات، ما يمنحها بعداً وجدانياً وإيماءات تستدرج الجملة الشعرية إلى ما هو شفيف ورهيف وحسّي، في أقصى حالات التكثيف والتقطير اللغوي: «بقي العطر في كم معطفها. في نسيج الخيوط ارتمى، أرجُ داكن، يترك فتنته في فراغ القماش». وحين تسأله عن الطينة التي يصنع منها قصائده، يجيب: «لست شاعراً تجريدياً أو ذهنياً، وأمقت الذين يلعبون على اللغة ويجتهدون في فقه الميتافيزيق». زار هاشم العراق بعد الاحتلال، فكانت صدمة شخصية وشعرية، تركت ظلالها على قصائده اللاحقة: «حطت طائرة الهليكوبتر على قصيدتي، تفكك البيت وتداعت السطور». ويضيف بأسى «بعد ثلاثين عاماً من الغياب والحنين، وجدت نفسي أردد مع بابلو نيرودا «أنظروا الدم في الشوارع». لقد فقدت فجأة المكان الأول بكل ذكرياته وأحلامه وفقدت ذلك العالم اليوتوبي وطبقاته الضبابية التي كانت تتراكم خلال سنوات المنفى. وبدلاً من وليمة الحرية المشتهاة، وجدت بلاداً أخرى لا أكاد أعرفها، بلاد تعوم في الفوضى والحرائق والبرابرة. نعم فقدت بوصلتي شاعراً، وهي حال شعراء عراقيين كثر. كنت، بطبيعة الحال، من معارضي الديكتاتورية واستبداد النظام السابق، لكن ما يحصل اليوم في العراق أكثر لعنة ودماراً. وما كنّا نتغنى به في المنفى عن الفراديس الأولى، تبدّد تماماً وانكسر الحلم. «الديموقراطية» التي حملها المارينز إلى العراق الجديد أسهمت فعلياً في زيادة عدد البرابرة والقتلة وقطّاع الطرق والجهلة والأفّاكين والظلاميين». الواقع الكابوسي في عراق ما بعد الاحتلال، لم يثنِ صاحب «مشاهد صامتة» (1995) عن خطّه الشعري في الإصغاء إلى الداخل والإيماءة والإشارة والمألوف، وتلمّس مكامن الفتنة في الأشياء والعناصر. وإن اتخذت القصيدة لديه مسالك أخرى على صعيد المفردة والنبرة. «على الشعر أن يبحث ويعاين، ويفحص المهمل والمتنحي والهامشي ويعيد إليه مكانته، فالعالم بأسره، كما يقول ريلكه، هو مادة للشعر. ما أشتغل عليه هو تمجيد المهمل ومنحه النور». ويستدرك قائلاً: «تجربة الهجرة أضافت منابع جديدة إلى قصيدتي، ومنحتها رونقاً إنسانياً، من دون أن تقع في أسر التأثر أو انحسار الجذور الأولى… لنقل إنها مدّنت مفرداتي وعصرنتها، وأشبعتها بجماليات بلاغية جديدة». وطئ هاشم شفيق في ديوانه «غزل عربي» (2001) مناطق محتدمة لم تألفها قصائده السابقة، في ما يشبه الالتفات إلى سلالة شعرية بعيدة، تمتد بمكاشفاتها إلى أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة وشعر الصعاليك. «في تجربتي تلك، حاولت أن أمتح من قاموس العشق القديم برؤية عصرية، وذلك بالاشتغال على المحرّم والمسكوت عنه، وابتكار كيمياء شعرية تعيد الاعتبار إلى الغزل الذي كان أحد الأغراض الأساسية في ديوان الشعر العربي، من دون أن أتجاهل مدوّنات الألواح السومرية القديمة التي تمتلك طاقة حسّية عالية. إضافة إلى مخزون العشق العربي الشعري والنثري منه، سواء كان صوفياً أو إيروتيكياً، وتالياً مواجهة العقول المحجّبة التي تغرق في مجاهل الظلمة». حين عهد إلى الشاعر بمهمّة الإشراف على تقديم مختارات من الشعر العراقي من «كتاب في جريدة»، أثار بعض الانتقادات التي نسأله عنها. ينفي هاشم شفيق أنه أقصى شعراء مهمين، ويرد التهمة محتجاً: «لا يخلو أي عمل أنطولوجي من نقيصة، لكنني في نهاية المطاف، احتكمت إلى ذائقتي وخبرتي في المشهد الشعري العراقي. وقد اخترت شعراء منسيين ومهمشين، لطالما كانوا بعيدين عن المنابر والضوء. عموماً لم أنحز إلى تجربة دون أخرى، ولم يكن لعملي أي أبعاد أيديولوجية أو تصفية حسابات شخصية». ويضيف موضحاً وجهة نظره: «هناك ركام أشبه بالخواطر المبعثرة، يصيب القارئ بالضجر، وخصوصاً في مجال قصيدة النثر التي تقع الآن في الإشكال عينه الذي وقعت فيه قصيدة التفعيلة قبلها. أقصد حال الاجترار وافتقاد الاختراق الجمالي والانحطاط والاستسهال في الكتابة والنشر. وقد آن الأوان أن يأتي من يكنس هذا الركام، ويعيد الألق إلى قصيدة النثر، بالمباغتة نفسها التي جاء بها شاعر استثنائي هو محمد الماغوط». ويرى هاشم شفيق، أخيراً، أنّ المشهد الشعري العراقي الجديد، مرآة للأحوال السائدة في ظل الاحتلال الأميركي للبلاد: «هناك افتقار واضح في المواهب الإبداعية. وإذا عثرنا على موهبة مميزة، فهذا شيء نادر. معظم شعراء اليوم لا يجيدون أسرار اللغة الشعرية، وبناء جملة صحيحة، وهي حال الرواية والمسرح والتشكيل». ويلفت إلى ضعف صريح في البنية الثقافية العراقية، وسرعة في تركيب الحياة الثقافية كيفما اتفق، سواء في الأدب أو الفنون… ذلك أن «المشهد الثقافي العراقي، على وجه العموم، تسوده الفوضى والارتجال، كما تسود العراق اليوم الحرائق والخرائب، وأنهار الدم المراق».