“صلاة لبداية الصقيع” لعباس بيضون الشاعر الذي يربّي قلباً ليتدثّر بكلماته
5 كانون الثاني 2015
يطلّ علينا الشاعر عباس بيضون بنتاج شعريّ مرهف ومتدفّق، فيطرح في ديوانه المنشور حديثًا، “صلاة لبداية الصقيع” منشورات “دار الساقي”، الذي شغل مرتبة متقدّمة في مبيعات معرض الكتاب العربي والدولي الأخير، أسئلة وجودية وفلسفية، عن مراحل النهايات وأسئلتها، يقاربها عبر مزاج نفسي سوداويّ معتم، يتسرّب إلى النص من خلال كلماتٍ تفيض بمفردات الموت ومتفرعاته: “فجأة ينعب غرابٌ فتتراجع الموجة، ولا ندري من أيّ زمنٍ يصعد النعيب المتفاوت كثيرًا مع حجم السنونوة الكبيرة التي تطلقه” (صفحة 15).
يستهلّ عباس بيضون كتابه بنصٍّ يفيض حزنًا، “أربّي قلبًا”، يكشف عن هواجس تحاصره، محاولًا التفلّت منها عبر مواجهتها بشجاعة الفارس المتقدّم نحو المحتوم. يحمل بين أصابعه قلمًا يطوّع به اللغة، وينسج مفرداتٍ، يخيط منها شِباَكًا يحاصر بها القدرَ ويروّضه، لكنّه يجهد لتهيئة نفسه للزمن المقبل، يربّي قلبًا لهذه الساعة، يناديه، فيأتي فورًا على صوته، على رغم أن لا اسم له. لكنّ جسده لا يسنده. يربّي يدًا تبسق أصابعها، وتُنبتُ عليها أزهارًا. لكنّ “الصمت” يبتلع المكان، فيرمي خيطًا فيه، يرمي صرخةً، أسئلةً، ألغازًا، حبالاً ملفوفةً وسكاكين، أفكارًا، لكنها كلّها تختفي في جوفه.
العمل الشعري ينفتح على عوالم من خارج الزمن التقليدي، ينتظر الشاعر زمنًا لم يصل بعد. زمنٌ فيه “الذئاب لا تتنكّر، ونلاعبها كجراءٍ صغيرة. في اليوم الثامن لا نحتاج إلى لحية لطرد الشتاء”.
يقتحم الصقيعُ نفسَ الشاعر، ليعتلي هذا العنوان كتابه. فيتلو صلاة لبداية الصقيع. يتخطّى في محاورته السائد والمألوف، يستدعي عالم المخلوقات الصغيرة، ليحمّلها كلماته- وصيته لنقلها إلى عوالم أخرى. لكنّ البرد يلفّ المكان، ويجمّد الكلام حيث “الغيمة وحمةٌ على جلد السماء” (صفحة 46). يحاصره الموت، يسرق منه الرفاق. يتركه وحيدًا في الصباح، حين “كان التلفزيون أمامي مليئًا بالأموات”. لا يريد للموت أن ينهي رسالته، فيعرض نفسه، أن يكون شاهدًا، لا تتّسع له حدود هذه الدنيا، يبحث عن مكانٍ آخر لا يعرف كنهه، لكنه يشعر بوجوده فيرتقي بانزياحاته سطوح الغيم، فيجول مرتفعًا، مراوغًا، متفلتًا من القيود، ناحية فضاءٍ مترعٍ بالبياض: “أن أكون تلك الغيمة البيضاء الثابتة على بطن السماء. يمكنني أن أمتطيها”. وعندما يجد تلك الكلمة الضائعة ففي مقدوره من خلالها إحياء العالم.
يستعد صاحب “مرايا فرانكشتاين” للرحيل، متخيّلًا مصيره على مشارف النهاية، فلا يستطيع أن يصنع عقارًا للشباب. فالزمن يتقدّم وليس باستطاعته العودة إلى الوراء: “ستكون النمال أول من يأتي. ستحمل لي ذبابة أغنيةً من هناك. ستجدني نحلة على آخر نفس… ستمتلئ الغرفة بهذه الكائنات”.
في قصيدته “نساء الزهايمر”، ينوء الشاعر تحت حمل ثقيل من التجارب، يطرح من خلالها رؤية شعرية إلى المحطات الأخيرة المنهكة، يواجهها بفائض معجمي تفجعيّ. يرسم مشهدية تفوح برائحة الموت والمدافن: “أسماؤهنّ جمعتها النمال بعد أن سقطت كحبات القمح في الثقوب. عقولهنّ نهشتها الطيور… عيونهنّ شاخصات إلى الغيب، والفراغ المعقّم الذي ملأهنّ يفوح باليود. جلودهنّ يابسة لمجاراة السماء. لم تكن الأبدية بعيدة من هنا” (صفحة 51).
يمرّن ذاته على الرحيل: “هكذا تمرّ الحياة، ولا أحد يلتقطها. تمرّ وتخرج ولا تلتفت إلى أحد. الأقارب المحيطون بالسرير لا يتحملون أن يكونوا بهذا القرب من الأبدية” (صفحة 52).
يتوسّل الشاعر في بعض قصائده بلغة متداولة، يبتعد فيها من التغرب، إلى التبسيط الذي يولّد صورًا واستعاراتٍ مدهشة ومشعّة، “حجر يغوص في الذاكرة”، فتستحيل بعض السطور إلى “مشغلٍ للتشابيه” كما عنون إحدى قصائده. وتنمو صورٌ مبتكرةٌ كـ”الغيمة التي نزل منها أولاد على الثلج. والكلمة التي أمطرت كثيرًا فوق الأشجار”، إلى جانب أخرى، يشيّدها بيضون بسخرية، فيطوّع البلاغة خدمة للأفكار التي يطرحها.
يستهلّ صاحب “الموت يأخذ قياساتنا” نصّه “أغادر العشاء مريضًا” ليرى نفسه ينبش القمح وحبّات المطر من جلده. ويلقي معطفه على شجرة سروٍ، ويغادر بلا كتفين (صفحة 64). يفتح طريقًا لـ”تعبر الغيوم بين الصفحات” ويسحب “هذه الجثة من كلّ هذا الركام… أردّ لك رسائلك وأغادر العشاء مريضًا” (صفحة 56).
ينشطر الشاعر في “مقطوعة من حياتي” رجلين، فيعيش حالة انفصام، يستحيل رجلًا يراقب الآخر، يسرق حياته، يعابثه، يتعثّر عنه، يختصره، يقف على لسانه، ليمنعه من الكلام. يستحضر الحادث الذي كاد يودي بحياته، فيقول إنّ نصفه الآخر هو من سقط تحت الشاحنة. لينفي عن نفسه معجزة الحياة. ينظر إلى التلفاز، فيرى نفسه فيه، لكنه ينكره، فالشاحنة التي دهسته نثرته على الشاشات: “جمعتُ أصابعي من عيدان الطريق، وعظامي من الصفيح، ومسامي من قطرات المطر. كابدتُ على الحيطان حيث لحيتي معلّقةٌ كقناع مع شاربٍ صغير، وعينين ضيقتين… كان نصفي متحجّرًا حتى الخصر لكنه لم يكن أنا” (صفحة 16).
يجبه بيضون سلطة الزمن بتطويعه، وهو يقف على مرافئ النهاية، مشكّلًا لوحاته من خيوط الأكفان التي تنتظر من ترتديه، مراوغًا الموت، عبر نسقٍ جديد وجميل، بخفة فراشة حزينة تنتقل عبر الأمكنة، تبحث عن إجاباتٍ شافية لأسئلة مصيرية تختلج في نفس الشاعر- الإنسان وتعذّبه، فتحيله خيطًا من الدخان، وغيمات شفيفات تراقبه من الأعلى، وتتوقف حيث يتوقف.
ينحّي الشاعر الظلمة بيديه، لعلّه يرى نورًا يتيح له رؤية مختلفة، لكنّ العتمة تنظر إليه بوجه مجعّد جدًا، بحيث فَهِم أنّها تحمل فألًا سيّئًا. فتصيح به: عد أدراجك فإنّ هذا النهار لن يعيش طويلًا. النهار قاحلٌ تمامًا، وحين جرحته لم تنزل منه قطرةٌ واحدة. يحاول الشاعر ألّا يخضع، علّه يتعثّر ببعض أمل، يمازح الغيمة، يطلق عليها لقبًا مضحكًا، عسى أن تبدّل رأيها، لكنّها لم تفارق تجهّمها، بل تغمغم “الملك يموت” (صفحة 29).
تزدحم نصوص بيضون بألوان القلق والألم، يوغل في الكشف عن الخوف الذي يختبئ تحت لسان الإنسان وقلبه، يسدل ستارًا من السواد على النفس، مستدعيًا صورًا وإيحاءات وانزياحات متدفّقة مفعمة بالسوداوية التي تعرّي الحقيقة الوجودية، وتكشف عنها سترها المحجوب طوعًا، باحثًا عن الجديد في مقاربة الذات الواعية لمصيرها المرتقب، بقلم خبير مبحرٍ في يَمِّ القصيد، متعمّقٍ في جدليّات تكسوعوالمه، مستشرفًا الغد المحمّل تساؤلات خفيّة، فتتحول لغته من الإشتهاءات إلى العزوف، متدثرة بكآبة تفرد مساحتها على نصّه الجديد.