سليم بركات يغنّي نشيد الأنوثة في «الغزلية الكبرى»
لطالما تجنبت على امتداد العقود الفائتة الكتابة عن سليم بركات. ليس لأنه لا يستحق الكتابة، وهو الذي لفتت تجربته الفريدة والجريئة الكثير من النقاد والدارسين، بل لأن في شعره ونثره من الإشكاليات المعقدة التي يصعب المرور عليها بالسهولة التي يمرّ بها النقد على الآخرين. ولأنّ شعره بوجه خاص يخرج عن التعريفات الكثيرة التي ألحقت بالشعر، سواء في الدائرة العربية أو في مثيلتها الغربية، في معيار التراث العربي الكلاسيكي المرتبط بعمود الشعر وأساليبه المعروفة، أو في معيار الحداثة الوافدة وتمثلاتها العربية المتغايرة. نحن هنا أمام قصيدة خارجة عن مفهوم البحتري الذي يرى في الشعر لمحاً تكفي إشارته، من جهة، وخارجة عن تعريفات سوزان برنار التي ربطت الحداثة بالمجانية والتكثيف والإيجاز من جهة أخرى. ونحن هنا أمام قصيدة ذات نفس ملحمي، من دون أن تنطبق عليها المواصفات التقليدية للملاحم. وأمام لغة تتوالد كالطوفان من شتاءاتها الأم، ومع ذلك فهي تجانب السهولة والترسل العفوي وتتعرض لمقدار وافر من الصقل والترصيع والاشتغال الحاذق على المفردات التي تبدو لشدة جدّتها خارجة للتو من بطون المعاجم. لهذا ولغيره يفرض الشاعر على النقد خروجاً عن المألوف من التقاليد المدرسية والمقاربات النظرية الجاهزة، حيث تقف نصوصه على الضفة المغايرة لنصوص الحداثة العربية المعروفة.
افتتان باللغة
لا أعرف ما إذا كان التحليلان النفسي والاجتماعي للأدب صالحين للوقوف على سر افتتان سليم بركات باللغة إلى حد التولّه. فهم قليلون إلى حد الندرة الشعراء والكتاب العرب الذين احتفلوا بلغتهم إلى حدود جعلها طوطماً وأيقونة ومعشوقة مشتهاة كما فعل صاحب «الجمهرات». فهل أن كردية بركات المجروحة والمصابة في عمقها الوجداني هي التي دفعته إلى البحث عبر لغة الضاد عن موطئ راسخ لروحه المشتتة والظامئة إلى التحقق؟ وهل نفى الشاعر نفسه إلى اللغة بعد أن أسلمته المنافي العديدة التي تنكب أصقاعها إلى مزيد من البرد والتيه؟. قد تكون المقاربة صحيحة أو لا تكون، لكنّ الثابت أنّ بركات ليس مقيماً في اللغة فحسب، بل هو يبدو لشساعة قاموسه وثراء مفرداته واشتقاقاته، كأنه كائن لغوي قبل أي شيء آخر. فاللغة عنده أرض وأم وحياة كاملة وشهوات مؤججة، ودفع للخوف إلى الوراء عبر علو الصوت الذي يعكسه عنوان كتابه «هاته عالياً، هات النفير إلى آخره». فهكذا كان الأمر منذ البداية، أي منذ «كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً»، وإن بالفوران الساخن لدماء الصبا. وهكذا ظل عبر أكثر من أربعين عملاً في الشعر والسيرة سطرت على صفحاتها ملحمة الوجود الأرضي بكل صراعاتها وكرنفالاتها ونباتاتها وأحجارها وحيواناتها واشتهاءاتها الجموح وأفلاكها الدوارة. وإذا كانت بعض أعمال الشاعر ومجموعاته قد نحت باتجاه الحذق البلاغي والجمالي البعيد عن النشيج العاطفي، فهو في عمله ما قبل الأخير «سوريا» يتجاوز الجغرافيا المتصلة بقوميته الكردية ليرثي بلاده الأم بلغة جريحة ومثخنة بالحسرات.
وفي عمله الجديد «الغزلية الكبرى» ينأى سليم بركات بنفسه قليلاً عن مناخات الانكسار والمرارة التي تظلل عمله السابق ليفرد للمرأة، كما هو ظاهر من العنوان، كتاباً كاملاً وسفْراً إضافياً من أسفار الشغف والعشق. واللافت في هذا السياق أن الشاعر لم يتردد في استخدام مصطلح «الغزل» نفسه الذي استخدمه أسلافه الأولون وأفردوا له باباً مستقلاً من أبواب الشعر العربي القديم. على أنه لا بد من الإشارة إلى أن العرب لم يستخدموا المصطلح بدلالاته الحسية والجمالية المحضة بل دمجوا بينه وبين شعر الحب والافتتان العارم بالمرأة. لهذا فهم لم يترددوا في وضع أشعار قيس بن الملوح وجميل بن معمر وسواهما تحت باب الغزل، لا الحب، مع حرصهم على التفريق بين الغزل العفيف وغزل الإباحة المكشوف.
قد يذكّر عنوان «الغزلية الكبرى» بعناوين تقليدية عديدة لشعراء غابرين، لكنّ أحداً لن يستغرب من بركات هذه التسمية ما دامت لغته برمتها قد أقامت تناصاً من نوع فريد مع المنجز العربي التراثي دافعة نفسها باتجاه كشوفات وسياقات تعبيرية تندر مجاراتها. وعلى رغم أن الشاعر يقيم بين ظهراني الغرب وينهل من ثقافاته المتعددة منذ عقود، فهو يبدو أقل تأثراً باللغات الغربية وأقرب إلى معجن اللغة الأم من أي شاعر حديث آخر. ولعلّ كتابه الأخير هو من بين أكثر أعماله ملموسية وإحالة إلى مرجعية حسية وقلبية، ربما لأن موضوعة البوح العاطفي والافتتان بالأنوثة فرضت على الشاعر تلييناً أكثر من ذي قبل لصياغاته التعبيرية وتصعيداً واضحاً لنشيد الولاء لأنوثة العالم، حيث تعاد صياغة البيان الكوني للحب ويعاد تأهيل الروح الذكورية المتكلسة، من خلال المرأة التي اعتبرها لويس أراغون مستقبل الرجل ومستقبل العالم في آن واحد.
لا يعني ذلك بالطبع أن الشعراء العرب الحديثين لم يفردوا أعمالاً مماثلة لامتداح المرأة وإعلائها، إذ نستطيع أن نستدل على ذلك بالكثير من قصائد نزار قباني، وأدونيس- بخاصة في «تحولات العاشق»- وأنسي الحاج في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». لكنّ تجربة بول شاوول في كتابه اللافت «كشهر طويل من العشق» تظل الأقرب إلى روحية «الغزلية الكبرى» ومنوالها الأسلوبي، سواء من حيث الاحتفاء بالمطلق الأنثوي أو من حيث اتخاذ نون النسوة ممراً إلزامياً للولوج إلى أروقة التجربة وأقبيتها السفلية. وليس مستغرباً، تبعاً لذلك، أن يكتب بول شاوول على غلاف الكتاب «سليم بركات هو شاعر الهلوسة الخصبة حاضنة الوساوس والخيبات والكوابيس والقسمات، وعزلات الكائن ووهنه وعجزه وخروجه الأبدي… وكل ذلك لا يعفيه على غير تجريد من جلجلات مجهولة، يجذرها في حواسه وفي خطابه. فاللغة حواس، والمشاعر حواس، والمخيلة حواس، وسليم بركات، على ترحاله بين الأمكنة والفضاءات والتجارب، هو شاعر الحواس بامتياز».
جملة عصبية
منذ السطر الأول وحتى الأخير، وعلى امتداد مئة وخمسين صفحة، تحافظ لغة «الغزلية الكبرى» على منسوب واحد من التوتر وعلى جملة عصبية مشدودة ونابضة بالشغف والافتتان. وعبر الصفحات كلها تمخر «أساطيل» كاملة من الاستعارات والتشبيهات والكنايات التي تتجاوز الشكل البسيط للصور لتتحول إلى فضاء بلاغي وتخييلي ملحمي، لطالما أتقنه بركات في مختلف أعماله الشعرية والسردية. على أن اللازمة المفتاحية «أحبهن» هي التي سمحت عبر استخدامها المكرر بانتظام عقد العمل ومنع السياق التعبيري من التبعثر والانفراط. هكذا يصبح الشعر نوعاً من التعريشات الصورية والرؤيوية المتواصلة التي تتحلق حول بؤرة المعنى وينبوعه الأصلي، فيما يشبه أرابيسك الخطوط المتداخلة أو الدائرة بشكل لولبي على محورها «أحبهن مختلَسات من هدر ما/ من هرير فزع ما/ من مهل يتمهّله الخطر/ …». وليس ما يشي في الديوان بامرأة ما أو بقصة حب بعينها عاشها الشاعر أو لا يزال، بل هناك انصهار تام في أتون النساء اللاهب أو توق إلى التوحد مع نهرهن المتدفق منذ بدء الخليقة وصولاً إلى منتهاها. وليس بالضرورة أن تكون صورة الأنوثة الأبدية وردية وبالغة النقاء لكي «تجرنا وراءها»، على ما يقول غوتة، ذلك أن الشاعر كما نحن جميعاً ينشد إلى الوجوه المتناقضة للنساء، إلى رقتهن كما إلى قسوتهن، إلى وفائهن كما إلى كيدهن «أحبهن غادرات/ يتراجعن إذ لا أتقدم/ ويضربن الأرواح خلسة بكُرات من زجاج/ أحبهن يرسمن ما لا يردْن بإتقان كرسْمهنّ ما يردْن».
ليس من السهل على قارئ غزلية سليم بركات أن ينتزع من بين صفحاتها شواهد وأدلة لبرهنة عشق الشاعر للمرأة في مطلقها الأنثوي. إذ أنه يحتاج أن يستعيد العمل برمته ليقدم البرهان على مزاعمه. كأن كاتب العمل يلج عوالم من معميات ملغزة لا يفضي ولوج دهاليزها إلا إلى مزيدٍ من الدهاليز، وهو ما يسمح له بأن يوزع نفسه بالتساوي بين الوله بالمرأة والوله باللغة التي لا ينفك عن مراودة مجاهيلها وافتراع أصقاعها البكر وابتكار هندستها واشتقاقاتها، وتصريفها على عشرات الوجوه والصور والصياغات.
والشاعر الذي اعتمد النثر سبيلاً له إلى الشعر يعرف، وهو القابض على ناصية الوزن، كيف يشحن لغته بما يلزمها من النبض والتواشج الإيقاعي وكهرباء الشكل والتناظر المدروس بين الجمل، الأمر الذي جعل من عمله الأخير أحد أفضل أعماله الشعرية، والابداعية بوجه عام.