” لن بين المطرقة والسندان أنسي الحاج وقصيدة النثر”

الثلاثاء 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، مجلة تحولات

“أثارت قصيدة النثر في الأدب العربي الحديث، منذ الإعلان عن وجودها، جدلاً واسعاً لدى المبدعين والدارسين والنقّاد، ومبعث هذا الجدل طبيعة شكلها الذي لا يلتفت إلى الأوزان التقليديّة المعروفة (البحور)، ولا إلى التفعلية التي قابلها الخصوم بشيء من التسامح، وربّما كان للسجال الفكري، بين الأنصار والخصوم، دورٌ كبير في إذكاء هذا الجدل، واتهام الذين تبنّوا هذه القصيدة مباشرة، أو خفية، بالقيام بأدوار مشبوهة تجاه تراث الأمة، وفكرها، وعقيدتها. وفي إطار الضجيج الزّاعق توارت الدراسة العلميّة الموضوعية لطبيعة هذه القصيدة التي يطمح أصحابها أن تكون جنساً أدبيّاً قائماً برأسه، مثلما تراجعت إلى زوايا الإهمال، الدّراسة الموضوعيّة للبذور الأولى لنشأتها، وطبيعة تطوّرها، منذ البدايات شبه الناضجة، على أيدي الروّاد إلى أشكال تطوّرها على أيدي أجيال لاحقة، أو محاولة الوقوف عند ملامح نضجها، وعناصر الفوضى التي تجعل المفهوم ملتبساً، والجنس مضطرباً. وليس أجدى على دراسة هذا الجنس: قصيدة النثر، من التصدّي لدراسة رائد هذه القصيدة: أُنسي الحاج”

هكذا تقدّم الشاعرة والكاتبة رانة نزال لكتابها الصادر عن دار الفكر اللبناني والذي يحمل عنوان ” لن بين المطرقة والسندان / أنسي الحاج وقصيدة النثر” وهو دراسة نقدية تتصدر للعديد من قضايا البحث النقدي المرتبطة بقصيدة النثر، فالشعرية وقصيدة النثر، المصطلح والدلالة، فصول يتضمنها الكتاب وتعرض فيها الباحثة الجذور والبدايات التاريخية لقصيدة النثر، ثمّ تخصص باقي فصول الكتاب للشاعر والكاتب الصحفي ” أنسي الحاج” الذي هو موضوع الكتاب، وقد توسّلت الدراسة بالمنهج التأريخي في تتبّع نشأة قصيدة النثر، والمنهج التحليلي النقدي في دراسة نتاج الشّاعر أُنسي الحاج الذي يمثّل صوتاً خاصاً في مسيرة الشعر العربي الحديث، والذي أعلن ولادة هذا الجنس الأدبي في مقدّمة ديوانه الأول: “لن”.

 

وتوصّلت الدراسة إلى أن الشّاعر أُنسي الحاج، قد جعل قصيدة النثر قضيته الخاصة التي أعمل فيها أدواته، وتحدّيه، وقاموسه، وصوره، وتراكيبه، ففتح بذلك، آفاقاً واسعة من المغامرة التي اقترنت لديه بالحريّة…حريّة الإنطلاق بالشعر العربي إلى فضاءات دلاليّة، ولغويّة جديدة، وعدم الارتهان للشكل الشعري المبني على بحور الخليل، والتفعيلة.

ظلّ الخلاف قائماً بين اللغويين والنقّاد حول مفهوم الشعر، وتمييزه عن النثر. ولا يزال هذا الخلاف عثرةً -حتى أيامنا هذه- أمام كل من يُعنى بدراسة الأدب والشعر وسائر الفنون الكتابية.

وفي محاولة للتوصّل إلى رأي يوفّق بين آراء النقّاد -قديمهم وحديثهم- خصّصنا هذا الفصل لعرض بعض الأقوال والتعريفات حول مفهوم الشعريّة والشعر للتحقّق من وجود منطقة تتوسّط الشّعر والنثر، مما يؤكد وجود قصيدة النثر ويعزّز مفهومها.

فما الشعر؟ وكيف يفترق عن النثر؟ وما هي قصيدة النثر؟

تقول الكاتبة :” البحث عن جذور النهضة الشعرية الحديثة في الحركة الأدبية العربية المعاصرة يرتد إلى “القرن التاسع عشر إذ يمكن العثور على تململاتها الأوليّة السّاذجة في بعض ما أنتجه أحمد فارس الشدياق، ونجيب المداد”[1]، ونعثر على تعليق كتبه نجيب شاهين جاء فيه “يظهر أن الشعراء آخر من يفكّر في خلع القديم الخلق والتزّين بالجديد”[2]، الأمر الذي يشي بفكر ناقد يدعو إلى الأخذ من الآخر الغربي والانفتاح عليه عبر فعل المثاقفة، وفي هذه الحركة الأدبية نجد جـبران

خليل جبران من أبرز الداعين إلى التجديد، ونلمس هذا في نتاجه الأدبي، وفي تأثيره على مدرسة المهجر التي يؤكد فيها أحد أعلامها “ميخائيل نعيمة” أن الأوزان، والقوافي “ليسا من ضرورة الشعر”[3]،  وتُوجَت ثورة الشعراء المهجريين على القيود الشكلية، بانفلاتهم من قيود الوزن، والقافية، فإذا بنوع جديد من الشعر يظهر في الأدب العربي يحمل اسم “الشعر المنثور” أو “النثر الشعري” الذي يقول فيه محمد عبد الغني حسن : “وقد يكون في النثر الشعري ما في الشعر من خيال، ولكنه خلو من قيود الوزن والقافية “[4].

وقد وسّع جبران مسافة الشعر المنثور، والنثر الشعري فوضع فيها كتباً كاملة، فكتابة “العواصف” و”البدائع والطرائف”، وكتاب “الريحانيات” لأمين الريحاني أعلى ما وصل إليه الشعر العربي المنثور في عصر النهضة.

ومن أهم الإضافات التي أضافتها مدرسة المهجر لحركة الشعر العبي الحديث أحياؤهم لمفهوم الأدب المهموس، واعتمادها الشعر ككيان عضوي، وتعاملها معه كمتن، ومثل هذه الدعوات ترافقت مع حضّ كالذي مارسه طه حسين بقوله: “لا ضير على الشباب المسلّح بالثقافة، والعلم من التجريب، والخوض في غمار الحياة الشعرية، ليخرجوا بإيقاعاتهم الخاصة”[5]، وحين نأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي مرّت بها الأمة العربية، والانفتاح على الآخر الغربي سواء من خلال البعثات الدراسية، أو من خلال أجهزة الإعلام وحركة الترجمة، فإن هذا المناخ فجّر حركة الحداثة العربية، التي تواكبت مع خطاب نقدي تنظيري يشمل أشكال الحركة الأدبية كلها، ويرفض الحدود الفاصلة بين هذه الأشكال.

وها هي “جماعة أبولو” تنادي بالشعر المنثور، في حين بقيت القصيدة العربية داخل إطار عمود الشعر”[6]. و”المقترب الجبراني بشّر باستعادة الماضي ضمن تغيير لغة الحاضر، معيداً بذلك للنثـر إيقاعه، واضعاً إياه في أزمنة الفعل- الحـركة”[7]، وقد اسـتمر هذا التصعيد

إلى أن وصلنا مجلة شعر اللبنانية، التي فتحت آفاق التجريب الأدبي عن آخره، وفيها نشهد البدايات الحقيقة التي أعلنت ميلاد قصيدة النثر.

المصطلح والدلالة:

قصيدة النثر “ترجمة لمصطلح فرنسي الأصل (Poemeen Prose) وجد لتحديد بعض كتابات رامبو النثريّة الطافحة بالشعر كـ (موسم في الجحيم) و(الإشراقات). وإن تكن لها أيضاً أصول عميقة في الآداب كلها، بما في ذلك العربية، ولا سيّما الدينيّ والصوفي منها”[8].

وقد ألغت قصيدة النثر الوزن، وانبثقت من استفزاز المألوف الشعري في جمعها بين متناقضين في الظاهر هما الشعر والنثر، وقد طرحت منذ البداية إشكالية التسمية، يقول جان كوهين: “مصطلح قصيدة النثر ظاهر التناقض، وعلينا إعادة تعريفه”[9]،  ويقترح تسميتها بالقصيدة الدلالية إذ تنمي الجانب الصوتي، وتكثّف الجانب الدلالي.

كما تؤيّد سوزان برنار مُنظّرة قصيدة النثر الفرنسية، ما في التسمية من لبس إلاّ أن البحث في خصائص قصيدة النثر يؤكد أنها تسعى إلى:-

1-  الاستفزاز المحيل إلى ضدين: قصيدة ونثر حتى في التسمية.

2-  البناء العام المقترن بالفوضى المنظمة.

3-  الإشراق الداخلي المستمد من خصائص مشتركة بين الشعر والنثر، الأمر الذي يُكسب التسمية هوية، ويحدّد دلالات خاصة بهذا الجنس وبالتالي يصار إلى قبولها، وإنما حالها حال كل مصطلح جديد يحتاج الوقت الذي يَمَنحُه تاريخه، ووجوده. وإذ تستند قصيدة النثر على شيء يثبت شعريتها، وفنّيتها، فإنما تسعى إلى إعادة النظر في مفاهيم الشعرية والإيقاع بمفهومه الشامل كونه:-

 

  1. ” الأسبق من العروض إل أن الوزن أشمل.
  2. من الصعب تحديده في أطر لأنه شخصي ومتغيّر.
  3. لا يظهر الإيقاع الداخلي مجسّداً بالإنشاد، بل بالقراءة وما يترتّب عليها من مزايا.
  4. هو مهمة فنيّة، تأليفاً وجمالية، استجابة وقراءة، وتلقياً.
  5. ثراؤه في هدم الأسوار بين الشعر والنثر، للانتفاع بالإيقاعات المختلفة المولّدة عن هذا الهدم.
  6. سيظل الخلاف حوله طويلاً، لأنه مركز تقاطع لعدّة قضايا تجمعها كلمة واحدة، هي الأخرى لم تجد مكاناً في الاصطلاح والمفهوم من مثل: الشعرية.
  7. لكل قصيدة نثر إيقاعها الذي تصنعه المنهجية سواء على المستوى الدلالي أو الصوتي أو التركيبي”[10].

 

وبالمقارنة بين ما حاوله أدونيس في تحديد معايير لقصيدة النثر بقوله:

  1. ” يجب أن تكون صادرة عن إرادة وتنظيم واعية فتكون كلاَََ عضوياً.
  2. هي بناء فني متميّز يفرض نفسه كشيء لا ككتلة لازمنية.
  3. الوحدة والكثافة المحقّقين عبر تركيب إشرافي”[11].

وهي خصائص مستقاة من كتاب سوزان بيرنار، صاغها بلغته، ولم تقترب القرب الكافي قصيدة النثر، وفي الوقت الذي يحسب لحاتم الصكر اقترابه، ووصفه لأطر تبرز المصطلح، وتناقش دلالته. فإننا نحيل أنفسنا إلى كتاباته التي تقترب من قصيدة النثر، ونبحث عن الجذور والبدايات .

البدايات (بدايات قصيدة النثر ):

“في نهاية عام 1957م، تنبّه بعض شعراء مجلة “شعر” إلى نماذج نشرها “محمد الماغوط ” في مجلة المجلة اللبنانية، وكان أنسي الحاج -فيما يبدو- أول من تنبّه لها، وفي شتاء عام 1958، أقام خميس شعر أمسية لـ”محمد الماغوط” كانت بمثابة اعتراف بتكريس قصيدة النثر”[12]، والمحاولات الأولى في كتابة قصيدة النثر كانت على الأغلب “محاولات جورج حنين من مصر، وأورخان ميسر من سورية، ونماذج ألبير أديب في مجموعته “لمن ؟” الصادرة عام 1953م، ثم مجموعة نقولا قربان عام 1955م، ونماذج فؤاد سليمان، والياس خليل”[13].

وقد نشر محمد الماغوط أول قصيدة نثر له عام 1954م، في “مجلة “الآداب” اللبنانية، وكانت بعنوان “النبيذ المرّ”، إلى أن أصدر مجموعته “حزن في ضوء قمر” عام 1959م، فلفت انتباه شـعراء مجلة “شـعر” كما سلف” [14]، أما أُنسـي الحاج فقد بدأ بنشـر بعض ما كتبه

 

أواخر عام 1957 م[15]، وقد علّقت عليه مجلة “شعر” بقولها :” لأنسي الحاج نتاج شعري من نوع جديد” ولم تُسمّ المجلة النتاج في حينها، إلى أن وقع تجمّع مجلة “شعر” على كتاب “قصيدة نثر من بودلير إلى أيامنا” للكاتبة الفرنسية “سوزان برنار” بتنظيره النقدي لقصيدة النثر، فأخذوا عنه.

ويرد “أنسي الحاج” على سؤال وُجّه له عن البادئ بكتابة “قصيدة النثر” بقوله:

“أدونيس هو المنظر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية، ومجموعة “الماغوط”، “حزن في ضوء قمر” صدرت قبل “لن” بعام كامل. لكن “لن” هي أول مجموعة ضمّت قصائد نثر عرّفت عن نفسها علناً بهذا الإسم، وبشكل هجومي، ورافقتها مقدّمة جاءت بمثابة بيان.”[16]، فكانت هذه البداية بمثابة الإعلان الرسمي عن قصيدة النثر.

وبعد عرضها للمصطلح، والجذور، والبدايات تدخل الكاتبة عالم قصيدة النثر عند أنسي الحاج، وتعرّف قضاياه ومضامينه. 
 

[1] غازي براكس، في الشعر والشعراء، العوامل التمهيدية لحركة الشعراء، العوامل التمهيدية لحركة الشعر الحديث، مجلة شعر، المجلّد الأول، العدد16، السنة4، خريف 1960، ص114.

[2] نجيب شاهين، الشعراء المحافظون والشعراء المعاصرون، مجلة المقتطف، يناير، 1902، ص24.

[3] ميخائيل نعيمة، الغربال، ط 1، المطبعة العصرية، القاهرة، 1923، ص95.

[4] محمد عبد الغني حسن، الشعر العربي في المهجر، ط3، مؤسسة الخانجي، القاهرة، مصر، 1962، ص89.

[5] طه حسين، تقليد وتجديد، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 1984، ص40.

[6] الياس خوري، دراسات في نقد الشعر، ط2، دار ابن رشد، بيسان،1981، ص199.

[7] الياس خوري، الذاكرة المفقودة( دراسات نقدية)، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982، ص88.

[8] جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة الثامنة، دراسات نقدية، (د.ط)، المكتبة العصرية، صيدا، لبنان، 1967، ص 19.

[9] جان كوهين، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد المولى ومحمد العمري، ط1، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986، ص91.

[10] حاكم الصكر، ما لا تؤديه الصفة، ط1، دار كتابات، بيروت، لبنان، 1993، ص37.

[11]  أدونيس، في قصيدة النثر، مجلة شعر، المجلد 4، العدد 14، ربيع 1960 م، ص 81.

ِ1 سامي مهدي، أفق الحداثة، وحداثة النمط، مرجع سابق، ص27.

2 سامي مهدي، المرجع السابق، ص 26.

3 سامي مهدي، المرجع السابق، ص 52.

1 سامي مهدي، المرجع السابق، ص 54.

[16] هاشم شفيق، حوار مع أنسي الحاج، مجلة الوسط، العدد 91، 25/10/1993، ص62.

في هذا القسم ايضاً