السيرة بوصفها كتابة عابرة للأنواع…“نسيج الحصارات” أنموذجاً
عبدالله زهير
في كتاب “نسيج الحصارات” للكاتب والفوتوغرافي البحريني حسين المحروس-الصادر سنة 2020 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بغلاف أنيق وورق فاخر في 352 صفحة-إعادة اكتشاف لشخصية لها أثرها العميق في التاريخ الاجتماعي والسياسي المعاصر في البحرين، فيما هي إضاءة على تشابكات حقبة تاريخية تكاد عتمتها ماثلة حتى اللحظة الراهنة، ولا سيّما تاريخ الهامِش المُعارِض الذي يَعصف به القمع والحجب والتبخيس والازدراء. الكتاب يبدو للوهلة الأولى من كتب التراجم(البِيوغرافيا)، إذ يتوغل في أضابير سيرة رجل الدين والسياسة البحريني المعارِض الشيخ عبد الأمير الجمري المُتوفى عام 2006، إلا أننا إذ نتعمق قليلاً في قراءة الشكل واللغة والرؤية والمضمون نجد أنه يستبطن في أنساقه النصية والبصرية كثيراً من الحكي المتعدد الأصوات والمسارات، ناهيك عن الكثير من السرديات التي تستقرئ إشكاليات العلاقة المعقدة بين البنية السياسية الرسمية وبين البُنى المعارِضة في البحرين، ماضياً وحاضراً، في جانب آخر لا تُغفل البُعد المُستشرف في أفق انسداداتها وانكساراتها ومآلاتها.
في المُحصلة شكّلت هذه المزاوجة الرهيفة بين الاشتغال التوثيقي على التاريخ الفردي وبين الإبداع في ابتكار السيرة عاملاً حاسماً في إحداث الفارق، وفقاً لمعايير وميكانيزمات أدبية أضفت حيويةً سردية عالية التدفق على العمل بمجمله، ليتخذ بذلك مساراً مُختلفاً ومفارقاً لأطر أشكال السِير التقليدية؛ نتيجةً لتوافر عناصر الشكل الأدبي الحديث العابر للأنواع، منها: جماليات اختيار العتبات النصية، ودقة هندسة الأجزاء والفصول بحساسية جديدة، وإحكام صياغة اللغة وتراكيبها، وتوظيف المخيلة، وتشعير السرد، واستخدام التشكيل البصري والخطي في فضاء الصفحة، ناهيك عن إعادة منتجة الأحداث وإخراجها من خلال استثمار الشكل اللاخيطيّ(الشبكي) في السرد وفقاً لاستراتيجيات التقطيع والتقديم والتأخير والاسترجاع(Flashback) السينمائية. ثمة مواد خام تتشكل من اللقاءات الشخصية التي أجراها المؤلف مع زوجة الجمري وأولاده وعدد من أقربائه وأصدقائه، إضافة إلى الكتب والمخطوطات (بعضٌ منها قد كتبها هو نفسُه أو ابنُه منصور رئيس تحرير جريدة الوسط الموقوفة عن الصُّدور)، وكذلك الصور وأرشيف بعض الصحف والمجلات. كل هذه اِستعان بها الكاتِب، لا ليعطيَ سيرةً مبتسَرةً جامدةً أحاديةَ الشكل والرؤية، بل ليُشكِّل فضاءً روائياً ورؤيوياً متحركاً تتضافر في نسيجه البِنيات النصيّة المصنوعة بإتقان وتمهّل. فهو، بهذا المعنى، فضاء يتورط فيه تاريخ الفرد بالتاريخ الجمعيِّ بشكل يُماهي الأبعاد السردية والتصويريّة بالأبعاد الوثائقية التسجيلية، مما عمّق ركائز الصدق الفني للعمل بوصفه متكِئاً على سردية أحداث حقيقية وقعت، وما تزال أحداث مماثلة لها تقع في الحاضر، ربما بشكل أقسى مما كانت عليه سابقاً. إنه أشبه ما يكون بكولاج سِيَري (بِيوغرافي) منسوج بإحكام العاشق لتفاصيل الحياة الصغيرة ذات الدلالة الهائلة، في الوقت الذي يأتي نسْجُه مدموغاً بمثابرة السارد ومزاج المُصوِّر والتقاطاته، متخفّفًا من إكراهات الأشكال المسبقة.
تتقدم الكتاب عتبةٌ أولى بعنوان “إلا بيوت النسّاجين مضيئة”، وفي هذا الفصل القصير تتسلل بعفوية التناص بعض ملامح من رواية”سِماهُوي”2017، تلك القرية الأسطورية المُتخيّلة، حيث استكنه حسين المحروس في خضمّها من خلال لغة سردية/شعرية طازجة فلسفة المنفى والهجرة عن هذا المكان الوديع الذي يمتزج فيه الإنسان بالطبيعة. “سِماهوي” هنا في كتاب”نسيج الحصارات” تتقاطع، بمعنى من المعاني، مع قرية “بني جمرة”. بدا هذا واضحًا منذ الصحفةِ الأولى حيث يزخر وصفُ المكان بعناصر البحر والزرع، كما تتجسد القدرة على استنطاق الطبيعةِ التي تتشارك مع إنسانها المنغرس في أحشائها:” قيل إن الناس تكاثروا وصارت التلّة قريةً، لكنّهم بقوا فوقها، ينزلون منها في النهار إلى بساتينهم، والبحّارة إلى مصائدهم، لا يصعدون إليها إلا عند سُلوم الشمس، ومن يتأخر منهم يتفقدونه خوفاً من الناس لا من الطبيعة…”(ص11).
ثم تتوالى مباشرةً فصولٌ خمسةٌ حاملةً عنوان “الحِصار“-بالبنط العريض-بشكل متسلسل من الأول إلى الخامس، مذيلاً في أسفله، بمسافة ضئيلة، بعنوان فرعي -بالخط الرقيق- يحدِّد بداية تأريخ كل حصار وأسفله مباشرة بالبنط نفسه مدته الزمنية، وكأن انزياح تسمية الأجزاء من الشكل السائد(الفصل الأول،،،إلخ) إلى الشكل الجديد الذي اقترحه الكاتب(الحصار الأول/1-15أبريل 1995/خمسة عشر يوماً،،، إلخ) يُعبّرُ عن جنوح نحو إدخالنا في أجواء استكناه حالة الحصارات وشحذ الانتباه إلى أن شيئاً غير عاديّ يحدث في هذه البؤرة الزمكانية الضاجّة بالأسئلة والحَيرة والخوف. كما لو أننا إذ نبدأ الدخول في النص نتوغل في تضاريس الحصار وتداعياته، متورطين في احتمالاته بوصفنا جزءاً لا يتجزأ من المحاصَرِين أو المحاصِرِين. ويتبين ذلك عبر جملة تتردد على لسان الشخصية المحورية في النصّ:”-ألم أقل لك أن في هذا الليل يصير أمرٌ غير عادي؟!”(ص20).
ما يُلفت في هذه الفصول هو الذكاء المستنِد على الخِبرة في توظيف البُعد التيبوجرافي (Typography)، في الانعطافات المُباغتة لاتجاه السرد، من حالة إلى حالة أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر. فحينما نستغرق في قراءة مأساة الحصارات الخمسة عبر رواة متعددين داخليين شهدوا صدمة الحدث من أقرباء الجمري-زوجته وبعض أولاده تحديداً-، تنتقل دفة المشهد فجأةً وبشكل متقطع، باستخدام تكنيك الاسترجاع إلى أجواء زمكانية ونفسية مختلفة، من خلال سرد تاريخ العائلة في بدايات القرن العشرين، وكذلك منعطفات احتكاك الجمري بشؤون الحياة والسياسة. إلا أن تبديل نوع الخط وحجمه وترك مسافة أكبر في الحاشيتين اليُمنى واليُسرى في الفقرات الجديدة يُعطي انطباعاً بحصول هذه الانتقالات المُكَسِرّة لرتابة السرد، بعد أن كسّرت جمود الخطوط الطباعية وثباتَها أولاً.
ثمة ما يشي بقلة الخوض في دور التكوين الديني وإشكالية تماهيه بممارسة السياسة في شخصية الجمري، ولكن المحروس يُتقن-إجمالاً-كيف يلتقط جذوة تفصيلة الحدث بعُمق، وهو القادم من ورشة الصنعة السِيَرية/السردية/البصرية. في تجربته هذه يُثبت أن الوثائق لوحدها لا تصنع سيرةًعميقةً. موهبة الكاتب، وشغفه، ومعرفته، مجتمعةً تفعل ذلك.
نشرت في نشرة المنبر التقدمي العدد ديسمبر2021