ظواهر في راهن الحركة الشعرية في البحرين

  

عبدالله زهير

نُشر في جريدة القدس العربي

السبت 8 مايو2021

ليس جديداً القول بأن ثمة تحديات وأسئلة وإشكاليات يُفترض أن يطرحها (الشعراء) على تجاربهم الفردية وحراكهم الشعري في أي بلد، ومنها البحرين بصفتها جزءاً لا يتجزأ من الفضاء الشعري العربي خصوصاً والكوني عموماً. هذه الأسئلة تتصل بالتحولات الهائلة التي جرت وتجري أحداثها تباعاً مع حضور التقنيات والوسائط الحديثة عند الأجيال الجديدة، حتى أصبحت لدينا سيولة متضخمة من النصوص بحكم سهولة وسائل النشر ويسرها. انطلاقاً من الإمعان في التشديد على أهمية النقد الجذري لكل ما يجري في داخل هذا الحراك الشعري (ثمة من لا يتفق مع مفهوم “الحراك”، على اعتبار أنه أقل مستوى من ذلك، إذ هو مجرد نشاط متواضع من ناحيتيْ التأسيس المعرفي والرؤية الفنية) سأحاول رصد بعض الظواهر في راهن الحركة الشعرية في البحرين، مع ارتباطها بالأسئلة التي ينبغي أن تتجدد لكي نتبصر بقلق مسارات ومآلات وحضور الحالة الشعرية مستقبلاً، ولا نركن إلى كسل اليقينيات المسبقة.      

ربما، في بداية الألفية الثالثة، كان لبعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية أثرها غير المباشر في تحريك المشهد الشعري في البحرين. وأظن أنه كان يشي بالنشاط والحيوية والديناميكية والطموح نحو مزيد من التجديد والحداثة. ولربما كان لمساحة الحرية المتاحة دور في تنشيط الحراك الأدبي عموماً والشعري خاصة، سواءً على مستوى الفعاليات والمهرجانات والورش والمنتديات المفتوحة على الجدل والبحث والتنظير والنقد الرامي إلى الإضافة والاستسئال والحوار أو على مستوى النتاج الشعري والنقدي المطبوع والمنشور والمتداول إلكترونياً. إذ بجانب الشعراء الطالعين قبل فترة سنة الألفين، وبعضهم من المُكَرَّسين عربياً كقاسم حداد مثلاً، برزت صفوف من الشعراء الشُّبّان مع تفاوت وتباين في المستويات في نواحي اللغة والإيقاع والمضامين والرؤية. وينبغي الإشارة إلى تلكؤ بعض من بدأ بعد تلك السنة أو قبلها بقليل وتوقفهم عن الكتابة والنشر في ظاهرة يمكن أن نطلق عليها (الاعتزال الشعري المبكر). ولنا أن نؤشر على نماذج يمكن أن تنضوي في دائرة هذه الظاهرة المقلقة، بصفتها تتشكل نتيجة لظروف نفترض ضرورة البحث بها في سياق مستقل. وكان نتاج هذه المجموعة يهجس بموهبة جيدة الإمكانات، لو تسنى لها أن تنضج وتستوي على نار المثاقفة والمعرفة وخبرات الحياة المتراكمة لكان لها شأن آخر فيما نحسب، كحسين فخر(أصدر ثلاثة كتب شعرية) وأحمد السترواي(أصدر كتابين) وزينب المسجن التي اكتفت بكتاب شعري يتيم(هياكل المطر). ومن هؤلاء مَنْ قد تنضوي تجاربهم  في جزء منها تحت ظاهرة “شعراء الظلّ” التي أشبعها  الشاعر والناقد علوي الهاشمي تنظيراً ومقاربةً عبر تناول نصوص عدد من الشعراء السعوديّين فحسب، من دون امتداد التحليل التطبيقي إلى شعراء بحرينيّين.   

والآن، منذ ما يقارب العقدين من الزمن، جرت تحولات كثيرة، وبعضها قد يُعَدُّ إيجابياً ينهض بجسد الشعر وروحه، والبعض الآخر مضرّاً للشعر بصفته صناعة فنية معرفية متماهية بالبُعد الوجودي والكياني للإنسان المعاصر، لا مجرد هواية لتفريغ العواطف والمشاعر المكبوتة. إذ صرنا ننظر إلى الفعل الشعري كآلية للفضفضة الكتابية، أو كمدونة للبوح الغرائزي والوجداني دون أن يُتجاوَز هذا المستوى إلى أبعد منه. ثمة وفرة هائلة في الفعاليات التي تتضمن الإلقاء الشعري وفي النشر الورقي والإلكتروني، ولكن حضورالكمّ لا يعني بالضرورة حضور النوعية بمقدار لا بأس به يتناسب مئوياً مع حجم الكم. لا مصادرة لحق أحد في الكتابة، إذ لا يجوز أن نمنع الطفل من أن يخربش ويرسم بحرية لا نهائية، إلا أننا نقصد أن نسأل: هل ظاهرة “الانفجار النصيِّ المهول” أنتجت لنا في المحصلة نصوصاً لها اتجاهات واختراقات بارزة قادرة على إقناع القارئ المهتمّ بنضجها الفني واكتمال عناصرها ومكوناتها؟ وهذا السؤال يجرنا إلى سؤال آخر حول أفق ما يكتبه بعض الشعراء بالطريقة التقليدية السطحية بجميع الأشكال، وإن كان الموزون العمودي هو الأكثر بروزاً، إلا أنه ثمة من يكتب بنسق تقليدي حتى وهم يكتبون ما يُسمى بالتفعيلة وشعر النثر، وتلك لَعمري مفارقة عجيبة! وهناك بعض من المثقفين العرب يرون -بنمطية مفرطة- أن منطقة الخليج تعجّ بظاهرة جرّ الشعر إلى مفهوم المدارس التقليدية ومنطق السوق المبتذَل والمعتمِد على الترويج الإعلامي فحسب، وكأنما مجتمعات الخليج كتلةٌ صمّاء لا اتجاهات أدبية متنوعة تتنافس في الهيمنة بداخلها كما هو حال بقية البلدان! بتعبير أدق يعتبرونها آخر حصون الدفاع عن هذا النوع الشعري الذي لا أفق له على المستوى الحضاري والحداثي، ولكننا نغفل أن تجيير الشعر للأطر التقليدية حاضر بقوة وله مؤسسات ثقافية رسمية وأهلية تدعمه وتُروِّج له من خلال المهرجانات والمسابقات والمناشط حتى في جغرافيات كنّا نعتبرها المراكز الثقافية العربية الكبرى كالعراق ومصر وسوريا ولبنان، ناهيك عن حضوره في بعض بلدان المغرب العربي. صحيح أن مسألة صراع الأشكال ينبغي لنا كأجيال شعرية جديدة أن نتجاوزها، غير أنه يجب أن لا ننسى أن مدى حداثة المشهد الشعري وحيويته يعتمدان بالضرورة على صيرورة النظام الثقافي والمجتمعي والحضاري لكل شعب. وظني أن ظاهرة النكوص إلى حالة الإطراب والتقليدانية راجعة إلى درجة الوعي الشعري عند النخبة المثقفة عامة والمهتمة بالشعر خاصة. صحيح أن ثمة أصوات كثيرة من هذا النوع ربما تتصدر المشهد الشعري في البحرين، وتغطّي إعلامياً على الأصوات الناضجة والمنشدة نحو الحداثة، ولكن لا ننسى أن الزمن كفيل بغربلة التجارب وإبقاء القادرة على الاستمرار في تطور رؤيتها ولغتها وصيرورتها وقابلية تلقيها من قبل المتذوقين من ذوي الثقافة الشعرية العميقة المتجددة. إذ لم يبق الآن من تجارب ما بعد الألفين على تفاوت وتباين في مستويي الكَمّ المُنتَج وجودته سوى القليل، كأحمد رضي ومهدي سلمان ووضحى المُسَجَّن وسوسن دهنيم وفاطمة محسن وعلي الجلاوي وجاسم حاجي وبروين حبيب وأنيسة فخرو. وهذه مجرد أمثلة قد تنضوي إلى جانبها أسماء أخرى، وبعضٌ منهم قد اكتفى بنشر كتاب واحد فيما أخذ ينشط في النشر بالمجلات والمنصات الإلكترونية إضافةً إلى حضور فعاليات القراءات الشعرية ككريم رضي مثلاً.

في العقد الثاني من الألفية الثالثة جاءت خضخضة ما يُسمى بالربيع العربي، وأدخلت المجتمعات والأنظمة والنخب المثقفة في مختبر هائل. وكان للبحرين نصيب وافر من ذلك الاختبار والاهتزاز غير الهيّنين. وكان أنْ طلعت مجموعة من التجارب الشعرية المختلفة عمّا يعتمل داخل خضم الظواهر الشعرية المثقلة بالتقليد شكلاً وتجربةً كما أشرنا. ومن هذه التجارب: كاتب هذا المقال، وجعفر العلوي، وملاك لطيف، وبتول حميد، وحسين أبو صفوان، وجنان العود، وسميّة جميلي، ومُنى الصفّار، وعلي العنيسي، ورنوى العَمْصي، وإيمان سوار، وسيد محمد شُبَّر. مع تفاوت بينهم في المستويات الفنية.  وبصراحة، إن أمامها تحديات حقيقية إن كان لها إرادة إرفاد التجربة بما يحقق لها موطأ قدم في صيرورة الحركة الشعرية في البحرين. إنها في الغالب تنتمي إلى ظاهرة “شعراء التشظّي”، إذ تشتغل كجزرمعزولة لا يجمعها مشروع جدليّ ورؤيوي متقارب، وتفتقد إلى ظاهرة “الاجتماع الشعريّ”، وكانت هذه الظاهرة رافعةً من ناحية الوعي والنضوج الشعريين لأجيال سابقة في السبعينيات وما تلاها. أكاد أقول أنها في موقع الهامش المستكين إزاء هيمنة المُوَجِّهات الاجتماعية والأيديولوجية على أغلب التجارب المتصدرة للمشهد. ولكن إلى أي حد يشكل هذا بُعداً إيجابياً لها ينبغي أن تستثمره بكيفية ذكية، إذ يتكئ الشاعر حينئذٍ على دواخله لا على أي شيء خارجي في إثبات تجربته، كما يتوفر على مساحتَيْ حرية وحَيْرة أكثر يوفرهما له الهامش بالإنصات إلى صوت أعماقهم لا إلى صوت النظام الجمعيّ، مما يفترض به أن يُنعش حيوية الحالة الشعرية لها كأفراد. ولكنها كمجموعة أظن عموماً أن ثمة ما يشير إلى ضعف واختلال وارتباك في صيرورة تجاربها الكتابية، خاصة عندما تتعلق المسألة بالبُعد المعرفي في إثراء هذه المواهب الجديدة. وهذا مبحث آخر ذو شجون له مكان آخر من التفاصيل.