إضاءات على الأزمة الكونية
عبد الله زهير
لا أظن -ونحن في خضم هذه اللحظة الإنسانية المريرة والمعتمة تحت وطأة الجائحة-أن الحديث عن الشعر والثقافة والأدب والفن ترف ورفاهية بلا لزوم. هذه الأبعاد، في هذه اللحظة بالذات، يجب أن تكون في صلب اهتمام النظم البشرية لضرورتها، ولأنها ترتبط أشد الارتباط بما شهده العالم ويشهده من ويلات وفجائع وكوارث طوال العقود الأخيرة.
ولكوني أكتب الشعر (أو هكذا أزعم) فلزام عليّ أن أقرأ ما أصل إليه من مواد نصية في الكتب والمجلات والملاحق الثقافية، في جميع الحالات والظروف ومنها ظرف الجائحة الكونية. أظن أن على الكاتب ألا يميل إلى فلسفة الامتلاء التي تدّعي فيها الذات المتضخمة بأنها وصلت إلى حد الاكتفاء المعرفي وأنها ليست بحاجة إلى آخر يُغنيها. ولذلك فالمثقف، وخاصة الشاعر، أحوج ما يكون إلى منابع معرفية وقراءات يومية تعينه على إثراء التجربة وتجلية الشروخ والأعطال والأعطاب والثقوب في الصيرورة الإنسانية، سعياً إلى رتقها والتئامها. وبالتالي عليه ألا يكف عن ممارسة الفضول المستمر إزاء تجليات مجرة الحياة الهائلة وتحولاتها.
على المستوى الإنساني ثمة من الأبعاد القاتمة السلبية في أزمة الجائحة الراهنة ما أثقلني مزاجيا ونفسيا، لا سيما ما يخص أعداد الوفيات والإصابات كلَّ يوم حيث أصبحت الأرقام تتوالى وتسيطر بشكل تراجيدي مخيف على مشهديات الإعلام طوال الفترة الماضية، كما لو أن العالم بأسره انحشر داخل مسرح من مسارح أفلام الرعب أو الخيال العلميّ. في المقابل (مع الاعتذار لأرواح الضحايا ولكل من عانى وقاسى جراء هذه المحنة العظيمة) تتجلى في السردية الكبرى أبعاد إيجابية يمكن الإشارة إلى بعض منها، سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الثقافي العام. في فترة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي لاحظنا كيف أن معدلات القراءة لدى المجتمعات العربية ازدادت نسبيا، حيث أشارت الكثير من دور النشر إلى ارتفاع الطلبيات بواسطة خدمة التوصيل إلى المنازل، وهو ما يمكن أن يُشير إلى أن ظروف الأزمة في المنحى الآخر وفّرتْ فائضَ الوقت للاطلاع والقراءة، وقد كان ذلك الوقت الفائض يُستنزف في أماكن العمل والترفيه والتسوق الاستهلاكي. شخصياً، كان يهمني أن أغتنم الفرصة لقراءة المزيد في مجال الأدب عموماً والشعر خصوصا. كنت مشغوفاً بالاطلاع عميقاً على المشاهد الشعرية في الجغرافيات العربية المختلفة وفي دول المهاجر والمنافي المتعددة. ولنغتبط ونشعر بالارتياح كجيل رقمي على هذه النعمة التكنولوجية السائلة علينا، إذ صرنا قادرين على الحصول إلكترونياً بسهولة وسلاسة وأريحية على أغلب ما يُنشر من كتب ومجلات وملاحق دورية تصدر في مناطق بعيدة جغرافياً، غير أن الشبكة العنكبوتية تجعلها قريبة في متناول الأيدي والأعين. لقد تابعنا هذا الكم الهائل من الفعاليات الافتراضية بشتى أشكالها وأنواعها على شاشات أجهزتنا الذكية. هذا غيض من فيض الإمكانات والطاقات والمساحات التي من المفترض أن توفرها لنا تلك التقنيات الرقمية التي كانت مجهولة بنسبة كبيرة للمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية. صار التواصل وتدبير الحياة التربوية والثقافية والأدبية وحتى الصحفية والسياسية تتم، في زمن كورونا وربما ما بعدها أيضاً، عن بُعد عبر الآلات التكنولوجية التي كنا دائما ما نشيطنها ونصمها بأبشع النعوت، إذ لم نكن نرى فيها إلا وجوه تعزيز التوحش وتحجر المشاعر والاغتراب اللاإنساني، لكن هذه الجائحة أبرزت الوجه الإنساني الآخر لها، لِما توفره من إمكانات التواصل والتعارف والجدل الفلسفي والإنساني الحميم، ولِما تتيحه من إنجاز إيقاف انتشار المرض أو على الأقل إبطاء سرعة تفشيه وانتشاره، كما لو أن الآلة هنا ستشتغل بالضد من منطقها المنجز للسرعة، حيث غالباً ما نصم عالمنا هذا الذي هو عالم التكنولوجيا بامتياز بأنه عالم السرعة.
ثمة أيضا عتبة أخرى أيضاً لاستخلاص الدروس والعبر من هذه الأزمة الكونية أراها غاية في الأهمية بالنسبة لمستقبل الحياة الإنسانية على كوكب الأرض الذي تتهدده الأخطار، وأقساها كما يُلوِّح لنا علماء البيئة(الإيكولوجيا) هي مخاطر “التغير المناخي”. ومن هنا تأتي الضرورة البشرية لحسن التعامل مع الطبيعة.
لعل المضيء في هذا الفيروس المجهول أنه كشف عن الحاجة الماسة إلى العلم (والأدب بنظري جزء لا يتجزأ من هذا العلم) والاهتداء بما يتوصل إليه من نتائج في هذا المضمار أو ذاك. ترى غالبية الباحثين أن هذا الفيروس اللامرئي هو أحد تجليات قوى الطبيعة بخفاياها الغامضة واللانهائية. ذلك لأن الطبيعة لها أيضا طابعها المتأرجح الذي لا يمكن لأفق التوقع الإنساني أن يجاريه. وهذا يعني أن التطاول على هذه الطبيعة بشتى ضروب التخريب والإفساد والتلويث-خاصة ونحن نرى في عصر الفوضى السائلة استفحال الجشع والتوحش اللاإنسانيَيْن إزاء مكونات الطبيعة-لا يمكن أن يمر من دون تَبِعَات وأثقال وأزمات قد تُغيّر مصير الحياة على كوكبنا الجميل.
هل كان هذا الفيروس بمثابة رسول أطلقته الطبيعة ليبعث إشارات التنبيه والتحذير لئلا نتمادى في العبث؟ هل هو مرحلة كاشفة لهشاشة الإنسان والمجتمعات ما بعد الحداثية ولاستشراء غياب البُعدين الثقافي والأخلاقي من برامج التدبير البيئي والسياسي والاقتصادي والصناعي؟ ربما.
نُشر المقال في ملف لمجلة البحرين الثقافية العدد 102،بعنوان : مبدعون حول أزمة كورونا