ثقفنة الخطاب السياسي
عبدالله زهير
يقول المأثور العربيّ المشهور: ” السياسة كِياسة”.
هذه الجملة البسيطة المكونة من كلمتين تختصر معانيَ جليلةً ودلالات عميقةً لو أخذ بها السياسيّون في العالم أثناء ممارسة خطاباتهم السياسية؛ لتحاشوا الكثير من الإخفاقات التي تعتري حياتنا المعاصرة من ألفها إلى يائها. يقابل هذا المثل مقولةٌ شعبوية تتردد على الألسنة دائمًا:”السياسة نجاسة”. أي أنَّ مُمتهنيّ السياسة محكومون حتميًّا بالدخول في الأساليب المتوحشة والقذرة واللاأخلاقية، خطاباً وممارسةً، كالكذب والتلفيق والتزوير والنميمة والسرقة والتملق والمداهنة والفساد…ألخ.
ما يعنيني هنا أن أستكشف المقولة الأولى التي تنظر للسياسة بوصفها كِياسة لا نجاسة. لو أردنا الدقة والتمحيص، لقلنا:انتبهوا إلى المفهوم الحصيف التي تنطوي عليه هذه الجملة الساحرة الباهرة المكتنزة بالعِبر والرُؤى والنواميس. السياسة كِياسة، أي أنّ السياسة تتخذ العقل والتفكير أساسَيْن في تسيير مركبها الضخم والمعقّد التكوينات؛ وتِبعاً لذلك ينبغي لها أن تغرسَ في نسغها الداخليّ جذوراً ثقافيةً وأن تتماهى في ممارستها نزعةٌ فكريةٌحضاريةٌ صافيةُ الأهداف عاليةُ القيم غزيرةُ المضامين.كثيرون هنا وهناك على سبيل المثال لا الحصر يتحدثون عن تسييس الدين أو تسييس الثقافة؛ أي جعل الدين والثقافة مطيتين للوصول إلى أهداف سياسية بحتة.ولكن يا حبذا لو أعدنا النظر في المعادلة وقلبناها: ثقفنة السياسة أو الدين. وإذْ نحن هنا نتحدث حول الخطاب السياسيِّ، نقول: إن ما ينقصنا في هذا الشأن هو الثقافة. الأزمات السياسية والاجتماعية –على الأخص في عالمنا العربيّ- في جوهرها ذات أسس ثقافية.
العديد من المفكرين والسياسيّين في العالم حاولوا جعل السياسة قريبةً من الثقافة. وبالتالي القدرة على شحنها-أي السياسة- بالمفاهيم التي تساعد على رفعتها ورقيّها، وفي الجوهر وصولها إلى الهدف الأسمى، ألا وهو خدمة الإنسان وارتقائه، حضاريًّا، ومعنويًّا، وماديًّا.أن يكون الإنسان ذا ثقافة سياسية عالية، هو بالدرجة الأولى وفي العمق أن يكون إنساناً مكتنز الثقافة ممتلئاً بالقيم الإنسانية الراقية التي أبسطها الانفتاح على الآخر وقبوله واحترامه على المستوى الإنساني أولاً، وعلى المستويات جميعها ثانياً، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. وذلك لا يتحقق إلا عن طريق ضخّ ماء الثقافة في تربة السياسة؛ لتنمو شجرة الإنسان باسقةً وارفةً.
التاريخ يعلمنا أن المراحل التي ازدهرت فيها الجوانب الحضارية هي تلك المراحل التي سعى سياسيّوها إلى تثقيف الاشتغال السياسيِّ وخلطه بالأطر الثقافية المتنوعة آنذاك.في كتابه (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ) يتحدث المفكر أركون عن الأنسنة إذ يقول: “الأنسنة هي نشاط شامل مبدع يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلق بوجود الإنسان وطرق الفهم والتأويل والتجسيد التاريخي لهذا”.[1]
وإذا جاز لي سوف أحاول المزاوجة والمماهاة بين مصطلحين هما: الأنسنة، والثقفنة. ولأنّ الإنسان بطبيعته كائن ثقافي وهو بالتالي مندغمٌ بل متجوهرٌ في صلب الفعل الثقافي أيًّا تكن تجلياته ومفرداته ومصاديقه. فالإعلاء من شأن الإنسان إعلاء لشأن الثقافة، والعكس صحيح.وفي مقاربة لأطروحة محمد أركون يقول نبيل سيساوي عن أهمية ودور الناحية الثقافية في بلورة حواضر مزدهرة في التاريخ الإسلامي إذ يقول:” انتشار العلم الإغريقي والفلسفة في الساحة العربية الإسلامية هو الذي أتاح تقوية النزعة الإنسانية المعلمنة في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ووجود أدبيات غزيرة نلمح فيها علامات عديدة ترهص بولادة ذاتٍ إنسانيةٍ حريصةٍ على الاستقلالية الذاتية والتمييز الحر…الخ، وقد شارك المفكرون المسيحيون واليهود في بلورة هذه الحركة الإنسانية الأدبية[2]– “
في مقام آخر، تحدث محمد جابرالأنصاري من منطلق محاولة ثقفنة السياسة وأنسنتها في إطار مشروعه الفكريّ الرامي إلى معالجة القضايا والأزمات الشائكة التي ما فتئت تعصف بالحياة العربية على الصعد كافة.كتب ذات مرة يقول: ” محك العمل السياسي المثمر يتمثل ويتركز في الاقتدار على تسيير الإدارة اليومية للحياة العامة في قطاعاتها كافة من إنتاج وخدمات وتعليم وشؤون بلدية وغيرها مما يعتبره(كثيرون) عندنا أموراً صغيرة وتافهة. ففي هذا المجال، وعبر هذا الاختبار بالذات، تتميز المجتمعات، وتتفاضل الشعوب، وتتقدم أمةٌ على غيرها… [3]– “.
إنّ التعليم في المدارس العامة والخاصة مرتبطٌ بالسياسة والخطاب السياسيّ؛ لكونه يغذّي الحاجة الضرورية للكائن الإنساني، أقصد حاجته ورغبته في التثقف.ولا ننسى أن ما يتبقى لدينا بعد كل المراحل التي نقضيها في المدارس هو الثقافة المدرسية التي تشكل طرق تفكيرنا بوعي منّا أو بدون وعي، والتي من ضمنها طريقة التفكير في السياسة. ولذا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن طريق تكوين مواطن يمتلك ثقافة سياسية متسعة وصُلبة يبدأ هناك في مقاعد الدراسة، الإبتدائية والإعدادية والثانوية.ومن هنا يأتي التركيز على التعليم وجعله أولوية في برنامج أية دولة في العالم.السياسة تبدأ من هناك ولا تنتهي.
من المفترض أن لا يكون لدينا عُقدة من السياسة والخوض في أساليبها وأسسها وبُناها وتشعباتها. منذ زمن قديم والعرب خائفون ممتعضون من السياسة؛ لربّما بسبب عدم التعاطي معها كثقافة إنسانيّة أولاً وأخيراً، وبالتالي الفهم المغلوط لها. بينما اعتبر فلاسفة اليونان الاشتغال السياسي جزءاً لا يتجزأ من واجبات المواطن الصالح والكامل.
خُلاصة الكلام: إن السياسة والثقافة متماهيتان متداخلتان إلى حدٍّ لا يمكن أن نفصل بينهما.بل الثقافة هي البُنية الفاعلة لحقل السياسة؛ ولذا كان لزاماً العمل على ثقفنة السياسة، بشتّى الأساليب والتجليات. وحينما تقترب السياسة من الثقافة بصفتها حراكاً مُجتمعياً حقيقيًّا، فهي بالتأكيد ستسير في الاتجاه الإيجابي، الاتجاه الإنساني الحضاري الصحيح، ومن ثَّم تتجنب التبعات والمآزق والشرورالتي ما فتئت تعتصف بها بعضُ البلدان العربية والمجتمعات المعاصرة.
- نُشر المقال في مجلة العروبة سنة 2020
[1]– محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، بيروت، دار الساقي، ط1، 2001، ص 19
[2]– http://www.mominoun.com/articles/
[3]– محمد جابر الأنصاري، العرب والسياسة أين الخلل،بيروت، دار الساقي، ط1، 1998، ص36.