قاسم حدَّاد في «طرفة بن الوردة»… يُكمل السيرةَ تخيُّل نقْصها

الوسط – جعفر الجمري

 

11 يوليو 2014تكبير الخطتصغير الخطاستمع

في ما يورد من إعادة كتابة سيرة الحياة… حياة السيرة… لطرفة بن العبد، وهو يمر بفصل الخلق والتكوين، فصل ما قبل مجيئه إلى العالم، في أصل تسميته طرفة، يثبّت قاسم حداد في «طرفة بن الوردة»، إلحاقاً بأمه:

«وضعت القابلة الوليد على صدر أمه قائلة:

– ماذا تحبين أن تسمّيه؟

استردت وردة أنفاسها:

– أبوه غائب في سفر، فهو من يسميه.

قالت القابلة:

– كل طفل يولد اسمه معه. هات اسماً نناديه به الآن، وعندما يعود أبوه يخبرنا بما يريد.

أدارت وردة نظراتها حولها ورفعت رأسها قائلة:

– ما هذه الشجرة التي تكاد تلامس جسدي لفرط حنوّها؟ أخبرتها إحدى النساء

– إنها شجرة «الطرفاء» التي لا تموت نارٌ استطعمت حطبها.

فقالت وردة: سمّوه «طرفة».

يرد في السيرة: «طرفة بن العبد، شاعر جاهلي بحراني من شعراء المعلقات. وقيل اسمه طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد أبو عمرو لُقّب بطَرَفَة، وهو من بني قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل، ولد نحو سنة 543م من أبوين شريفين وكان له من نسبه العالي ما يحقق له هذه الشاعرية فجده وأبوه وعماه المرقشان وخاله المتلمس كلهم شعراء مات أبوه وهو بعد حدث فكفله أعمامه إلا أنهم أساؤوا تربيته وضيقوا عليه فهضموا حقوق أمه وما كاد طرفة يفتح عينيه على الحياة حتى قذف بذاته في أحضانها يستمتع بملذاتها فلها وسكر ولعب وبذّر وأسرف فعاش طفولة مهملة لاهية طريدة راح يضرب في البلاد حتى بلغ أطراف جزيرة العرب ثم عاد إلى قومه يرعى إبل معبد أخيه ثم عاد إلى حياة اللهو بلغ في تجواله بلاط الحيرة فقربه عمرو بن هند فهجا الملك فأوقع الملك به مات مقتولاً وهو دون الثلاثين من عمره سنة 569».

في السيرة أيضاً: ولد طرفة في قرية المالكية مثل تلك التقسيمات للمناطق لم تكُ معروفة، والثابت أنها امتداد للقرية الحالية المعروفة بـ «دار كليب». هي الامتداد الطبيعي للأولى وليس العكس.

في استعادة السيرة أيضاً: كي يثبت جذر وامتداد هذا الذي لم يبلغ الثلاثين عاماً، ولكن السيَر في العرب لم تذكر أحداً أتى بشعر بعده بذلك الوهج والسحر والقدرة على الرسم والتخيّل. في استعادة السيرة تلك: جده وأبوه وعمّاه المرقّشان وخاله المتلمّس كلهم شعراء. لكنه بزّهم في دنيا الشعر والناس والشجاعة والنخوة والنبل. وبزّهم أيضاً في صعلكته ولهوه وهيامه في فيافي العرب وأطنابها واتخاذه الهامش من الحياة فيما كان قادراً على أن يحيا حياة الملوك بما أوتي من قدرة استثنائية في البلاغة والشعر، وبما أتيح له من شرف النسب والأصل ومجاورته للملوك واعتباره أحد خواص ندمائهم. رفض إلا أن يعيش كما هو. كما يريد. وكما ارتأى الحياة متساوقة ومنسجمة معه وانسجامه معها!

يحضر طرفة هذه المرة باسم أمه «وردة» فكان لابد من «أل» التعريف ليستقيم الاسم في معلومِه كي لا يمعن في النكرة التي طالتها وطالت الفتى بيتمه المبكّر، وأعماماً تورطوا بدم أخيهم وقتله، وهذه المرة لن يكون هناك ذئب كي يتهم بذلك الدم.

في «طرفة بن الوردة» يمتزج اقتراح شكل ومضمون جديدين للسيرة بالشعر. كأن الشعر في المتن، وهو كذلك. كأن النثر في المتن أيضاً وهو يجمع خيوط السيرة. لا هامش في عمل بهذا المستوى. لا أعني بالمتن هنا الفضاء الأكبر والأوسع الذي تنسكب فيه البراعة وإعادة تخليق السيرة واقتراحها وتخيّلها بتلك اللغة الحادة والرهيفة في الوقت نفسه تلك التي عرف بها قاسم حداد، بل في انحياز القارئ اليوم الذي عرف حداد شاعراً قبل أن يكون ناثراً، إلى التجربة الأخاذة الأخيرة له، في الاشتغال على السيرة ضمن تجربة تكاد لا تشبهها تجربة فيما أعرف ويعرف كثيرون.

«البحر الطويل»

سيكون تتبّع السيرة ناقصاً فيما لو لم نوْلِ اهتماماً بـ «البحر الطويل»… لنعود تقليباً وتقصياً للسيرة:

قلبي على البحر الطويل

شموخه في هودج،

ويموج أكثر خفّة من ريشة التذهيب

يسري كالنبيذ ويصقل البلور

وشمٌ في يد

ورشاقة لغةٌ

كأن الله صاغ لشاعر ماء على البحر الطويل

عربٌ

حداة يمدحون الإبْلَ

يحتكمون في الحانات

ينتخبون بحراً ثالثاً

لولا الفتى

لولا تعففه وحكمته الكريمة وانتحارات الرواة

لولا نحاة ينحتون البحر

لم نسمع نحيب رحيله السكران…

وبالعودة إلى السيرة:

«رُوي، أنه لم يسجّر العرب شعراً بعد ذلك مثلما فعلوا باللهب الذي في قصائد ذلك الطفل. وروي أن البحارة الذين أبحروا بسفنهم مصنوعة بخشب هذه «الطرفاء» المباركة لم تغلبهم غضبات الموج ولا خذلهم السفر. كما قيل إن نبياً يأتي بعد «طرفة» بحين من الزمن. سيأخذ من الطرفاء أغصاناً يضفّرها منبراً يصعد على درجته الثالثة ويكرر في الناس».

بالعودة إلى: إنها شجرة «الطرفاء» التي لا تموت نارٌ استطعمت حطبها. فقالت وردة: سمّوه «طرفة».

قد يكون ورد شيء من ذلك في كتب السيرة التي لم نحِطْ بها. وقد يكون لم يرد ذلك. تجترحه مخيلة شاعر بحجم من كان سيأتي بعده بعشرات القرون ليصوغ سيرة ما كان لها أن تتم لولا امتداد له وفيه.

لا تكون السيرة بهية وذات مغزى أيضاً وهي منسلخة أو بعيدة عن الأسطورة. يحتاج الشاعر وهو يذهب إلى نثره أن يكون ضيفاً على الأسطورة وأن تكون الأسطورة مقيمة فيه كي يتسنى له رؤية الأشياء أكثر وضوحاً وأكثر جدوى في بناء عالم عليها. على بعضٍ منها!

ضياع في سديم العرب

لا تكتفي السيرة بالاسم… بتفاصيل عنائين: عناء الولادة وما بعدها… تتقصى الأسماء… السيرة هناك في الأصل. كيف يمكنك أن تعيد كتابتها كأنها تكتب للمرة الأولى. وحين ترِد إلى أسماع الناس كأن آذانهم تعانقها للمرة الأولى. كم من طرفة في الأمر؟ كم من طرفة في السيرة؟ لا أحد منهم يشبه الآخر. ولن يكون. المهم ألاّ أحد منهم سيشبه طرفة الذي تجترحه السيرة هنا بإعادة التكوين:

«وروي أن ثمة أربعة من ذلك الزمان أخذوا هذا الاسم وضاعوا في سديم العرب. فقد ذكر الآمدي في «المؤتلف والمختلف» من اسمه طرفة من الشعراء أربعة، أولهم هذا، والثاني طرفة ألاءة بن نضلة بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم. والثالث طرفة الجذمي أحد بني جذيمة العبسي. والرابع طرفة أخو بني عامر بن ربيعة». تتعدّد الأسماء لكن كل ادّخرته الحياة لمهمة هو أقدر من صاحبه عليها. ابن العبد أو ابن «الوردة» ادّخرته لحياة لن تطول ولكنها في البهي من قيمتها تلك التي عاشها طولاً بعرض، وبينهما الشعر سماء ترى على بعد روح أيّ منا. روح أيّ منتمٍ للبشر. ادّخرته للقتل أيضاً وليس الموت في نظامه المتكرر والعادي. له موته الخاص ذلك الفتى بين الناس. موت لا يشبه موت أحد. أول ما أخذ به إلى النحْر ذلك النبْل والشرف وأمانة النفس تلك التي منعته من أن يفض كتاباً لم يكن مخولاً أن يفضّه ولو في ذلك فضّ حياته وسفك دمه! كتاب كان فيه الأمر بترحيله من عالم أشاع فيه الإساءة للملوك الذين يعتبرون أنفسهم خارج نطاق أن يحتويهم الذم ومكنة الهجاء وقتها. كان عليه أن يذعن لصوت النبيل فيه وأن يؤجل صوت الصعلوك الذي لازم حركته وحياته ووجوده! ذلك الوجود الذي سيضع حداً له ذلك النبل!

لاينفك حدّاد تنقيباً وتقليباً للسيرة. لا يقصي الأصل منها. من الأصل بدأ وعليه بعد ذلك أن يعيد رسم ملامح ابن الوردة. ملامحه في الأسطورة والحياة والدور واللهو والطعْن والخيانات والغدْر الذي منه يظن كثيرون أن فيه الخاتمة. من ذلك الغدر تبدأ حياة الفتى. منه تبدأ السيرة التي لم تُكتب!

رشْف ماء الطرفاء

هو في اللب من الأسطورة. ما الأسطورة في أصلها وحتى في الوعي البسيط؟ أن ترى وتشهد وتسمع ما لا تقواه الحواس ولا تلم به المدارك. كل فعل خارج ذلك هو في النوع من الأسطورة صغرت أم كبرت. ولا أسطورة صغيرة أصلاً. تظل الأسطورة أكبر من أن تحددها حجماً أو زمناً. ولأنها خارج الزمن تكون خارج الحجم. خارج التخيل.

وفي أول النشأة… ما قبل الولادة.. بعدها بقليل لقاسم حداد متاخمة لها بلغته ورؤيته وإمكانات وطاقات تخيله. تخيل السيرة بسديم الشاعر:

«قيل، فلما انبثق خيط الفجر الأول انتبهت وردة لطفلها فإذا به يتلمّظ بعطشه، فمدّت يدها إلى أوراق شجر الطرفاء وراحت تعصر الوريقات الخضراء في فم الطفل فإذا به يرشف القطرات الندية كمن يرضع اللبن. قيل، فلما انتصف النهار وهمَّ الركْب على العودة إلى الحي، قالت وردة للنساء:

– ادْعكُوا باطن قدمي الطفل بوريقات الطرفاء، فربما طرَق هذا الطفل سبلاً كثيرة ساعياً للحياة، والموت في انتظاره.

أخذت النساء يدعكْن قدمي الطفل بورق تلك الشجرة، فراح ماء وفير يطفر ويسيل ويغسل القدمين الصغيرتين. قيل صار طرفة شاباً يافعاً وراح يرحل في البريّة، كان ينبت في أثر خطواته زهر أصفر صغير يمكن الاستدلال به على المسارات التي يرتادها الشاعر».

اكتشاف الأب… هذا ثوبه الأخير

ربما في السؤال مثل أي طفل يفتح عينه على الدنيا وقد استوى الرئيس من مداركه يسأل عن أبيه. لم يكن مثل أي طفل من أقرانه هو الذي وعى على غدر أعمامه وقد أرسلوا الأب إلى حيث يمكنهم الاستفراد بالتركة. تركة مضمّخة بالدم. بالقتل في السفر. كأن الموعد مع القتل في السفر قدر هذا البيت من العرب. وقدر بيت طرْفة على وجه التحديد!

السيرة هي هي. ما يكملها تخيل نقصها. العمل على مساحة الخيال تلك استدعاء للناقص من السيرة تلك. أو ما يُظن أنه نقص. لا سيرة مكتملة بأي حال من الأحوال. السيرة التي تدّعي اكتمالها لم تكتب بعد. وفي عدم كتابتها نقص هو الآخر!

«يُروى أن طرفة لما بلغ الخامسة التفت فلم يجد له أباً. وكان كمن اكتشف حقيقة اليتم فقد أصبح وحيداً مع أمه. فسألها: أين أبي؟ فاضطربت وردة لسؤال طفلها الذي كان يقف أمامها لأول مرة ليطرح عليها هذا السؤال الشاق. وهو لا ينوي أن يذهب من دون جواب شافٍ».

يستمر اكتشاف السيرة: «أخذت وردة يد طفلها ودخلت به الخيمة. رفعت تختها الخشبي القديم عن حفرة صغيرة وأخرجت صرّة قماش حائلة اللون معقودة بعناية الحريص. وضعتها على الأرض وفكّتها ثم بسطتها، وطرفة جالس بجانبها ينظر بدهشة الطفل المأخوذ. ثم رفعت من الصرّة ثوباً قديماً نشرته في حضنها وراحت تتحسسه بأصابعها وهي تنظر إلى طرفة: هذا هو والدك. هذا ثوبه الأخير.

وضع الطفل يده على الثوب كمن يجسّ جسد أبيه، ثم نظر إلى عيني أمه فعرفت أنه يسألها. فقالت: في هذا الثوب قصة العبد كاملة. انظر إلى هذا الأثر اليابس في صدر الثوب. إنه دم أبيك. فقد مات مقتولاً مغدوراً».

العنبر

لابد من الشعر وإن طال النثر. وأن امتدت السيرة. السيرة التي تجد نفسك مشدوداً إليها، ومنحازاً لها. لا تنحاز إلى النثر ما لم يكن فيه أجمل الشعر وما بعده. هكذا يضعك قاسم حداد في التقسيم الذي يبدو عازلاً… حاجزاً بين النص في إيقاعه ووزنه. والنص في السيرة نثراً. بما يحويه من سيرة الفتى التي يراد إعادة تكوينها واكتشافها، تماماً كإعادة تكوين القصيدة واكتشافها، والحياة واكتشافها للشاعر الذبيح القتيل:

ليس لي من جراحيَ غير هذا الزجاج الذي يتحدّر.

هذي النجوم التي تنثر.

ليس لي أن اسمّي دماً… فضة تسكرُ

فاجرحي

واحرقي..

يصعد العنبرُ.

وفي «أبٌ مغلوبٌ ومالٌ مغصوب» يتم تقصّي وجع السيرة في استواء. تدخل السيرة هنا في صوغها تصاعداً من حيث اللغة القادمة من العام 2012، تقليباً لسيرة ربما كتبت قبل مئات من السنوات. تأتي هذا المرة مستشفّة وممتحنة طاقة السفر لدى ابن العبد أو ابن الوردة.

«الصحراء ذاتها التي نالت من أبي عندما غادر لكي يمتحن طاقته على السفر، فاستقرت به الرمال في غدر الأهل»

غدر الأهل. غدر الطامعين إلى الإرث. غدر الانشغال بالسعي في الأرض والسفر. هكذا هو القدر الذي صار لازمة لشعرية وسفر هذا البيت المنكوب بالموت المتلون والمتعدد.

«لماذا ينبغي على الرجل أن يكون وحشاً لئلا تغلبه الصحراء، أو يكون ضبعاً ليصدّ الأهل؟ لم يبقَ لي منه سوى ريشة دم يابس في قميص ممزق، وقطعة جلد عتيقة مثقوبة، مثل رسالة تائهة لا تصل إلى مكان. أي طفل هذا الذي يرث تركة لا إرث فيها سوى أب مغلوب وحق مغصوب. ألهذا كلما وقفت عند باب أغلقوه، أو سألت عن حق أنكروه، أو طلبت طريقاً قطعوه. وجعلوني أمضي حياتي شخصاً سقط من سرير الكون».

تبدأ لغة السيرة في تصاعدها، من فصل نص «الزفير»؛ كشفاً عن صاحبها حدّاد، وتوغلاً في إعادة اكتشاف السيرة في الوقت نفسه. هنا لا يمكن المراوغة أو التعامي عن لغة صاحبنا في تتبّعه لأثر ابن الوردة (ابن العبد) في الروح. بلغة الروح يكتب حداد. يكتب السيرة باجتهاد الذي على موعد مع سفره الذي تلبّسه من ابن العبد. وإن كان بمنأى عن الموت الوفير الذي طارده ومن سبقوه قبل تشكيل الغدر وخرائطه وما قبله/قبلها!

مهندس الدسائس

في الدسائس، الزمن والمكان والناس والأرواح في ذمة واضع خططها. سيعيدنا حدّاد إلى:

دم يبكي

لديّ ما يكفي

عدو محدق يختار أخطائي ويفتك

كلما غنّيت رن الخمر في أقداحه

ولديّ ما يكفي

لي امرأة بكى الوشم القديم على يديها

فانتهت بي ضائعاً

ومضت تضلل نجمتي وتدلني بالغيم

لي أم ستثكلني قريباً كي قال بأنها:

«يا وردة النسيان

ينساك الفتى وتنال منك جمرة الحسرات»

قالت. وانتحتْ بي في ظلام اليأس

لي أخت على مرآتها شجر البكاء.

هو نفسه العالم المليء والملغّم بالدسائس، ذلك الذي انتخب ابن الوردة ليكون قبّان مواهبه ودسائسه… يوغل في السيرة حداد، مهندساً نظره والقبض على سيرة الشاعر الذبيح، معنوناً ذاك في مدخل رحب لها: مهندس الدسائس

«ثمة رواية تقول، إن قبيلة بكر اجتمعت على أن تطلب من طرفة أن يكون رسولها إلى بلاط «الحيرة». يسعى لدى عمرو بن هند الملك، بالدفع إلى استرضائه للنظر بعين العدل إلى حال حيّهم، زاعمين لطرفة أن ذلك من صلْب مهمات الشاعر في قبيلته. وليس من اللائق أن يتخلف عن ذلك، وعليه أن يرافق المتلمّس الذي ظل يقصد بلاط الحيرة منفرداً. غير أن طرفة استنكر طلب «بني بكر» واستراب في مقاصدهم، وهم الذين صنعوا به ما صنعوا. فلما أبلغ أمه بما يريده القوم. صرخت برأس محسورة: «يا ويلهم ويا ويلك معهم. إنهم يبعثون بك إلى مكيدة دبروها مع الملك، فخذ حذرك من الجميع».

تقول خذ حذرك من الجميع! ذلك ما تجنّبه ابن العبد «ابن الوردة» طوال نزهته في الحياة؟ ظل يعتبر الحياة نزهة لابد أن تنقضي. لا نزهة تتأبّد. لم يكُ يثق بالجميع طبعاً، ولكنه لم يحذر الجميع في الوقت نفسه. ودائماً ما يؤخذ الشعراء من مأمنهم من دون البشر، ومن دون العالمين. كأنما ولدوا وجاءوا لكي يكونوا اختباراً للدسائس تلك، تمعن وتطوّر في مكرها وهندستها كلما استدرجت الشعراء إليها، وكلما اطمأنوا إلى حرير مقاتلهم فيها.

في استعراض «طرفة بن الوردة» أختم بـ «الذريعة» ربما هي الذرائع التي لم تنتهِ من طلب دم الشاعر الذبيح. ذرائع الأهل في استماتتهم في الغدر. في السفر الذي لا ينجو منه أحد، ظناً منا/منه أنه يمنحه ذلك:

«أصلحْ غموضك

سوف تذهب سادراً في الغيم، لا سفر سواك إلى مواقع أهلنا الماضين. لن يفهم غموضك مستجير بالأدلاء الرماة».

قاسم حدَّاد في «طرفة بن الوردة»؛ حيث الشعر يعيد كتابة واكتشاف السيرة!

العدد 4326 – الجمعة 11 يوليو 2014م الموافق 13 رمضان 1435هـ