وعي الحداثة وجمالية الرمز الفني
الأربعاء 2010/12/01
بقلم: د. سعد الدين كليب
تمّ النظر إلى الحداثة الشعرية، في النقد المعاصر، من منظورات عدّة متباينة، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بتحديد ما هو جوهري فيها، أم ما هو عرضي، إذ يخيل للمرء أن النقد المعاصر لم يكد يترك جانباً من جوانب الحداثة، من دون معالجة تحليلية أو تناول نقدي. وواقع الحال أن ذلك النقد قد أسهم إسهاماً فعالاً في تحديد الحداثة الشعرية وبلورة أطروحاتها الفنية والجمالية. ولا يرتبط الأمر بما هو نظري وحسب، بل بما هو تطبيقي تحليلي أيضاً.
ولا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن الحداثة قد أنجزها النقاد تنظيراً، مثلما أنجزها الشعراء إبداعاً. ومن حقّ النقد المعاصر أن يفخر بما أنجزه، ومن واجبه أيضاً أن يواصل التفكير والمعالجة والمراجعة لما أنجزه نقدياً، ولما ينجزه الشعراء إبداعياً.
وتقوم هذه المقاربة النقدية – الجمالية على مقولة محورية، مفادها أن الفن عامة هو نتاج الوعي الجمالي السائد والمشروط بالبنية المجتمعية العامة. وهو ما يعني أن الفن لا يمكنه أن يتبدّل، ما لم يكن ثمة تبدل في الوعي الجمالي. وهذا لا يحدث بمعزل عن التبدلات الحاسمة في تلك البنية المجتمعية. أي أن الفن ليس انعكاساً مباشراً للواقع، بل هو انعكاس للوعي الجمالي المشخّص تاريخياً من جهة، والمشخص فردياً من جهة ثانية.
وتأسيساً على ذلك، فقد نظرنا إلى الحداثة الشعرية على أنها حداثة في الوعي الجمالي أولاً. ولا يمكن لنا فهم الاختلاف والتميز بين النص الحداثي من جهة، والنص الكلاسيكي والتقليدي المعاصر من جهة أخرى، ما لم نأخذ بالاعتبار الاختلاف والتميز بين الوعي الجمالي لكلّ منهما. ولكن إذا ما كان الوعي الجمالي هو المنطلق في تبيان الحداثة، فإن هذا لا يؤدي بنا إلى إغفال الشكل الفني.
والوعي الجمالي الحداثي هو أحد تلك الصور الذهنية التي راحت تتشكل في المجتمع العربي المعاصر، بفعل المستجدات المتعددة والمختلفة التي بدأت بالبروز، منذ أوائل القرن العشرين. ومن هنا، فإن تبيان هذا الوعي هو في أساسه تبيان للخلفية الناظمة للحداثة الأدبية العربية عامة، والشعرية منها خاصة.
ويتميز الوعي الجمالي، في الحداثة الشعرية العربية، من الوعي الكلاسيكي العربي بعدة سمات تجعله وعياً جديداً بكل ما تعنيه الكلمة، كما تجعل نتاجه الشعري مختلفاً عن الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. ومن هذه السمات: التجادلية، والدرامية، والكلية.
• جمالية الرمز الفني:
لقد طرح شعر الحداثة العربية أنماطاً عدة، من الرموز الفنية التي تمكنت من تكثيف تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع الاجتماعي – التاريخي الذي راح يتنامى فيه، بحيث جاءت هذه الرموز بوصفها معادلاً فنياً موضوعياً، للهواجس الاجتماعية والفردية التي برزت مع بروز هذا الشعر. ومن دون أخذ ذلك بعين الاعتبار، يصعب أن نفهم شيوع رموز الخصب والانبعاث، في مرحلة النهوض الوطني، في خمسينيات القرن العشرين. مثلما يصعب أن نفهم شيوع رموز اليباب والتشيؤ والاغتراب، مع تنامي الإحساس بإخفاق حركة التحرر العربية في إنجاز مشروعها الاجتماعي – الحضاري.
ومن البدهي أننا لا نربط بشكل ميكانيكي بين الرمز الفني والهاجس الاجتماعي، وإنما نسعى إلى تأكيد أن كثيراً من الرموز يصعب فهمها، بمعزل عن الهاجس الاجتماعي، ولا سيما الرموز العامة أو الخاصة منها، فإن للطبيعة النفسية والروحية للمبدع أثراً حاسماً، في إنتاجها.
• جمالية النموذج الفني:
يعد النموذج الفني من أهم الأساليب التقنية التي استخدمها شعر الحداثة العربية، في تعبيره عن وعيه الجمالي الذي يتصف بالدرامية من جهة؛ وفي تعبيره عن الواقع الإنساني من جهة أخرى، إذ إن إنتاج النموذج الفني لا يعني التخفف من الغنائية فحسب، بل يعني أيضاً المعالجة الفنية لأوسع مساحة ممكنة، من الواقع بعلاقاته وقيمه المختلفة. ولهذا، فإن دراسة هذه التقنية هي، في أحد مستوياتها، دراسة لتجلي التجربة الشعرية بشكل درامي، في شعر الحداثة؛ مثلما هي دراسة لطريقة التناول الفني للواقع.
إن الميل إلى إنتاج النموذج ينهض، أساساً، من محاولة الشاعر الحداثي، في استيعاب الواقع الإنساني استيعاباً درامياً، يتمكن به من تملك العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الأنا والآخر، وهو ما لم يعد ممكناً بالشكل الغنائي الصرف الذي يمكن القول إنه أصبح عاجزاً عن استيعاب الواقع، وعن التعبير عن الوعي الجمالي الحداثي. إنّ عجز هذا الشكل هو الذي دفع الشاعر الحداثي إلى البحث عن تقنية جديدة، تنهض بما عجز عنه ذلك الشكل، فوجده في الأسلوب التقني الذي تتكئ عليه المسرحية والرواية، وهو النموذج أو الشخصية الفنية. إذ من المعروف أن المساحة الاجتماعية التي تعالجها الرواية أو المسرحية، بسبب أسلوب النمذجة، أكثر اتساعاً وعمقاً من المساحة التي يعالجها الشعر الغنائي؛ غير أن الشعر الحداثي، بميله إلى النمذجة، راح يستوعب، إلى حد ما، تلك المساحة. حيث بات يتناول كثيراً من الظواهر التي كان الشعر الغنائي عامة يبتعد عن تناولها.
***
يذكر أنه صدرت حديثاً طبعة ثانية من كتاب “وعي الحداثة” للدكتور سعد الدين كليب، عن دار الينابيع في دمشق. يتكون من 260 صفحة، ويحتوي على خمسة فصول تتناول قضايا الحداثة الشعرية العربية: الفصل الأول: الحداثة الشعرية في النقد الأدبي المعاصر، الفصل الثاني: الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية، الفصل الثالث: جمالية الرمز الفني في شعر الحداثة، الفصل الرابع: جمالية النموذج الفني في شعر الحداثة، الفصل الخامس: الخطاب الشعري والأيديولوجية. ومن العناوين الداخلية للفصول: النص بوصفه خطاباً أيديولوجياً، رمز الريح، رمز الحجر، الشكل الإيقاعي، البناء الدرامي، النمذجة الفنية.