متعدد الانشغالات الثقافية..حوار / الشاعر المغربي إدريس علوش: بلا تجربة لا يحظى الشاعر بأي خصوصية
30 أغسطس 200912:00 ص720
|حاوره عبد الغني فوزي|
الشاعر إدريس علوش لم يأت ولا يأتي للقصيدة من فراغ كما يقول، بل من تجربة وزاد طريق، كل ذلك خول له الإيغال في ماء الشعر إلى حد ارتسام مسار والتفرد ببصمة في القول الشعري والرؤيا. يكفي العودة هنا لمجاميعه الشعرية «الطفل البحري، دفتر الموتى، مرثية حذاء، فارس الشهداء، الطفل البحري ثانية، قميص الأشلاء»، الصادرة عن دور نشر مغربية وعربية، أقول تكفي العودة لهذه الحصيلة على انعطافاتها طبعا، لتلمس بعض ملامح هذا المسار الشعري متفرقة طبعا ومندغمة.
نحن أمام شاعر متعدد الانشغال الثقافي على جنبات القصيدة دوما، باعتباره عضوا في جمعيات وتجمعات ثقافية نستحضر هنا اتحاد كتاب المغرب وحركة شعراء العالم في التشيلي… هذا فضلا عن دوره الإعلامي نذكر هنا إدارته لبرنامج « ثقافة مغربية» لقناة إذاعية، ومساهمته الفعالة في التعريف والتقديم لأصوات القصيدة المغربية المعاصرة هنا… هناك. هنا حوار غير بعيد عن القصيدة:
• في حوزتك مجموعات شعرية، خطوت من خلالها بعيدا على أرض القصيدة. هل ارتسمت ملامح مسار شعري عندكم؟
- بعيدا لا أعتقد، لأن كل التراكم الذي أحدثته إلى الآن وهو تراكم تجاوز ربع قرن من التفاعل المباشر مع القصيدة، إنها شأني اليومي هكذا اعتبرها، وإنها لقصيدة حتى النثر، ومع ذلك اعتقد أني مازلت على حدود التماس معها، وبمعنى آخر مازلت أعتبر نفسي بصدد البدايات وهذا ليس تواضعا، ولهذا الاعتبار لا أعرف لحدود الآن إن كانت قد ارتسمت لديّ ملامح هذا المسار الشعري أم لا، وفي كل الأحوال مازلت أحاول وبكل جدية أن أجد الصيغة الملائمة للقصيدة التي أحلم بتشييد صرحها.
• على مستوى التيمات، قصائدك تنوء بثقل الجراح الإنسانية. بأي شكل تحاور قصيدتك الجرح والقضية دون أن تفقد شعريتها؟ - المؤكد أني لم آت إلى القصيدة من فراغ،بل جئتها محملا بما استوعبته من تناقضات الوقت والمرحلة معا، وتماسي مع جراحات الإنسانية، جاء حصيلة انتمائي للوعي النقدي الذي تعلمته من المدرسة الماركسية المغربية عبر انتسابي وانخراطي العضوي في صيرورتها النضالية والكفاحية – وبالمناسبة فلايزال هذا الانتماء يتمتع بمشروعيته وساري المفعول وهو الانتماء الذي أعتز به أيما اعتزاز، وإلى حدود صياغة هذه الكلمات لايزال الوضع نفسه قائما – وأيضا عبر انتسابي للحراك المدني الذي رسخته تقاليد المجتمع المغربي، وتحديدا انتسابي المبكر لجمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي بأصيلة والتي يعود تاريخ تأسيسها لسنة 1968، والتي حملت على عاتقها مسؤولية الاستنارة بالفكر التقدمي اليساري، ولا تزال تحمل نفس المشعل إلى يومنا هذا. وأيضا انتباهي المبكر لجراحات الشعب الفلسطيني وهو ينتزع من جذوره وأرضه واقتلاعه عنوة على مرأى ومسمع من العالم، ناهيك على دور القراءات الرومانسية التي تسمو بالإنسان إلى معانقة قيم الرومانسية الثورية وهو يشارك البشرية في آلامها كل هذا ساهم بالتأكيد في وعيي الشعري والإبداعي. واستنادا إلى هذا الجدل القائم بين المكونات التي أسلفت ذكرها يتم التواصل مع القصيدة، ومحاورتها وسبر مغاوير أسئلتها، بحثا عن صور ومتخيل وتيمات تعكس الروح المتمردة للمبدع الذي أسعى لكي أكوّنه.
• الذات في شعرك على قدر كبير من السفر والعناد التواق لفضاء آخر. كيف تفهم الذات في الكتابة الشعرية؟ - أفهمها- أي الذات، الذات المبدعة إن شئنا التحديد- انطلاقا من نسقها الذي يتقاطع مع الموضوع الذي تكون التجربة الحياتية أساسه، وبدون تجربة في اعتقادي لا يحظى الشاعر بأي خصوصية، وحتى إن نجح في صياغة نصه، فهو يستنسخ تجارب الآخرين، الآخرين هم الشعراء المبدعون الذين قرأ لهم أو النصوص التي أحتك بها وألتصق بتناصبها لاغيا ذاته وخصوصيته بنفسه، وهو نوع من الإقبار لمعالم التجربة الإبداعية لشعراء هذا النمط من الكتابة الشعرية.
• ومع هذه العبارة لاندريه بروتون «عندما يتعلق الأمر بالتمرد نحن لا نحتاج لأسلاف» أجد الصيغة الملائمة لتفصح ذاتي عن روح الجديد الآتي من تناقضات القلق الوجودي المتمرد بطبعه عن كل ما هو سائد، ومكرس، واعتيادي. ودائما في أفق السفر اللامتناهي بحثا عن جديد مستمد ومستلهم من الحيوات التي تتقاطع معها جدلا، هذه الذات المحتفى بها في النص والقصيدة علها تسمو إلى لحظة الدهشة، وهي مرتبة مشتهاة في تقاليد الإبداع وتلابيب الكتابة.
• هناك طغيان للأنا في كتابتك الشعرية، فخلف ذلك نفسا غنائيا متشظيا. من أين تتغذى هذه الغنائية عندكم؟ - من الأنا ذاتها، ومن خزان الحزن الهائل الذي يكتنفها، ومن الفوضى العارمة التي تعتريها، ومن عدم رضاها عما يحدث حولها من نقع وغبار، ومن التفاصيل الدقيقة لليومي والمعيش، بما فيها التفاصيل المملة، ومن سقف الفلسفة التي تنهل منه هذه الأنا، من هذه القضايا، وبالتأكيد من مكونات أخرى على تماس بذات الأنا، كل هذا فقط ليقول الشاعر هذه أناي، وهذه قصيدتي، وربما من هنا سر هذه الغنائية.
• قد يلفت نظر القارئ لكتابتكم الشعرية شكلها البصري من توزيع وعلاقة السواد والبياض، هذا فضلا عن الفراغات… وهو أمر- في تقديري- موكول للقارئ للمشاركة في البناء النصي. من أي زاوية تنظر للأمر؟ - بالتأكيد أن هناك أكثر من جدل قائم بين الشعر والتشكيل، بين الشعر والسينما، بين الشعر والصورة، بين الشعر والمسرح، بين الشعر والتوزيع، توزيع المقاطع وفق قوة الصورة الممكنة والمحتملة في النص، بين الشعر وثقافة الشاعر البصرية والمرئية، كل هذا للاحتماء بنص مختلف يفرض سلطته بشكل أو آخر على المتلقي مادام هذا الأخير بحكم قوة معرفته وثقافته يضفي مشروعية جديدة على النص، ويصبح بما لديه من ملكات طرفا أساسيا في العملية الإبداعية لا تقل أهمية عن إسهام المبدع في إنتاج النص والقصيدة.
• قصيدة النثر عربيا في معركة دائمة، وأحيانا تأتي بعض الصرخات من أسماء رائدة لم تستسغ هذا المسار وسلمه الطويل أيضا، أعني مسار قصيدة النثر. هل قدر هذه القصيدة أن تبقى غريبة في الثقافة العربية؟ - قوة قصيدة النثر العربية تكمن في غرابتها، ومن هذه الغرابة تستمد قوتها المتجددة في الفعل والإبداع. ليس ثمة من يمكنه أن يشك سواء كان ناقدا أو مبدعا أو متلقيا نبها أن مرجعية قصيدة النثر غربية بالأساس، ولا علاقة لها بالعرب ومجدهم التاريخي ممثلا في الشعر ديوانا للعرب، الشعر ببنائه المعماري القديم، انطلاقا من قفا نبكي وصولا إلى تقنية حسن التخلص، إلى غير ذلك من الاغراض والمقاصد، وهذا معطى موضوعي، لكنها بفعل قوة إبداع مبدعيها موجودة وحاضرة في المشهد الإبداعي العربي. ومن أهم مميزاتها أنها لا تحتاج لأسلاف، والشاعر الفرنسي أرثور رامبو وهو احد روادها أدار لها ظهره وللشعر والإبداع برمته وهو في قمة عطائه، واهتم بشؤون التجارة إلى أن وافته المنية وهو في سواحل عدن. هي قصيدة يكتبها صاحبها ويمضي كما يمضي الناس إلى حال سبيلهم أو حال قبرهم.
لكن المشكلة عربيا تكمن في رموز الوهم الذين يدعون معرفتهم بشؤون قصيدة النثر، من أمثال هؤلاء نذكر وهذا على سبيل المثال لا الحصر الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي الذي جمع مجموعة مقالات وأصدرها في كتاب مدفوع الأجر مسبقا، في أقصى تجلياتها لاتصل لا مبنى ولا معنى إلى أي جوهر يلامس القضايا النظرية والإجرائية لقصيدة النثر وظلت محاولاته بمثابة تمارين في إنشاء بلا قرار وليست مدعومة ولا مسنودة إلى أي مرجعية ثقافية أو نظرية، اللهم رغبته المفتعلة في التهافت على مجال، هو أصلا غير مهيأ للخوض في غماره، وهو الشاعر الذي لم يمارس شأن القصيدة لأكثر من ربع قرن من الزمن، وللأسف هناك أكثر من شبيه له ووصي مدعي يمضي على النهج نفسه، ليس في المشرق فحسب بل المغرب أيضا.
• من الملاحظ أن وتيرة نشر مجموعات شعرية غدت متسارعة، مقابل تراجع للنقد. ما تفسيرك لهذا التراجع النقدي؟ - فعلا تطرح المتابعة النقدية للمتن الشعري المغربي بصيغة أو أخرى مشكلة كبيرة، وبالمناسبة هذه المواكبة لا تخص الشعر فحسب بل تتعداه إلى الرواية والقصة والمسرح والسينما والموسيقى إلى غير ذلك من مستويات التعبير الإبداعي والفني، وجل الأجناس الأدبية… وأن تتسارع وتيرة النشر الشعري أو غير الشعري فهذا أمر طبيعي ومحبذ، لأنه من داخل هذا التراكم الهائل يمكن أن يتحقق الشرط الموضوعي لوجود إبداع نوعي وكيفي، وأن يتراجع دور الناقد والنقد برمته هذه مسألة نسبية، لكن المشكلة الأساسية تكمن في سيادة النقد الاخواني، وهو متداول بشكل فظيع في المنابر المغربية، وفي الجامعة المغربية أيضا، وعلى ذكر الجامعة المغربية مثلا الأستاذ المشرف هو الذي يحدد سلفا الشعراء الذين سيتناولهم صاحب الأطروحة حتى إن كانت هذه الأطروحة بحثا لنيل شهادة الإجازة – بالدرس والتمحيص والتحليل، وهذه حالة مرضية لا يمكن أن تطور القصيدة المغربية بقدر ما تسيء إليها، وللأسف من بين هؤلاء الأساتذة شعراء. ولك أن تخال أو تتصور الضرر الذي ألحقوه بتطور وتبلور القصيدة المغربية الحديثة ودائما من موقع الوصاية على الشعر المغربي، وهنا تكمن الكارثة. ولولا إصرار الأجيال المتعددة للشعر المغربي على النحت في متخيل هذا الشعر وانفتاح آفاقه على أرخبيلات المجهول ما تبوأ هذه المكانة المهمة التي يحتلها الآن.
• ما المساحة التي يحتلها الشعر المغربي المعاصر بين الإعلام في شكله العام والمؤسسة الثقافية؟ - للشعر المغربي المعاصر حضور قوي ورصين في المشهدين الإبداعي والشعري ليس في الوطن العربي فحسب بل في العالم بأسره، لأنه شعر مكتوب بأكثر من لغة، مكتوب بالفصحى والدارجة المغربية الأمازيغية والفرنسية والاسبانية والهولندية وبالتأكيد انه مكتوب بلغات أخرى، وهذا التعدد والتنوع في اللغة استنادا إلى التعدد الثقافي للتركيبة المجتمعية المغربية ساهم وبكثافة في إثراء متخيله وتدبير شؤون صوره البلاغية والبيانية، كما أنه شعر مترجم للعديد من اللغات، وحاضر في العديد من الأنطولوجيات وبلغات متعددة أيضا. بمعنى أو آخر الشعر المغربي المعاصر أو الحديث بألف خير وحاضر في كل المحافل منابر كانت أو مهرجانات أو ملتقيات أو منابر إعلامية مسموعة أو مرئية أو الكترونية التي تعنى بهذا الجنس الإبداعي العتيد.
• ساهم الإنترنت في إيصال الشعر وتداوله بالسرعة المطلوبة والنجاعة الفعالة. كيف تنظر لهذا الوسيط وقولبته للأدب، وبأي شكل يمكن أن يساهم في خلق ذاك التواصل المعطوب على أكثر من صعيد؟ - على مستوى التواصل وسرعة الذيوع والانتشار فعلا استطاع الانترنت بشكل أو آخر أن يحقق هذا المبتغى، وعلى مستوى التواصل بين الشعراء والمبدعين تم تجسير الهوة التي كانت قائمة بينهما. لكن أن يكون هذا الأخير قد أضاف قيمة مضافة أو نوعية للقصيدة فهذا لم يحدث، ولن يحدث، لأن الإبداع الحقيقي لا تنتجه أجهزة لا تعرف ما لخيال، فالإبداع وليد الحياة وينتجه الأحياء حقا- لا الأموات – الذين يتقاطعون مع تناقضات الحياة عبر التماس اليومي لتفاصيلها الدقيقة، وعبر المعايشة أيضا والتأمل الثاقب في كل مكوناتها. أما إذا كان الأمر يتعلق بالقصيدة الرقمية فهي لا تزال مجرد رهينة التصورات النظرية، وفي المغرب لا أحد على حد علمي قد أبدع شيئا يذكر على هذا المستوى، فهذه القصيدة بالإضافة إلى كون مبدعها يحتاج إلى متخيل إبداعي ذي مستوى عال، فهو أيضا يحتاج لمعرفة عالية بالتقنية التي تجعل من القصيدة الرقمية مثار انتباه واهتمام من قبل المتلقي.
https://www.alraimedia.com/article/135223/محليات/حوار–الشاعر-المغربي-إدريس-علوش-بلا-تجربة–لا-يحظى-الشاعر-بأي-خصوصية–