محاولة للتنقيب عن الشعر

elsadatalbi-1

الاحد 24 نوفمبر 2019 19:40

جريدة الوطن البحرينية 

عبدالله زهير

هل هناك تعريف محدد للشعر؟ من وجهة نظري لا يمكن أن تضع تعريفا مطلقا يمكن أن يقول لك هذا شعر وهذا ليس شعرا، حيث لا مقاييس ولا مواصفات جاهزة لمسألة كيف يجب أن يكون الشعر.

ولكن، دعوني أحاول أن أعرف الشعر في هذه اللحظة، وقد يتغير التعريف فيما بعد، انطلاقا من حرية الشاعر، التي من المفترض أن تكون حاضرة باستمرار.

من الممكن تعريف الشعر بأنه ممارسة فنية جمالية مادتها اللغة تحاول باستمرار خلق واقع جديد وراء هذا الواقع.

فإذن، لا يوجد شكل جاهز ولا مضمون جاهز للشعر. والشكل مضمون في بعد من أبعاده. إذ الشكل يعبرعن نظام للأفكار والأنساق الاجتماعية، شئت أم أبيت، فحينما تكتب بالطريقة الوزنية المقفاة، فأنت في بعد من الأبعاد تتبع نظاما قديما معروفا موروثا ذا إيقاع صارم منتظم مقيِد للمخيلة ولعفوية الحالة الشعرية ولروح المغامرة والثورة فيها. ونظام الوزن والقافية: نظام قول ينسجم مع بنية النظام السائدة أو بنية الطبقات السائدة منذ فترة طويلة (منذ بداية الشعر العربي).

زمن الشعر

يقول أدونيس في كتابه “زمن الشعر” ص67: “الشكل الفني ليس مجرد تشكيل. الشكل هو الجسد البنيوي – الإيقاعي، وإنما هو تجسيد لوعي، لحركة، لمسار تاريخي. الشكل الشعري، عند الفرزدق، مثلا إنما هو، بمعنى ما، الطبقة السائدة في العصر الأموي، والنظام السياسي السائد والفكر السائد. والشكل الشعري عند شوقي مثلا، هو الطبقة السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وهو الفكر الذي كان سائدا.

الخروج، إذا، على الشكل الشعري عند الفرزدق، أو جرير، أو شوقي، ليس مجرد خروج فني، وإنما هو كذلك خروج سياسي- ثقافي: خروج من حالة وعي إلى حالة أخرى”.

إذن، هناك سؤال عن التعبير، وسؤال آخر عن كيفية التعبير. الفرق بين كتابة أو أخرى هو في الكيفية وكذلك في الرؤية التي تدخل في بنية هذا النص. وهذا لا يعني أن تكون رؤية النص وأفكاره غير مهمة. على العكس هي داخلة في صميم بنيته وعليها أن تكون قوية وحاضرة في الشكل التعبيري كجزء لا يتجزأ.

والشعر كمادة خام، من وجهة نظري، موجود في كل شيء: معمار هندسي محكم، مرحلة الطفولة بشتى تجلياتها ومناجمها وأسرارها، مشاهد الحياة اليومية الطبيعية والمدينية على حد سواء، حالة القلق تجاه الغيب اتجاه فكرة الله ، اتجاه الحياة، الوردة التي تعانق الشوك،، رموز التراث وأساطيره المختلفة …. إلخ.

اصنع شعرا

والأمثلة لا تعد ولا تحصى… غير أن التحدي أين يكمن؟ كيف أصنع، كشاعر وكخلاق، من هذا الخليط، الذي قد يبدو غير متناغم، شعرا. كيف أستخلص من مشهد ما، من حالة ما، شعرا. وليس شرطا أن يكون مشهدا مبهجا أو مفرحا أو حالة وردية لا يعكر صفوها شيء. فالشعر لا يروج لحالة الوهم، وهم الفرحة الظاهرية والاستقرار المزيف. على العكس الشعر يكشف الحجب المتراكمة فوق حالة البؤس الذي يراد تغييبه، ويلامس الغليان الذي يعتمل فيما وراء وهم الاستقرار الظاهر.

قصيدة ” الأرض الخراب” لأليوت: تستشعر في بنيتها رؤيا شبكية جديدة قائمة على تعدد الأصوات وتشظيها نحو كشف وهم التطور الحضاري الذي حصل في العالم الغربي بوجه خاص والعالم بوجه عام. وكذلك “الكوميديا الإلهية” لدانتي مغامرة شعرية باهرة نحو العالم الآخر عبر الالتقاء بأرواح متعددة في رؤيا تستشف مهاوي وتشعبات وجغرافيات حلمية وكابوسية ملحمية، حتى وإن كانت على الأغلب وفق رؤية دينية. وقس على ذلك الكثير من النصوص الشعرية ذات القدرة على اختراق بعدي المكان والزمان .

ومن هنا أزعم أن ما نكتبه ليس إلا محاولات للوصول إلى جوهر/ روح الشعر، في أشياء كثيرة في دواخلنا وفي واقعنا وفيما وراء الواقع. على سبيل المثال لا الحصر، مرحلة الطفولة عالم شعري شاسع، وهي بمثابة منجم يحتاج إلى التنقيب فيه عميقا، وكلما كانت الأدوات الفنية والوسائل التأملية التي لديك أكثر تطورا وأكثر ديناميكية كلما اكتشفت في هذا المنجم الكثير من الأبعاد والرؤى والأحلام والعلاقات الجديدة بين الأشياء وبعضها، بين الكائنات وبعضها البعض.

يقول أليوت في مقاله الهام “الموروث والموهبة الفردية”: “إن قليلا من الشعراء هو من يستطيع أن يظل شاعرا بعد الخامسة والعشرين”. وأنا أتفق معه في هذا؛ لأن بعد هذا السن تجف المنابع العاطفية الشخصية الذاتية، وتخبو نار الوجدانيات البحتة التي يعتمد عليها الإلهام. ولذلك على الشاعر إذا كان يريد المواصلة أن يهتدي إلى منابع جديدة لإلهامه الشعري يجدها في القراءات الواسعة والسفر وفي خوض التجارب الحياتية والفكرية والشعرية المتنوعة، حتى يتجاوز الأفق العاطفي إلى آفاق جديدة في علاقاته بذاته وبالآخر وبالكون وبالغيب.

ربما قد لا نستطيع أن نحمل الشعر قضايا لا يقدر على أن يتحملها خاصة في حقل السياسة إلا وفقا لخصوصيته الفنية وبناء على استقلاليته الذاتية “وكثيرا ما نسمع أن زمن القضايا والسرديات الكبرى قد ولى”. لكن وظيفة الشعر الجمالية تنبع من كونه يعري قبح الواقع ويفضحه. “وأكاد أقول يعري قبح الغيب أيضا ويفضحه”.

الشعر والفنون

الشعر ليس وحيدا بالطبع. يشاركه في هذا كل الفنون والأجناس الأدبية. ومن هنا تكون العلاقة بين الشعر وبين السياسة والمجتمع غير مباشرة، حيث الشعر يغير ويبني علاقته بكل هذه الحقول، لكن من خلال خصوصيته وأدواته هو كفن وكعِلم، وليس من خلال التحريض والتثوير المباشرين.

إذ بشكل من الأشكال، الشعر فعل جمالي فردي بالدرجة الأولى. ربما يعبر عن حالة جمعية، أو وعي جمعي ما في بعض الأحيان، ولكنه غالبا يصدر عن مخيلة الفرد ويتضمن رؤيته وموقفه تجاه العالم، سواء فيما يخص الغيب أو الواقع. وهذا التداخل بينهما قد يحصل غالبا. المهم أن تكون عملية تقييمه ونقده بمعزل عن البعد الأخلاقي المجتمعي أو الديني.

نقد الشعر وتقييمه يكون وفقا لأدوات هي من صميمه وطبيعته، البعد اللغوي، البعد الدلالي، البعد الإيقاعي، البعد السردي، البعد التعبيري، إلى أي مدى هذا النص فيه قفزات وفتوحات في الشكل والرؤية؟ … إلخ.