في مواجهة أسئلة التحديث الثقافي ومآزقه

65637596_1191151401073194_940972320317505536_n

عبد الله زهير

(نشر المقال في مجلة البحرين الثقافية، عدد 97، يوليو 2019)

منذ نصف قرن ونحن نصاحب هذه التجربة. ونصف قرن من العمل الثقاقي ليس يسيراً أن يمر من دون كبوات وتصدعات، بلاشك. أجيال تلو أجيال تتبادل نخب أسئلة الكتابة. تشق الطريق اللانهائي نحو مجهول جميل يُسمى الإبداع بنَفس مثابر وطويل. بلحاظ التحولات الهائلة على أبعاد متعددة في المراحل التاريخية كلها. ليس هذا بالشيء القليل. بخاصة عندما ننظر إلى ما جرى ومايجري على صعيد السياسة والمجتمع من أزمات ومآزق وجروح. والعلاقة بين ما هو سياسي وثقافي شائكة معقدة ليس هذا  مكان  تقليبها.

نصف قرن من الفعل الثقافي. يتألق حيناً. يخفت ويخبو بريقه حينا. ولكن ينبغي ألا ننسى أن هذا من طبيعة الأشياء الحية. أن يعتور هذا الكيان الثقافي شيء من الفتور والضعف في مرحلة ما. ثم لا يلبث أن يعود بعدئذ للحراك النشيط نتاجاً وفعاليات ومشاريع. وقد تحصل تشققات تطول في العمق عملاً ثقافيا راسخاً وممتداً. وربما تصيب ما هو أبعد من ذلك، بخاصة حين يسود مبدأ التحزب، وحين تتفشى فلسفة الشِلل والجماعات، وحين يغلبُ منطق شخصنة المواقف والآراء وطأفنتها.

كل هذا من شأنه تخريب نسيج الكيان الواحد وأفوله. ولعل بعد فترة، تقصر أو تطول، ينبعث جسد الأسرة ويعود إلى التئامه وتعافيه ونشاطه، إذا عرفت كيف تجدد أسئلتها ورؤيتها ورسالتها، وإذا عرفت كيف تتكيف مع ما يجري من تغييرات جوهرية بنضج ومرونة على حد سواء. إذ دورة حياة أية منظمة ثقافية معرضة للاحتمالات جميعها، صعوداً أو هبوطاً. ولادة وانبثاق وتأسيس، ثم نمو ونضج. وقد تصل لاحقاً إلى مرحلة تراجع وخفوت وضمور. وقد تنبعث من جديد إذا قبلت شروط انبعاثها المُحدث، بجانب الحفاظ على ميراثها وتاريخها.

لكنني، على الرغم من هذا كله، أظن أن التحديات الماثلة الآن ذات طابع مختلف شكلاً ومضموناً. أنا بعيد عن المعايشة الشخصية لتفاصيل مرحلة التأسيس في سنة 1969 وما بعدها من مراحل. وليس لي حق تقييم تلك المراحل بحكم فارق المجايلة. وأظن في المقابل أن لي الحق الكامل في تقييم هذه المرحلة التي أنا وسط لهيب معمعتها. وبديهي أن ما تراه عيون جديدة مختلف جوهريا عما تراه عيون قديمة. وما تستشعره عيون مشبّعة بمفاهيم هذا الزمن ووسائطه وقيمه وذوائقه يباين ما تستشعره عيون من أزمنة سابقة. هذا زمن وتلك أزمنة أخرى. وهذه حقيقة ماثلة، لا نقاش في صفائها وبداهتها.

وأظن أن أول تحدٍ ماثل هنا هو التركيز على النص الأدبي وجودته الفنية.  ولعلي أُذّكر بنصيحة قالها أحد المؤسسين البارزين الشاعر قاسم حداد ذات حوار نُشر في كتاب “فتنة السؤال” حينما سُئل عن رؤيته لمستقبل أسرة الأدباء فكان جوابه بأن : “… الرهان الحقيقي الوحيد ينبغي أن يتمثل فقط في الكتابة الأدبية، في النص الأدبي بشتى تجلياته، وليس في المظاهر الإعلامية والضجيج الخارجي الذي يستدرجنا إليه الواقع الاستهلاكي، فالعربة الفارغة هي فقط التي تُحدث الضجيج الأعلى” ص261.

       والتحدي الآخر من جهة ثانية  يتمثل في القدرة على استيعاب طاقات الشباب الموهوبة، والترحيب بها فعلياً، والثقة بإمكاناتها وانطلاقاتها. وهذا لن يكون إلا بإشراكها في صنع القرار الثقافي وتسنيمها مواقع متقدمة إدارياً وتنظيمياً. لا أن يكون دورها فقط تنفيذ ما يرغب به الكبار. إذ سر قوة الحراك الثقافي في فترتيْ السبعينيات والثمانينيات يكمن في الكوادر القيادية  حينما كانت في أوج شبابها. وهنا يطفر في هذا السياق تحدٍ آخر متعلق بالبُنى الشخصية والفكرية داخل الهيئات الإدارية. فثمة الآن من يرى أنه الحارس المؤتمن على منهج الأسرة في مسارها الثقافي والفكريّ بوجه عام. وترتبط بهذا التحدي أيضاً مسألة الانفتاح على الأطر التنظيمية والمؤسسات الفاعلة في المشهد الثقافي. إذ التعدد والتنوع، وربما التشظي، في الأفراد والمجموعات المشتغلة بهذا الشأن، لا بد من التعامل معه بذكاء، انطلاقاً من مبدأ المشاركة والتعاون والتلاقح وتكتيل الجهود والمشاريع، عوضاً عن مبدأ التنافس والتبارز والتمايز. فالغاية القصوى هي إثراء الحراك الأدبي وتحديثه، بعد خوض مغامرة خلقه .      

65998393_1191151427739858_6261494918028460032_n

65860443_1191151457739855_3817208916543012864_n65746630_1191151507739850_3844212930711126016_n