كتاب ( فن المتنبي بعد ألف عام ) … مداخلة و مساجلة مع مؤلفه إبراهيم العري
ذلك النسق من التعبير الذي توشَّحَتْ به الأدبيَّات والكتابات النقديَّة والتقييميَّة والتحليليَّة على مدى أزمان سحيقة ومتعاقبة ، أخاله صار سمجا ً ومملولا ً ومفتقدا ً لأيِّ جدوى في إشهار المتنبي وإنباهه وإعلائه على أسماء جمهرة نبغاء العربيَّة في مختلف ميادين التأليف والبحث والعطاء الشعري ، فضلا ً عن الادلال بفرط الاعتزاز بمحتوى هذا العطاء من القيم والمطالب الحياتية واستحثاث الناس والإهابة بهم للتعلق بهدف أزكى وأسمى من كلِّ ما تتوق له النفوس من الآراب والغايات ، ويساورها من النزوات والأهواء ، وذلك لأنـَّه استهلك وظيفته وعدم جدواه ، خاصة بعد ما شرعَتْ طائفة من الباحثينَ والدُّرَّاس في محاولة إطلاق هذه المزيَّة المتفرِّدة على آخرينَ من ذوي العقول الراجحة ، ممَّن نجموا في غير عصر من العصور ، وإضفائها عليهم ، وجعلهم متقاسميها وإيَّاه ، فهم مثله على هذا مالئو الدنيا وشاغلو الناس .
ولعلها جاءَتْ من كثرة ما أحدثه ظهور المتنبي في عصره وسط بيئته المكانيَّة التي لا تقتصر على الكوفة وحدها حيث ولد ونشأ ، بلْ امتدَّتْ إلى مدن وحواضر متنائية ومتباعدة عنها في الديارات العربية والاسلامية المجاورة للعراق ، والنائية عنه بعض الشيء معا ً ، من هذا الدَّويِّ الصاعق المطبق على الأرجاء والدنى ، نتيجة ما انبهر له ومنه قراء شعره ومستمعوه ومتلقوه من طريقته الفذة في تصيد أدقِّ المعاني والعبارة عنها بأوجز الألفاظ التي تبلغ غرضها وتعكس مرامها ولا تحوم حوله شأن أنداده من المعاودة أو التطويل ، ممَّا صيره فردا ً في ابتداعه وإتيانه بالجديد ، من غير إغراء أو ولع ببريق الكلمات الخاوية والمقفرة من أيما دلالة والقاصرة أيضا ً عن أنْ تجسد ما يجيش بوجدانه من عميق الإحساس والشعور ، أو يعنَّ لباله من الأفكار ووجهات النظر والرأي في تصاريف الحياة وهموم العيش وعلائق الناس مع بعضهم البعض ويشيع بينهم من صور الختل والمداجاة أو خلافها من أخلاق الصدقيَّة وحسن التعامل والوثوق بصفاء النيَّات والسرائر ، فجاءَتْ معطياته ولقياته الشعريَّة مستوفية خصائص الصياغة الفنيَّة والمستجمعة للمضامين والمعاني الموحى بها من نظر فلسفي معني بالتأمل والدهشة من هذه الأمور الغرائب التي تتوالى في حياتهم بكلِّ مفارقاتها ومبايناتها العجيبة ، كأنْ يخلص النعيم لخامل لمْ يبذل جهدا ً ما في طلابه وابتغائه ، ويتوافر العسر والاحتياج إلى الكفاف لساعٍ مجهود ، لكن تنسدُّ دونه الأبواب والمنافذ للوصول لِمَا يتطلع له ويرتجيه من رغابٍ ومنىً ، ومثله أنْ يسود الجُهَّال والأوغاد والمفسدونَ ويتحكموا بحياة الملأ بينا يحلأ عن صدارة التوجيه والسيادة والمقادة سائر الفضلاء والحصفاء والأناس الكُمَّل ، عدِ عنك من نتيجة هذا الاحتكام المتوارَث إلى ضمائر بني النوع في مختلف الأحقاب والدهور ، فتجيء لصالح المجدودينَ ، رغم تزيفهم وبهتانهم وإيغالهم في الخسائس ويغدو باطلهم حقا ً ، بينا ينقلب ما تمسك به وذاد عنه عاثرو الجد من نبيل الأهداف والمقاصد باطلا ً يرفضه الناس ويمقتونه صادفينَ عنه .
فلا مراء أنْ تعددَّتْ المباحث والتصانيف حول شعر المتنبي وما يزخر به من الفكر والشعور ، حيث يتوزَّع مدوِّنوها بين ذامِّينَ قادحينَ ومتخرِّصينَ وبين أشياع مادحينَ ومطنبينَ ، ويمثل ما بين هذين الرهطين ِ المتباينين ِ في أنظارهما وتخريجاتهما ، مُدَّعُو الوسطية المجانبة للدَدِ والتحامُل ، وكثيرا ً ما تتبنى أحكاما ً تلزم الموضوعيَّة والإنصاف وبمبعدة عن التغرُّض والافتراء ، حين ترسل انطباعاتها بصدد صياغته ونسجه ، وتُمَحِّص مضموناته ومعانيه ، فتشومها ملفعة بفكر فلسفي جديد ، وتجتلي حكما ً مستقاة ومستمدَّة من اختبار للطبائع ، وصِدَام بالمفارقات المجافية لكلِّ ما يصبو إليه من استواء حياة البرايا عليه من العدل والخير والاستقامة .
فلا يخلو أيُّ عصر تاريخي منذ انطواء حقبته ، من ظهور كتاب يستعرض فلسفته ويُعرِّف بآرائه ونوازعه ، ويستبين ما يبغيه من ورائها ، أو يرمي إليه ويتوخاه في تنديده أو تعريضه بحكام زمنه أو يستهجنه في الوقت ذاته من استبدادهم وتعسُّفهم وسوء تعاملهم مع رعاياهم ، ويندبُ كذلك سكوت أولاء الرعايا عن حقوقهم المغصوبة ، وإغضاءهم عمَّا يحلُّ بهم من الإجحاف والغبن .
ولا تتصورْنَّ إنَّ الطريق التي وضع فيها قدميه لأوَّل مرَّة سالكة لا تنجم منها تحذيرات ومثبطات ومخاوف ، وبوسعه أنْ يقول ما يشاء من ضروب الكلام المحتوي على الإقذاع والتجريح والقدح ، إذ لا يعدم أولئك الأسياد المتجبِّرونَ صنايع من الكتبة يلوذونَ بأكنافهم ويتمسَّحونَ بأذيالهم ، ويصدعونَ بما يشيرونَ إليهم به من مناقضة المتنبي والانتقاص من طريقته في كتابة الشعر والجهر ، بأنَّ ما يلهج به من رؤية فلسفيَّة لماجريات الحياة وظواهر الكون والطبيعة البشرية وتصرُّفات الناس لا يعدو أنْ يكون صياغة ثانية لمقولاتٍ وتأمُّلاتٍ تولى عنها فلاسفة اليونان القدماء ، وذاك مجمل ما عرض له الاستاذ إبراهيم العريض ، وألمَّ بجوانبه ومكوِّناته عبر دراسته الضافية التي استوعبها كتابه ( فن المتنبي بعد ألف عام ) .
وإبراهيم العريض كاتب وشاعر من البحرين ، أو هو بحراني وفق ترجيح هذه النسبة من لدن مارون عبود ــ بدلا ً من البحريني ــ وذلك في كتابه الأثير ( مجدِّدونَ ومجترونَ ) ، وخلال نقده لشعر إبراهيم العريض نفسه في ديوانه المسمَّى أو المنعوت بـ : ( شموع ) .
والرجل معجبٌ ومشغوفٌ بشخص المتنبي ورجولته وما زانه من خصال النجابة والتعفف والكرم ، وما تصطرع به نفسه من مشاعر حادَّة لا تمسك به عن النطق بصريح القول في تبكيت الحائدينَ عن الحقِّ والجائرينَ عن القصد ، واستند إلى منهج وطريقة في دراسة شعره وتفسيره وبحيث لمْ يسبقه سابق إلى مسمَّيات عناصرهما وتقسيماتهما من قبيل الصراحة الجارحة غير المبالية بوقع الكلمة في نفس من يخصُّه ويتوجَّه إليه بالتقريع والتنديد والاستلال من قدره ومكانته ، واشترط لها توافر جانب من اعتداد المرء بنفسه ووثوقه بصدق حُجَّته ودعواه ، وكذلك دقة الملاحظة المترتب بالضرورة صدق البيان وتجرُّده من أيِّما تهافت وسفسافيَّة وابتذال ، ويبتغي لمَن يكرِّس حياته للشعر ويوقفها عليه أنْ يغني ذهنه بمحصول ثقافي واسع وغزير عن شؤون الدنيا وأغراض الحياة ، وهذا ما يسمِّيه الاستقصاء الفني في التمثيل ، ومثـَّل لكلِّ من هذه المُسمَّيات المُبتدَعَة بأشتاتٍ وشواهد من شعره القوي الدَّال ، وكـذا يظلُّ المتنبي على طرف لسانه في أيِّ ندَيٍ ٍ ومحفل ٍ ، فحين حضر إلى بغداد أوائل صيف عام 1966م ، للمشاركة في حفل تأبين رئيس الجمهورية العراقية الأسبق عبد السلام عارف ، استدَلَّ بشعر أبي الطيب على تجزؤ الوطن العربي ، وتفرق كلمة مواطنيه واحتياجهم إلى من يوحد صفهم ويجمع شتاتهم ، ويزيل من حياتهم ما يشوبها من خسفٍ وهوان ، حتى لقد انساق وأوغل في الشرح والتفسير واستلفتَ أنظار جُلاس المقاهي من مشاهدي التليفزيون وقتها ، وهم من الأغمار والسذج في جملتهم ، واسترعاهم بزيه العربي المحلي ( العقال والغترة البيضاء والدشداشة ) ، إبَّان ظرف كان فيه عموم الناس يخالونَ التحدُّث عن الشعر والفكر والسياسة من شأن الأفنديَّة ، متجلببي البدلة الفرنجية ، فتهامسوا ما لهذا ( المعقل ) والمتنبي :
وَقتٌ يَضِيعُ وَعُمرٌ ليتَ مُدَّتهُ فِي غير أمَّتِهِ مِن سَالِفِ الأمَمِ
أتى الـزَّمـانَ بنوه فِــي شَبيبتهِ فسَرَّهُم ، وأتيناهُ عـلـى الهرمِ
………………
ذانك البيتان الشعريان المأثوران هما ما ترنم بهما متحسرا ً على ضياع أمجاد العرب الأصيلة ومآثرهم الباذخة ، وتلاهما أكثر من مرَّةٍ إذا ما أسعفتني الذاكرة .
أوَّل ما سمعْتُ أو قرأتُ عن إبراهيم العريض كان في غضون عام 1951م ، على صفحات مجلة ( الألواح ) اللبنانية المحتجبة التي أصدرها ببيروت الصحفي والمنشئ ذو البيان الناصع واللغة الرصينة ، صدر الدين شرف الدين ، بعد التحاقه بوطنه الأصلي لبنان إثر نزع الجنسية العراقية عنه نكاية بموقفه الشاجب لسياسة الحكم في العراق ، ومناوأته المعاهدات الجائرة التي يبرمها الساسة مع الأجنبي ، فأغلقوا جريدته ( الساعة ) ليصدر بدلها مجلة ثقافية باسم ( الألواح ) تلاقتْ على صفحاتها المكتنزة بالفكر الحرِّ والكلمة الهادفة أقلام : إبراهيم مصطفى ، ومهدي المخزومي ، ومحمد عيتاني ، وإبراهيم العريض ، وعبد اللطيف الجشي ، وعبد اللطيف شرارة , وغيرهم من الجهابذة والأساطين ؛ ومن ثم تعرَّفتُ عليه أكثر من تقديمه لاختياراته الشعريَّة التي ضمَّها كتابه المعنون ( مقدمة للشعر العربي الحديث ) ، وساجلتْ هذه التوطئة التمهيدية مرَّة لمختاره من الشعر الفني الذي خاله غير مستوحى من المناسبات في عمومه ، فأومأتُ إلى ما وقع فيه من التناقض والاضطراب في تحديده لمعنى فنيَّة الشعر ، وخطل نظرته لشعر أحمد شوقي ومحمد رضا الشبيبي ، عادا ً إيَّاه شعر مناسبة على حين أنَّ نصيبه من العاطفة الوجدانية وصدق الشعور لا ترقى إليه كثيرٌ من الشواهد المستأثرة بإعجابه ، ثمَّ دخلتُ في المختارات ، وأطلعني الإنترنت أخيرا ً على تولده بمدينة بومباي في بلاد الهند عام 1908م ، لأبٍ بحراني يتاجر باللؤلؤ وأم ٍ عراقية في ذلك التاريخ البعيد ، فمن هي هذه الأسرة المنجبة للأم المغتربة ومَنْ هم أخواله وخالاته إنْ كان لها أخوان وأخوات ؟ ، وتعلم إبَّان شبيبته بمدارس الهند ومارس تدريس اللغة الانكليزية بمعاهد البحرين بعد إيابه إليها ، وانخرط في السلك الدبلوماسي بعدها حيث عين سفيرا ً في غير حاضرة معروفة ، فحيي حياة عريضة وطويلة على تشخيص الرئيس ابن سينا ، فقد عَمَّر إلى الأربعة والتسعين عاما ً وغادرنا عام 2002م ، مبقيا ً بعده أشعاره المودعة في أكثر من ديوان ، غير أنـَّها نكصَتْ عن أنْ تطوق هامه بالألمعية والنبوغ ، غير سفره المتعمق بتجربة المتنبي وتوشجه بمواضعات عصره وتمرُّده على مشيئة حكامه وإنْ قصدهم لتحقيق مطلبٍ من مطالبه العديدة المحفوفة بالأسرار والملابسات المتصلة بنشأته ، وهذه هي الحياة العريضة .
وكذا استقرى وجهة نظر بصدد نسب المتنبي ، حاكى فيها الدارس المصري محمود محمد شاكر في تحريه واجتهاده فوصله بالعلويينَ ، واقتفى منواله من بعد الباحث الموصلي الراحل عبد الغني الملاح مُؤَمِّنا ً على حقيقة دعواه عبر كتابه الموسوم ( المتنبي يستردُّ أباه ) ، والذي مضَتْ الأيَّام في سبعينيات القرن الفائت ، ولمْ ينبرِ لمساجلته واحد من النقدة ويكتنه منه في ما إذا كان مضلا ً في استقرائه وتخريجه أم مصيبا ً ، فقد كان الوسط الأدبي يومها مهموما ً ومنشغلا ً بمشكلات القصَّة القصيرة وتقعيدها على أساس من معاناة البطل القصصي للإحباط والانكسار إثر ما مُنيَتْ به حركة 14 تموز من انتكاسٍ وخيبة أمل لمريديها ، لاحظ خطالتهم في تفسير معنى البطولة واقترانها بفشل بطلها في كلِّ ما يشرع فيه من مبادرات واستجابات ومشروعات .
وبخصوص ما ابتدعه مِن هذه الصراحة الجارحة وسير المتنبي على هداها وضوئها في تقريع الطغاة والظالمينَ ومناكدتهم ، بحيث لا يتورَّع أو يمسكه عاملٌ أو اعتبار ما عن قذفهم بشتيمته واعلانه ظلامته جهارا ً ، قطع أنْ لا أحد من الشعراء المعاصرينَ في البلاد العربية يشاكله في هذه الخصيصة سوى العراقي محمد مهدي الجواهري ، إلا أنـَّه يشكُّ بإبقائه على هذه الخصلة أو سلمت هي له حتى عام 1962م ، عام فراغ إبراهيم العريض من كتابة أو رسالته عن المتنبي ، وما أرى هناك مدعاة لهذا الشكِّ الغريب ، ترى أ عدم الجواهري في تلك الآونة الجيشان الشعوري وخمد البركان المتأجِّج في أعماقه من العواطف المضطرمة إبَّان ذلك العام أو قبله ؟ ، فقد آثر إبانه النزوح من العراق المبتلى بالصراعات والمناكفات والتقاطعات مع حاكميه ، وفضَّل التوطن في بلاد العالم البعيد بعد ما ضاقت عليه فضاءات العراق الغالي ؟ .
وفي واحدٍ من هوامشه المستدركة على بعض ما توصَّل له من مسلماتٍ ونتائجَ ، أو الموضِّحة والمزيلة لما يشوبها من غموض ، توقف عند كتاب ( مع المتنبي ) للدكتور طه حسين فوسمه بالهزيل ، صحيحٌ أنَّ عميد الأدب العربي كانَ متعجلا ً حين أرسل بعض الآراء والأحكام شبه اليقينية في غير فترة من وجهة نظره ، وقد لا يقرُّه أحدٌ عليها بخصوص نسب المتنبي وغيرها ، وأبدى شيئا ً غير قليل من التحفظ والاعراض عن استعذاب شعر المتنبي ، لكنْ كانَ الأحجى بالمؤلف الكريم أنْ يتحاشى هذه النبوة الزارية في الحكم ويجانبها ، وذلك أنَّ زهونا واعتدادنا وافتخارنا بمأثور أبي الطيب المتنبي ينسحب على ما للعميد من دالاتٍ على الآداب العربية إحياءً ونشرا ً ووصلا ً لها بالحضارات وانفتاحا ً على العالم ، فقد انحسر عثيَرُ الغبار المُذرِّ لـمواراة أثره هـذا وطمسه ، وبقي لنا وسيبقى بيانه السهل والعجيب والفصيح مثار لدَدٍ ومماحكة حول إمكان مضاهاته فيه من عدمها ، حاكيا ً ارتداد شانئيه عن الإتيان بشيء منه ؟ .