«طـــوق الحمام».. عن مكة لا نعرفها

رجاء عالم تكســـــر « نصف احتكار» الرجال لجائزة « البوكر»

«طـــوق الحمام».. عن مكة لا نعرفها

رجاء عالم أول روائية تختارها «البوكر العربية». تصوير: إريك أرزاس

ثمّة محبّون وأصحاب لوعة، في «طوق الحمام» للكاتبة السعودية رجاء عالم، لكنهم لا يشبهون كثيراً الاف ابن حزم في «طوق الحمامة»، فلوعة بعض العشاق في رواية رجاء عالم تؤججها الحرقة على مكة لا يعرفها كثيرون، وعشاق المكان متباينون، شباب بأحلام مجهضة، وموؤدات في غرف بلا نوافذ، ووافدون من فجاج الأرض يحلمون بشراء منازل في أوطانهم الأولى، في مقابل آخرين يشوهون عراقة «أم القرى»، ويتاجرون بالمقدس، ويبيعون الوهم، ويعتبرون أنفسهم ورثة المكان.

خطت رجاء عالم لفنها ذي الوجوه المتعددة، شكلاً خاصاً ـ اتفق البعض معه أم اختلفوا، وتميز حسها الروائي عن سواها، لاسيما بين نظيراتها في المملكة، فبينما كانت كثيرات من الكاتبات السعوديات مهمومات بتوصيل أصواتهن الحبيسة عبر فضاء القص، أياً كان شكل ذلك، حتى لو تحول إلى صراخ مباشر بعيد عن الأدب الحقيقي أحياناً، عكفت رجاء عالم على مشروعها الخاص، الباحث عن مساحة في ساحة أرحب، وكان لها ما أرادت بعد روايات عشر، إذ استطاعت «طوق الحمام» أن تكسر «نصف احتكار» الرجال لجائزة البوكر للرواية العربية التي أعلنت نتائجها، أول من أمس، في أبوظبي، متقاسمة الجائزة مع «القوس والفراشة» للمغربي محمد الأشعري.

أعمال

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/368617.jpg

 

ولدت رجاء عالم عام 1963 في مكة المكرمة، بالسعودية، بدأت النشر في الملحق الثقافي في جريدة الرياض. وأصدرت 10 روايات، اثنتان باللغة الإنجليزية «فاطمة» و«ألف ليلة وليلتي»، وأربع مسرحيات. كما أصدرت كتباً فنية عدة بالتعاون مع فنانين، مثل التونسي نجا المهداوي، وشقيقتها الفنانة شادية عالم، والمصورة الأميركية ويندي أيوالد. واشتركت مع شقيقتها شادية عالم في تأسيس مركز ثقافي في مكة المكرمة. تلقت جوائز أدبية عدة في بلدان عربية، وكذلك في باريس ومدريد، مثل جائزة «كتاب في جريدة» 2005 بمناسبة الاحتفال بـ60 عاما على تأسيس «اليونسكو»، وذلك لدورها في إبداع المرأة العربية. وفازت بجائزة ابن طفيل للرواية من المعهد الإسباني العربي للثقافة في تونس عن روايتها أربعة صفر. ومن بين أبرز أعمالها «موقد الطير»، «خاتم»، «نهر الحيوان»، «الرقص على سن الشوكة»، «الموت الأخير للممثل»، «طريق الحرير».

تحتشد الرواية التي لن يستطيع البعض معها صبراً (566 صفحة مضغوطة، كان من الممكن أن تصل إلى 800) بالكثير من التفاصيل، وتتجاور فيها بشكل مركب الوقائع الحياتية المعاصرة مع الاساطير والأحلام والإحالات التاريخية، وتنتقل الرواية بين مكة وجدة والطائف، ومناطق أخرى حتى تمتد إلى مدريد في إسبانيا، فيما لا تتبدل لغة رجاء عالم التي تقدم الرمز والإشارة، والإبهام والتجريد والتركيب، على ما سواها، بغض النظر عن طبيعة الشخوص، طالما ميدان السرديات مفتوح، ولجنة تحكيم البوكر ترى في ذلك ما يستحق نصف الجائزة.

 

«أبوالرووس»

تؤرخ رجاء عالم بالسرد لأمكنة حجازية ذات خصوصية، ولساكنيها أيضا، مازجة بين الواقعي والأسطوري، والماضي والحاضر، فغير بعيد عن أنوار مآذن الحرم المكي، تدور حكايات رجاء عالم في «طوق الحمام»، في زقاق هامشي، يعد جزءاً من مكة لا يعرفها كثيرون، زقاق «أبوالرووس» الذي يتطهر المعتمرون فيه، على أطراف مكة المكرمة، والذي سمي بذلك بسبب واقعة شهيرة في عهد أحد أشراف مكة، إذ علقت في أطراف الزقاق أربعة رؤوس لرجال أدينوا بتهمة سرقة كسوة الكعبة، بعد أن استغلوا فرصة الاحتفال بموكب المحمل المصري، وخروج الشريف وعسكره لاستقبال المحمل مع أعيان مكة فسرقوا الكسوة القديمة، ولكن القي القبض عليهم، وعلقت رؤوسهم في الزقاق.

أبوالرووس في «طوق الحمام»، الصادرة عن المركز الثقافي العربي في المغرب، كيان وشخصية وشاهد وراوٍ، وليس مجرد مكان يسجل ساكنوه انطباعاتهم عنه، بل هو الذي يرصد تحركات الناس، ويخفي حكايات العشق التي تدور خلف الابواب المغلقة، ويتعاطف مع أسرار البنات، ويتحرك عبر الماضي والحاضر.. يسجل ما كان عليه، ويئنّ من التشوه الذي يطال كل شيء في المدينة ذات القداسة، مكة المكرمة، بغرض الاستثمار والكسب تحت دعاوى التطوير، وتغيير الاسم من«أبوالرووس» إلى درب النور، وطمسه كما الحال مع معالم تاريخية كثيرة في «أم القرى»، ما يعتبره أحد أبطال الرواية «إبادة جماعية» تمارس ضد المكان وسكانه، ونهب منظم للتاريخ «التطوير هنا رهيب.. مليارات تصب مع كل طلعة شمس هنا، الشركات العملاقة هي دولة كونية خارجة عن قوانين الدول، آخرها عقد بثلاثة مليارات دولار لشركة الإيلاف القابضة لاستثمار جبل هنا وآخر هناك.. لو خرج أبوالرووس في نزهة بمكة سيظن أنه بعث بنيويورك».

«جثة»

يصحو أهل «أبوالرووس» ذات صباح على حادثة تقوم عليها حبكة الرواية، إذ تعثر إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية (معاذ المصور) على جثة امرأة عارية، مشوهة الوجه، ما يشي بأنها حادثة قتل، يبحث الجميع عن المبرر لها، والتعرف إلى صاحبة الجثة التي تصلح أن تترشح لها كل بنات «أبوالرووس». يسعى المحقق والضابط ناصر إلى كشف غموض الجريمة، حيث يقوده ذلك إلى ولوج عوالم عائشة وعزة، ابنتي الزقاق الغائبتين، إذ يعثر على رسائل إلكترونية خاصة بعائشة، كتبتها إلى حبيبها الألماني، ويظل ناصر يطالعها في كثير من صفحات الرواية.

وكما أن كثيرات مرشحات لأن يكن صاحبات الجثة (هل هن مقتولات جميعاً؟)، فكذلك شخوص عديدون تحوم حولهم الشبهات، وأن يكون واحد منهم قام بتلك الجريمة من وجهة نظر المحقق على الأقل، وأول المتهمين يوسف الممسوس بالتاريخ، والحائز شهادة فيه من جامعة أم القرى، صاحب العمود في صحيفة سعودية، عاشق تفاصيل مكة وعزة حبيبته، والثائر الذي اتهم بالجنون والالحاد غير مرة، خصوصا بعد أن اقتحم المسجد في صلاة الفجر، واختطف مكبر الصوت من الإمام، وقال: «أنتم أهل الزقاق يا من أحب وأكرس مقالاتي لطرح قضاياهم الخاسرة. واخترقت عيناه في صفوف الوجوه المذعورة، أنت سرقتم حياتي. خنقتم كل روح شابة في الزقاق. انتم عصبة ضد الحياة، من المنافقين والكاذبين. تسموننا نحن شباب أبوالرووس، تحولتم لزقاق من الجواسيس تتجسسون على أشد نوايانا وأحلامنا حميمية، ولقد نجحتم في تحويل لحظاتنا الخاصة إلى جحيم، ومع ذلك تجرأون على الوقوف بين يدي الله في صلاة تذاع بمكبرات الصوت خمس مرات يوميا، تصلون متوسلين أن يدخلكم فسيح جناته وقد ضيقتم علينا الحياة.. موجهاً احتقاره إلى الشيخ مزاحم أنت بيسراك تبني سجنا وبيمناك تبني مسجداً وتخطب مبشرا بالإيمان، أي إيمان؟ الإيمان ببنت تئدها كل يوم، يعلم الله أنك ستحاسب أمامه يوم الدين على هذا الركوع والسجود.. لا احد منا يدرك معنى أن نكون مجاورين لبيت الله الحرام، وما يقتضيه هذا الجوار من أن نحتفل بالحياة أم نحاربها؟».

يتملك الغضب جميع من كانوا بالمسجد، يصفون يوسف بالشيطان الرجيم، ويوسعونه ضربا، حتى يفقد الوعي، ويغطون وجه «الشيطان» كي لا يرونه، إلى أن تأتي أمه (حليمة) غير عابئة بالجميع، مخترقة الحصار حول ابنها، ولكنها تفقد وعيها هي الأخرى، وتسقط متداعية بين يدي عزة، حبيبة يوسف الذي ينقل إلى مستشفى للأمراض النفسية، تصور الرواية الجو المقبض للمستشفى، والعالم الصعب الذي يعيش فيه المرضى. يتعرض يوسف لقيد جديد في المستشفى، ولجلسات كهربائية كثيرة، ويخرج بعد فترة، وتتركه أمه «بين يدي الله» في الحرم المكي. ويبدأ بعد حين رحلة صراع جديدة لكشف مخططات تغتال المدينة المقدسة.