الأدب الممسوخ – “نقد كائن يمرح في العدم” في حضرة سيوران
نقد “كائن يمرح في العدم” في حضرة سيوران
“نصوص تأملية سردية.. تتقارب كتابته لمفاهيم فلسفية، يعتمد على فكرتين، هما العدم والوجود”
“نقلة نوعية في الكتابات الأدبية ذات البعد الفلسفي” …إلخ
عند المرور بأسماء الكتب الكويتية في السنتين الأخيرتين من معرضي الكتاب 2014 و2015، ستجد أن كتاب “كائن يمرح في العدم” قد تردد اسمه كثيراً، ولاقى استحسان المثقفين والأدباء والقراء عموماً. لذلك فإن المراد من النقد ليس نقد الكاتب أو الكتاب بذاته، بقدر ما هو نقد للآراء التي رفعت كثيراً من شأنه، حتى صوّر أنه “من أهم الكتب الكويتية التي صدرت مؤخراً”. ولو كان ذلك صحيحاً حسبما يتداول ممن هم محسوبون على الثقافة في الكويت، فهذا يعني أن ليس عندنا إنتاج فكري يمكنه أن يعكس حالة الفرد أو المجتمع الآنية، سوى مسخ من فلسفات غربية انقضت، وبعيدة كل البعد عن أن تعكس تجربة الفرد الذاتية. لذلك رأيت أن أنقل رأيي في نقد ليس ذا منهج علمي أكثر من كونه انطباعاً يسير معاكساً للآراء المتداولة. ووعدت نفسي ألا أطيل في ذلك على أن أكتفي بثلاثة محاور فقط، محاولاً التطرق لبعض الأمثلة والنماذج على عجالة.
الأول: إساءة استخدام مصطلح “العدم” فلسفياً في الكتاب بصفحاته المئة. والثاني: نقد محاولات تقديم فلسفة مجتثة من سياقها التاريخي والثقافي، وإقحامها في موضوعات الكتاب. الثالث: انعدام التجربة الذاتية ما أفقد العمل خصوصيته.
أولاً: مشكلة “العدم”
من الواضح جداً أن الكاتب استند في كتابه على مصطلح لا يحمل دلالة بذاته إلا في سياق معين، فعندما يكتب في العنوان “كائن يمرح في العدم” فإن السؤال الذي ينبغي طرحه: ما الذي يقصده الكاتب من “العدم”؟ وإن عدنا إلى السياق، يزداد الأمر غموضاُ، حيث لا يمكن للمرء أن يمرح في عدم لأنه غير موجود أصلاً، فالمجاز الذي لجأ إليه الكاتب في التعبير عن عدم الوجود، أي قول أن عدم الوجود أفضل من الوجود، يبين استخداماً محدداً للمفردة بدلالة معينة، تماماً كما يفعل في الأمثلة التالية:
“مدفوعاً بتيارات الزمن، من وادي العدم”
“لقد وجدنا في العدم فسحة أكبر، فهيّا الآن بك إلى العدم”
“كل ما يلزمني هو أن أمارس عدم وجودي”
“العدم هو قلعتنا المفقودة … طردنا منها على شكل ولادة”
المشكلة الأولى التي وقع فيها تكمن في عدم مراعاته السلب لمصطلح “العدم” في تلك السياقات، معتبراً أن الذات تنفي وجودها، وتضفي إليه وجوداً آخر اصطلح عليه الكاتب ب”العدم”، ولكون الذات هي نفسها جزء لا يتجزأ من الوجود، فإنه من العبث إعطاء ماهية للعدم كشيء موضوعي خارج الذات، كما يتحدث عن عدم وجود إناء على الطاولة، حيث وجود الإناء من عدمه موضوع بالنسبة إلى الذات التي ترى وجوده أو عدمه، ولا يمكن تطبيق الشيء نفسه على الوجود الذي هو جزء لا يتجزأ من الذات وليس موضوعاً كالإناء. إذ يمتد المدرِك وهو الذات من الوجود، وليس من العمليات السالبة المطلقة التي يقوم بها الذهن. وأي محاولة لتحديد ماهية للعدم كما يقوم الكاتب لا تكون إلا تلاعباً لفظياً بفكرة السلب. وقد أدرك ذلك الفلاسفة الوجوديون -الذي قفز الكاتب إلى نتائج فلسفاتهم كما سأبين لاحقاً- في سياق حديثهم عن العدم بصفته السلبية نقيض الوجود، وأحالوا تفسير “العدم” على أنه شعور، نتيجة للقلق عند كركيجارد، أو مفهوم العلو عند هيدجر، أو الحرية عند سارتر، وسبقهم هيجل في التصور الديالكتيكي للعدم في قوله “إن هذا الموجود المحض هو التجريد المحض، وتبعاً لذلك السلب المطلق الذي لو أخذ هو الآخر في لحظته المباشرة فإنه هو الوجود نفسه” ومعنى هذا أن مفهوم العدم لا ينفصل عن الوجود إلا في الذهن والذي يرجع أصلاً إلى الوجود في حال إضفاء ماهية له، وحسب تعبيره أيضاً “ليس ثم لاوجود إلا على سطح الوجود”. هذا إن أخذنا بعين الاعتبار أن المعنى المقصود من كلمة “عدم” هو عدم الوجود، معتبرها معياراً للحكم على الوجود من حيث الأفضلية، خصوصاً أن الكاتب استخدم لفظ “كائن” والتي تحمل بعداً فلسفياً أيضاً، ما لا يحتمل إلا أن يكون موجوداً.
يمكن أن يعترض أحد على هذا التمحيص المبالغ به للغة الأدبية، الثائرة على أي علاقة للدال والمدلول، وأن ما يقوم به الكاتب هو أخذ المصطلح لبعد آخر. على الرغم من تحفظي الشديد على استخدام هذه اللغة في كتاب يبدو أن مسعاه تقديم فكرة أكثر من كونه يقدم زخرفاً لفظياً واستعارة، إلا أنه عند قبولي بمثل هذا الاعتراض وتجاوزي لكل ما سبق ذكره، أجدني أدخل في مشكلة أخرى، فعند متابعة قراءة الكتاب تتضح استخدامات أخرى لكلمة “العدم”، ودلالات لا تتفق مع دلالة العدم في مجاز العنوان، أو أي من السياقات التي عرضتها، ما يحتم علينا إعادة طرح السؤال: ما الذي يقصده الكاتب حقاً من هذا المصطلح؟
ففي ص48 مثلاً يتحدث عن الكتابة “إن الكتابة فعل نفض. محاولة لإزالة فتات العدم المتشبث بنا”
فهل “العدم” هنا جاء بذات المعنى الذي ورد سابقاً، أي عدم الوجود، كما في العنوان؟ فكيف تكون الكتابة مرتبطة بأي شكل من الأشكال بعدم الوجود؟ أو أن لها دلالة أخرى لكن تشابه المصطلحان؟ على أنه يشير في هذا السياق إلى كون الكتابة طريقاً للتسلية إزاء الملل الناتج عن تفاهة الوجود، ولكن بأي اعتبار لجأ الكاتب إلى مصطلح “العدم”؟ وما الذي يعنيه؟
وفي ص68 يتحدث عن القلق “يأتي القلق، الذي هو فعل عدم”
في سياق حديثه عن ملل الإنسان الوجودي “تمارس الملل، وكأنك محكوم بحساب زمن الأبدية”
ولكن لم يتضح كيف يكون القلق فعل عدم، وما الفرق الذي عناه بين القلق والملل، بوصف الملل أنه “تنفس الديمومة” والقلق “تنفس الفناء”؟ كما أردف وصف الخلود بأنه أشد حالات الإنسان مللاً. بينما الموت بالنسبة له أشد حالات الإنسان قلقاً. ولكن كيف يمكن للقلق أن يرتبط بالموت وبالتالي بالعدم؟ وما الذي يختلف القلق عن الملل في ارتباطه بالوجود الإنساني، فكيف يكون الأول عدماً والثاني ديمومة؟
وفي ص78 يصف حالة الاستيقاظ من النوم في الصباح كونها أقل حالات الكائن وجوداً، ولكن لم يبين لنا كيف يكون ذلك؟ حتى نجد كلمة “عدم” تقتحمنا مرة أخرى بدلالة غامضة عندما يقول
“يكون المرء أكثر صفاء عندما يستيقظ، لأنه يملك شوائب عدم متعلقة به”
ومن الواضح أن الكاتب أراد أن يشير إلى حالة ما بعد الاستيقاظ، أي الحالة التي يكون فيها المرء أقل وعياً، باعتبار النوم فقدان وعي بغض النظر عما يصاحبها من أحلام. وفي الصفحة التالية يقول “النوم هو وسيلة لإلقاء نظرة من بعيد على العدم”
وفي ص91 يقول “ثمة منافذ خفية تربط بين العدم والوجود. أغلبها يتفتح في الليل، فيتسرب إلينا من خلالها بعض من مادة العدم”
دون أن تتبين علاقة العدم باللاوعي المرتبط بالنوم -ولو مجازاً- في تلك السياقات؟ فكيف يكون الليل أو النوم مرتبطاً بالعدم؟ وما أغراض تشييء العدم بجعله مادة؟ وكيف يخدم ذلك معنى اللاوجود الذي بدأ به كتابه؟ لذلك يعاد طرح سؤال ما معنى العدم مرة أخرى.
وفي ص94 يتحدث عن “سيكلوجية العبد القديم” وفقدان حريته أو شكل من أشكال الهوية”هذا القلق الذي يملؤه، ليس إلا اضطراباً شديداً من مادة العدم التي تسكنه”.
فما علاقة فقدان الحرية بالعدم؟ أو ما الذي استدعى “مادة العدم” لسيكلوجية العبد؟ وفي ذات الصفحة يتحدث عن كائن ما، لا يعرف أحد ماهيته، ويسأل السؤال الآتي “ما معنى أن يكون الإنسان، بلا كينونة؟ أن يوجد ولكن كعدم؟”
دون أن تبدو أي ملامح لمغزى التناقض الذي يتعمده، حتى في تجاوزنا للمجاز. ويبقى غرض هذا التناقض مبهماً تماماً كمفهوم “العدم” الذي يشير إليه.
وفي ص86 يقول “هذا لا يجعلهم في عدم تام، بل في عدم مختلف”
في تصويره الإنسان منتظراً القيامة في البرزخ حسب المنظور الديني، مضيفاً “لا سبيل هناك إلى العودة للعدم المحض”
وكما في السابق، لم نفهم كيف يكون العدم عدماً محضاً أو عدماً مختلفاً وهو أصلا عدم؟ إذ أن دلالة الكلمة لا تحتمل هذا الاستحضار في نفس الوقت كونها سالباً، أو تصنيف العدم عدماً مؤقتاً كالنوم، وعدماً دائماً كالموت في ص92
كما ظل مصطلح “العدم” يستخدم مراراً وتكراراً في الكتاب بما لا يتحمله، مع اختلاف دلالته حسب السياق، ومعظمها لا معنى له، ولكن نكتفي بالأمثلة السابقة.
ما يمكن قوله هو إن كان مراد الكاتب تقديم أفكار مقدّرة، فعليه أن يحترم الكلمات ودلالاتها دون العبث بالمفردات لمجرد زخرفها، أو إيحاءاتها ذات الخلفية الفلسفية. وإن لم يرد سوى استعراض للبلاغة والبيان بلا معان مرجوة، سيفقد الكتاب جودته بفقدان جودة المعاني -سأتحدث عنها مفصلاً لاحقاً-.
وبعيداً عن المصطلحات التي تحمل دلالة خاصة أساء استخدامها الكاتب كـ”كينونة” و”الزمن”، يكفي إلقاء الضوء على المشكلة في مصطلح “العدم” لسببين رئيسيين; أولهما أنها موضوع الكتاب الرئيسي وعنوانه، أي من المفترض أن تكون مفتاحاً لفهم موضوعات الكتاب وتأويلاته بناء على اللغة المستخدمة كرموز، أما السبب الثاني أننا لو تجازونا الثغرات التي وقع فيها الكاتب، في محاولة تقريب معنى لاجدوى الوجود، وتفاهة الحياة ..إلخ من مقاصد، التي تكمن وراء تشييء “العدم”، فإنها تحيلنا إلى حقبة في الفلسفة الغربية تردد فيها المصطلح كثيراً، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، التي تمكننا ملاحظة الأفكار المستعارة من هذه الحقبة والتأثر بها من قبل الكاتب، كما سأبين في التالي.
ثانياً: مشكلة الوجودية والعدمية في الثقافة الغربية
بمجرد إلقاء نظرة سريعة على الكتاب، سيتبين للقارئ أن ما يناقشه الكتاب يقترب وإن لم يكن يلاصق النقطة التي وصل إليها تفكير الثقافة الغربية في القرن العشرين، أو كما يوصف ب”عصر اللامعنى”، هذا الشعور العام بفقدان المعنى والهدف الذي سيطر على الأدب والفلسفة والفن، نتيجة فقد الثقة بالدين والعلم ومشروع الحداثة الموعود، ما جعل الثقافة الغربية تنتكس لما لا يقل عن مئة عام، هذه الانتكاسة ألقت إلينا بالفلسفة المعروفة بالعدمية وتلتها الوجودية، كردة فعل على الويلات التي ألحقت بالعالم من حروب وكوارث وصولاً إلى الحربين العالميتين.
ومن المهم أن نفرق بين الوجودية والعدمية من حيث النتيجة، لتساعدنا في تفصيل الأفكار التي ينتمي إليها الكتاب. فعلى الرغم أنهما سلكا ذات الطريق في فقد الأمل بالعالم وبالوجود البشري ككل من حيث لا جدواه وفقدانه المعنى، إلا أن العدمية تفقد الأمل من عند آخره، وتتوجه نحو الموت باعتباره التفسير النهائي للوجود. أما عند الوجوديين خصوصاً المتأخرين منهم كسارتر، يرون أن المعنى يخلق من الذات، مستفيدين في ذلك من منهج هوسرل الظاهراتي، وأن معنى الوجود لا ينفصل عن الذات ونتاج سلوكها في الوجود الخاص بها، الذي ينتج عن ذلك أمور أخرى كالعلو عند هيدجر في الوجود الأصيل، أو المسؤولية والحرية عند سارتر كنموذجين، وبالتالي فإن الوجودية تبحث عن المعنى في الفرد الذي يخلقه بنفسه، بينما تفقده العدمية كلياً. وأحدثت هاتان الفلسفتان -بغض النظر عن الاختلاف- تأُثيراً عميقاً في الفكر والفلسفة والأدب والفن، وشكلت موضة فكرية عارمة في الغرب. لكن سبقت العدمية الوجودية زمنياً، وتجاوزتها بعد ذلك الوجودية محاولةً احتواء ثغرات الفكر العدمي وشللها فكرياً. ويمكن تلخيص رد الوجوديين على العدميين، أن الإنسان موجود لا محالة، ولا طائل من التركيز على الفناء بدلاً من الوجود نفسه.
رغم محاولات الوجودية والوجودية الجديدة لترقيع الفكر العدمي، إلا أنهما وجهت لكليهما انتقادات كثيرة، منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم، كأن يقال أنها تبالغ في تصعيد نظرة الفرد نحو الوجود غاضة النظر عن التأثيرات المعترضة له، التي تحتم نشأة هذه النظرة، كالبيئة والثقافة واللغة، ما يمكن إحالته إلى تأثر المجتمع ككل بمفكريه بالأوضاع المأساوية عند الغرب في مرحلة ما، خصوصاً عند الطبقة البرجوازية الأوروبية. مثل قول وليم باريت “الوجودية صنع مجتمع برجوازي منحل” إضافة إلى آراء البنيويين التي ترجع مشكلة الوجودية كلها إلى مشكلة لغة، والمصطلحات التي صكها هذا النمط من التفكير هي التي أدت إلى ما يسمى بالقلق الوجودي. لكن ليس النقد ذاته مهما، فعلى الرغم من تجاوز الغرب لمعظم الأفكار التي قامت عليها الوجودية في ذاك الوقت، إلا أنها ما تزال حاضرة في فكر الإنسان الغربي المعاصر، وانتقلت إلى المجتمعات الأخرى تأثراً بطبيعة حال الترجمة والاستعمار الثقافي..إلخ، ولكن حضورها خفت مقارنة بالظروف التي مهدت لها طريق الشهرة، واستنفاد طاقاتها وموضوعاتها على مدى قرن ونصف من الزمان.
فلو قرأنا النص الآتي مثلاً:
“يغرس الواحد اصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشتمها، وأنا أغرس اصبعي في الوجود، فينمّ عبيره عن اللاشيء، فأين أنا؟ ومن أنا؟ وكيف جئت هنا؟ وما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ وكيف وصلت إليه؟ لماذا لم أُسأل؟ ولماذا لم أُؤهل لأتطبع بطرقه وعاداته؟ بل قُذفت إلى جوعه وكأنما اشتريت من خاطف ملعون أو من تاجر أرواح؟ وكيف أصبحت مهتماً فيه؟ أوليس أمراً طوعياً؟ وإذا كنت مرغماً على تمثيل دور فيه، فأين هو المخرج؟ بودي لو أراه!”
وقرأنا بعده النص التالي
“السلام عليك أيها العالم، اعذرني فقد جئت متأخراً إلى احتفالك الكبير. إنه القرن الواحد والعشرون. لقد تأخرت تاريخاً بأكلمه، وفاتني ما فاتني من الوساخة والبهاء … ولكني وصلت أخيراً، مدفوعاً بتيارات الزمن من وادي العدم، هذا إذاً المكان الذي نزح الجميع إليه. هذا ما يسمى بالعالم. آه أي خيبة هذه؟”
فإن الواحد منا لن يقدر على استيعاب أن هناك ثغرة زمنية وثقافية بين النص الأول لسورين كيركجارد في رواية “مراجعة” التي كتبها عام 1848، وتعد بداية الفلسفة الوجودية قبل أن يذيع صيتها للظروف التي ذكرناها، وبين النص الثاني الذي يحسب على القرن الواحد والعشرين في عام 2014. ورغم هذه المفارقة، إلا أن الوجودية بعد كيركجارد أخذت منحى آخر على يد أدباء وفلاسفة ككافكا ونيتشه وبروست وبيكيت وكامو وسارتر وساباتو ..والقائمة تطول.
وفي ذات الوقت، فإن بعض الأفكار التي يتبناها الكاتب في كتابه -عشوائياً بعض النماذج-
“لقد كانت ولادتي، أول خطواتي نحو الموت”
“لقد وجدنا في العدم فسحة أكبر، فهيا الآن بك إلى العدم”
“وما إن تدرك الحياة، حتى تدرك فداحتها وتتمنى الموت”
مع تجاوزنا لمشكلة مصطلح “العدم”، نجد استعارة مشوّهة للفلسفة العدمية في القرن التاسع عشر في أوروبا، قافزاً إلى نتائجها التي ترى في الفناء خلاصاً للبشرية من معاناة الوجود، مكرراً هذه الفكرة طوال الصفحات في الكتاب، دون أن نلحظ أي مقدمات يمكن أن تقودنا إلى أي شيء، كتلك الظروف التي عانى منها المجتمع جراء نتائج الحداثة، والفردية، والتنوير، ما أدى إلى انتكاسة المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، لذلك شك المجتمع آنذاك في كل شيء، في العقل، والعلوم، والأخلاق، وصولاً إلى الوجود نفسه، وتشكلت لنا العدمية.
وهذا ما يقودنا إلى المحور الثالث، وهو غياب تجربة الكاتب الحقيقية.
ثالثاً: مشكلة التجربة الخاصة
يقول غالب هسّا مترجم كتاب “جماليات المكان – باشلار” في مقدمته:
“العمل الأدبي حين يفقد المكانية فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته، إنني أشعر عند قراءة عمل كهذا أنني أقرأ ظلاً شاحباً لعمل قرأته من قبل، فلهذا أسميه بالأدب الكوزموبولتاني )الكوني(، ولتوضيح هذا المصطلح في مواجهة وتضاد مع مصطلح الأدب العالمي، أقول: أن ما أعنيه بالأدب العالمي هو ذلك الأدب الذي يستطيع أن يتبناه الإنسان ويجد فيه خصوصيته، أي ذلك الأدب الذي تقول لنفسك حين تقرأه: “هذا ما كنت أريد قوله، ولكن هذا الكاتب سبقني إليه” ومثل هذا الأدب يشق طريقه إلى العالمية، ولكنه يفعل ذلك -وهذه مفارقة- عبر ملامح قومية بارزة. أما الأدب الكوزموبولتاني فهو ذلك الذي يفتقد الخصوصية. تحس أنه يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم ولأي إنسان عدا مكانك وشخصك كقارئ، إنه أدب يشعرني بالغربة عن العالم، إذ يقول أن الإنسان هو مجموعة الأفكار المسبقة عنه، وهو ما يجب أن يكون، فيجعلني ذلك أحس أني مختلف عن الآخرين، وأن هناك خطأ في تكويني”
حرصت أن أقتبس هذا المقطع كاملاً بلا اختصار أو إيجاز، لإيماني بأهميته في خدمة النقطة التي أود ذكرها بخصوص الكتاب، والتي أراها الأكثر أهمية مقارنة بالمحورين السابقين، فظروف المكان والزمان والبيئة والمجتمع هي ما تخلق التجربة الخاصة، وما نقصده بالتجربة الخاصة هي الفكرة التي تأتي نتاج معايشة ومعاينة واقعية، والتي ترتقي أن تكون فكرة في كتاب ما. يقول هسّا أيضا في نفس الكتاب:
“المكانية تذهب إلى أبعد من ذلك، وهي أكثر تحديداً. إنها تتصل بجوهر العمل الفني، وأعني الصورة الفنية. وإذا عدنا لمصطلحي العالمية والكوزموبولتانية، فسوف نرى أن الأدب العالمي هو الذي يتم التعبير عنه بالصورة، بينما يعبر عن الأدب الكوزموبولتاني بالزخرفة: الاستعارة والكناية والمجاز وغيرها. وأن الأول ينقل تجربة، في حين أن الثاني يعبر عن فكرة.”
فلو أخذنا نموذجاً إيميل سيوران الكاتب الروماني، المولود سنة 1911، ذلك المنفي من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، حتى استقر أخيراً في باريس سنة 1937، التي أعلن فيها التخلي عن كل شيء والتوجه إلى المطالعة والكتابة، عن بلده وأسرته ولغته وهويته خصوصاً بعد توقفه عن التأليف باللغة الرومانية وإصراره على اللغة الفرنسية. إضافة إلى جرح تركه فيه نشاطه مع النازية الألمانية، عندما عاش في برلين وهو في بدايات العشرين، الذي راوده طوال حياته إثر معايشته الحربين العالميتيين، مببراً ذلك بعدم النضج والطيش، إلا أن المسألة تتجاوز عدم النضج خصوصاً بعد الوحشية التي ظهرت عليها النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.
وفي ذات الوقت، تأثر كما هو معلوم بالتيارات الفلسفية والأدبية الأوروبية، كنيتشه وبيكيت وبول فاليري وبودلير وغيرهم. كل هذا ترك طابعاً لم ينفك عنه طوال مسيرته الأدبية، وهو الطابع المتشائم العدمي، الذي لا يرى في الحياة جدوى سوى الموت والانتحار، مما جعلته يبغض فكرة الولادة والوجود.
يقول خالد زنار في كتابه “المعنى والغضب: مدخل إلى فلسفة سيوران”
“يكمن إشكال الوضع البشري حسب مؤلف (مساوئ أن يكون المرء قد ولد) في استحالة العودة إلى الطمأنينة الأولى والغطس ثم الذوبان من جديد في نعيم ذلك اللاوجود العذب الذي كنا نتمتع فيه قبل أن نولد”
مع تحفظي على العبارة الذي استخدمه زنار للتعبير عن سيوران، إلا أنه يحيلنا إلى عبارة “كائن يمرح في العدم” أو تفضيل عدم الوجود على الوجود. وأرجو أن لا أبالغ إن زعمت أنه يمكن تطبيق كل ما أورده زنار عن سيوران وموضوعاته وفلسفته التشاؤمية على “كائن يمرح في العدم” إن استثنينا تجربة سيوران منه، ونقده للمجتمع الأوروبي. وليس الأمر على سبيل المصادفة، فإن اخترت أي من مؤلفاته ك”مساوئ أن يكون المرء قد ولد” أو “موجز التفكيك” أو “تاريخ ويوتوبيا” أو “السقوط في الزمن”، وقرأتها قراءة عاجلة ستجد أن الموضوعات والأفكار والمفردات التي يقدمها سيوران هي ذاتها التي ستجدها في “كائن يمرح في العدم”، سأحاول أن أعرض بعض النماذج المنتقاة لسيوران ويقابلها الكاتب، على أمل ألا أقصر في حق الفكرة التي أود إيصالها، لإيجازي رغم وفرتها:
“عندما علمت بمولدي فقدت كل شيء” سيوران
“لقد كانت ولادتي، أول خطواتي نحو الموت” الحبيني
“اعتراض على العلم، هذا العالم لا يستحق أن نعرفه” سيوران
“ورغم كل ما يقدمه لنا العلم، إلا أنه لم يكن كافياً للطمأنينة. لقد زاد من ارتباك يقيننا” الحبيني
“الولادة والقيد صنوان، ما إن ترى النور، فتبصر الأصفاد” سيوران
“لقد سلبت منا حريتنا، في اللحظة ذاتها، التي جئنا فيها من غير استشارة … ووحده ذلك المعتقل، الذي أبصر الأصفاد في معصميه، يدرك أن العالم زنزانة” الحبيني
“لا يستطيع أحد أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا” سيوران
“أنا أحد أولئك الذين يحصنون عزلتهم بدهاء استراتيجي محكم، مع هذا، يفشل في حمايتها كل يوم” الحبيني
“في عصور العقم كان لابد من البيات الشتوي” سيوران
“أنا المريض الكافر بالدواء، أنا الدب في فصل الشتاء” الحبيني
“يجب أن يكون المرء سكراناً أو مجنوناً كي يواصل استخدام الكلمات، أي كلمات” سيوران
“الأخرس، هو الحر. وحده انتصر على اللغة، وهرب من مأزق الكلام.” الحبيني
“لابد من رؤية بديل، مادامت رؤية القيامة لم تعد ترضي أحداً” سيوران
“مثقل بالمعرفة والانمساخ المستمر، يدعونه البرزخ، أو انتظار القيامة” الحبيني
“تبدو لي ولادتي مصيبةً كنت لا أتعزى عنها إن لم أعرفها” سيوران
“العدم قلعتنا المفقودة، طردنا منها على شكل ولادة” الحبيني
سأكتفي بهذا القدر، ليقيني أن عرض اقتباسات من الكاتبين لا تفي ما أريد إيصاله، فليس المسعى هو التفتيش عن سرقات أدبية، وإنما عرض الموضوعات التي تشارك فيها الكاتبان، كفكرة الولادة باعتبارها أزمة، التوجه نحو الموت، والانتحار، وعبث الوجود، لاجدوى العلم، وهن اللغة والكتابة، اعتبار الزمن سجن، اعتبار التفاؤل مرض، الملل، القلق…إلخ، ويصل ذلك إلى استخدام المفردات مثل: الفردوس، أنبياء، تاريخ، عدم، كينونة، عبث، لاجدوى…إلخ، ويمكن لأي قراءة سريعة لأي كتاب مختارات لسيوران ستتضح هذه المسألة.
رغم أهمية السياق الزمني والفكري عند قراءة سيوران، لكن لم يمنع هذا من تكالب النقد عليه، كقول باسكال بروكنر: “سيوران الذي تغنى بالإنتحار كتابا تلو الآخر، انتهى ومات بالشيخوخة”، أو قول فيليب تيفرو: “لا يمكن لعدمي محبط أن يكتب بنفس هذه الموهبة وهذا الأمل طوال نصف قرن”، أو كونه متنكراً بأفكاره السوداء ولا صلة لها بواقعه. لكن هذا لا يعنينا بقدر ما أنه نتاج لحقبة معينة، وتتضح ملامح انسلاخاته -على حد تعبير آدم فتحي في مقدمة كتاب “المياه كلها بلون الغرق” لسيوران نفسه- عن الزمان والمكان، وانعكاسها على أدبه.
وفي نفس الوقت، لا نجد أي ملامح لتجربة شخصية للكاتب ذات طبيعة مميزة، يمكن أن تحيلنا إلى فكره العدمي. فعلى سبيل المثال يذكر الكاتب في ص11 “جئتك عربياً مذعوراً” دون أن نرى أي رابط بين الأفكار التي يقدمها وبين كونه عربياً.
ولكن في ص53 نشتم رائحة مقدمات الكاتب لهذه (التأملات الفلسفية) كـ:
“الضحك بأعلى صوت قلة أدب. البكاء، يجرح الرجولة، الصمت، دليل غرور. التفكير، عواقبه وخيمة. كل الأجوبة، جاهزة وقديمة، وموجودة عند الشيخ وحده، أما الأسئلة يتيمة الجواب، محرمة. الفلسفة لا تجاوب عن شيء. الشعر، كاذب. الموسيقى، هابطة. الأدب الجديد، أهبط. الحب، مبتذل. العشاق يعشقون خفية، كاللصوص. الترتيب للزواج، صار أصعب من التحضير لشهادة الدكتوراه” ..إلخ من هذا المنوال في صفحتي 54 و55
والتي تحوي بعض اللمحات لما يعانيه مجتمعنا من بعض الأمور، التي تحد من فردانية الإنسان وحريته، وبعض المشاكل الاجتماعية، لكن هل حقاً هذا ما يدفعنا إلى التوجه نحو الفناء والموت أو “العدم”؟ أو حتى التفكير به؟
وفي ص67 نجد الكاتب يباغتنا بذكر الكويت في “الكويت ضيقة عندما نهرب، شاسعة عندما نتوه. أنظر بكآبة إلى الشوارع، التي لا تعرف إلا السيارات والقطط، وكأنني أفهم سبب وحشتها” سوى أنه لم يبد أي علاقة تجمع موضوع كتابه كله بالكويت وشوارعها.
وإيجازاً، يبدو لنا أن ما قام به الكاتب هو إعادة طرح فلسفة كانت لها ظروفها وسياقها التاريخي في الثقافة الغربية، وكادت تنقرض بعد ظهور الوجودية والوجودية الجديدة، حتى انتهت بعد تطور نظريات ما بعد الحداثة وظهور نقد ما بعد الحداثة. وبقيت في سياقها التاريخي الذي لا يمكن تجاوزه عند طرح هذه الأفكار. أي أن الكتاب لم يأت بتجربة خاصة، سواء على صعيد الفرد، أو على صعيد المجتمع، واكتفى بتقديم أفكار غاصة بالاستعارات والمجازات. فما الذي يدفع أحداً للحديث عن “العدم” ولو مجازا؟ ما الذي يدفع أحداً لإعادة تدوير موضوعات طفح بها الأدب الأوروبي في فلسفته وشعره وسرده؟ كفقدان الأمل بالوجود، والشعور بالسأم والملل الوجودي الذي بات مكروراً ومبتذلاً. إلا إذا كنا لا نفكر إلا تقليداً، ولا نكتب إلا تقليداً، ولا نعجب بالكتابة إلا تقليداً، ولا يطلع إلا الذوق العام المتردي للقراء وممثلي الثقافة في الكويت. وربما يقول قائل أن الكتاب أدبي ولا يمكن تحميله مدلولات فلسفية. فلو قلنا ذلك تجاوزاً الأفكار المباشرة التي يستخدمها الكاتب، واللغة الفلسفية التي يلجأ إليها، فإن في هذا القول إساءة كبيرة لما يمكن أن يحمله الأدب خلف الجمال واللغة الأدبية، ففي كل عصر كان الأدب حاضراً فكراً وفلسفة وثقافة، حتى في أشد أشكالها تجريدية، تقف فلسفة وحركة فكرية ما تعبر عنها. لذلك فإن لم يكن الأدب فكرة عميقة تعبر عن واقع حالها، وتجربة حقيقية فردية، بعيداً عن الفذلكات، فليرمى في أقرب قمامة.