حوار مطول مع الشاعر العراقي سركون بولص، حول حياته وشعره، والشعر عامة..

 

28

 

 المصدر:http://fawzikarim.com/poetry_moment/issue_14_2009/poetry_momentl_issue_14_8.htm

 

في العدد 29 (2006) من مجلة Parnassos الأمريكية الخاصة بالشعر تحدث الكاتب ريان الشواف مع الشاعر العراقي سركون بولص في حوار مطول حول حياته وشعره، والشعر عامة. اللحظة الشعرية تقتطف أجزاء تجدها هامة من هذا الحوار، وتنشرها وفاءً للشاعر الذي غادرنا مبكراً:

 

س: … أصبحت بغداد مركز أحلامي الواسعة بعد ثورة تموز 1958. فقد أُبيدت العائلة المالكة، الدمية البريطانية، وأُممت شركات النفط، وطُرد الإنكليز من البلاد. كان العراق في حالة اضطراب تامة، والشعراء يؤلفون قصائدهم بعجلة من أمرهم.

    في هذا الوقت بالذات اكتشفت الشعر. كنت في الرايعة عشرة من العمر وقد بدأت قراءة الكتب. الثورة الحقيقية كانت قد حدثت في رأسي. صرت أكتب بحمية، وأرسل مقالات وقصائد الى جريدة البلاد، ابرز الصحف اليومية، وجريدة النصر. ولك أن تتخيل كم كنت في حالة اهتياج، إذ أني هاجرت إلى بغداد تاركاً بيت والدي، ولذت ببيت شقيقتي الكبيرة وزوجها في بغداد، وصرت أتعرف على كتابها الذين هاجروا مثلي إليها، ملتهمين كل شيء نفتقده في مدننا الضيقة الأفق.

    كانت بغداد مدينة أحلام رائعة، حيث تزدحم ضفافها بالمقاهي التي يؤمها الناس للشرب والاحتفاء بالحياة. لعلها كانت المرحلة اليتيمة في التاريخ العراقي التي لا تتمتع فيها السلطة بقوة تقود فيها زمام الثقافة والمثقفين. وبتصميم على التغيير في حقل الأدب، كنا نحن الكتاب على معرفة تامة بفرصتنا هذه. حررت شخصياً عدداً من الصفحات الثقافية، وبثثت فيها الكثير من أفكاري حول الحرية والفوضى، مُستقاة بصورة رئيسية من أفكار سارتر، كامو، هنري ميلر. الوجودية والاشتراكية كانتا الموضة الطاغية، لا في العراق وحده، بل في العالم العربي أجمع..

    كان الكاتب والقصصي نزار عباس دليلي في المدينة. كان من أذكى الذين التقيتهم. كان يعرف كل كتاب الجيل السابق, وقدمني لهم. ولك أن تتخيل ما الذي كان يعني لي، في عمري ذاك، أن أكون مع شعراء وكتاب كانت كلماتهم بالنسبة لي أكثر قداسة من الكتب المقدسة ذاتها. الكاتب الفلسطسني جبرا ابراهيم جبرا الذي كان ينشر كل كتاباتي التي أرسلها له من كركوك، في مجلة كان يحررها بعنوان “العاملون في النفط”، كان معلمي الأول. كنت كثيراً ما أ، أزوره في مكتبه، خاصة في الأيام التي أذهب لاستلام بضعة دنانير مكافأة قصيدة أو قصة، أو ترجمة عن سارويان، جيسي ستيورت، شتاينبيك، أو بيراندلو. كنت عادة ما أستلم بين ثلاثة إلى خمسة دنانير، كافية آنذاك لإطعام أربعة أو خمسة شعراء جائعين، بعد ليلة خمر في واحدة من الخمارات المفضلة على النهر. 

.

ر.أ: ما الذي كانت بغداد تعني لك بعد سفرك عنها؟

 

س: …رجعت إلى بغداد عام 1985، حين كانت الحرب العراقية الإيرانية في ذروتها، بقيت شهراً فقط، كانت كافية لأن أرى كم غطت عتمة الحرب كل شبر من البلد.  أخي الكبير كان قد أُرسل إلى الجبهة، وهو في الخمسين من العمر، وجُنّد ولداه أيضاً، وكذلك ابن أختي. في كركوك تستطيع أن ترى عدداً من السيارات قادمة من الجبهة، بأكفان مكدسة على سطوحها، مشدودة بالحبال. ضمنت كل هذا في قصائدي على امتداد السنوات اللاحقة. سيرة ذاتية نُشرت في ألمانيا تحت عنوان “أساطير وغبار”، كتبتها بالاشتراك مع كاتبة من بوسنيا تُدعى سافيتا أوبهودياس، كانت برمتها عن الحرب. الكاتبة، وكانت مسلمة، هربت مع ابنتيها إلى المنفى.

 

ر.أ: في عام 1967 هاجرتَ إلى بيروت . أحب أن أعرف انطباعك عن بيروت قيل الحرب الأهلية، يوم كانت بيروت تُدعى باريس الشرق ألأوسط.

 

س: كانت بيروت مكةً حقيقية لكل شاعر. حدثني جبرا، الذي كان يقضي الصيف فيها، قصصاً كثيرة عن الكتاب هناك، الأمر الذي ألهب مخيلتي وحمسني للسفر. في صيف سنة 1967، قبل حرب الأيام الستة بقليل أخبرني جبرا بأن يوسف الخال، الذي نشر لي قصائد كثيرة في مجلة “شعر”، موجود في بغداد ويرغب برؤيتي. “مكانك الحقيقي في بيروت” قال لي حين التقيته، “أنت واحد منا”.

 

    كان تشجيع يوسف الخال هو الحافز المحفز الذي احتاجه. أخذت طريق الصحراء دون جواز سفر، مع قليل من المال. حمّلني جبرا مخطوطة ترجمته لمسرحية هاملت إلى يوسف لنشرها ضمن منشورات النهار التي كان يشرف عليها.

.

    كانت بيروت تستحق عناء المغامرة. كانت متوسطية الروح أكثر منها عربية. فيها أدركت معنى أن أكون حراً: في أن تقول، وتنشر ما تؤمن به. ترجمتُ هناك غينزبيرغ، سنايدر، ماكليور، فيرلينغيتي وآخرين لمجلة شعر، وكتبت عنهم بأسلوب متغطرس، وبغطناب، واصفاً مشاهد الساحل الشمالي في سان فرانسيسكو بالرغم من أنني لم أكن هناك! لقد وجدت المعلومات المطلوبة في مصادر مثل “الشعر الأمريكي الجديد” لدونالد آليَن و مجلة أفرغرين. المصادر متوفرة في الجامعة الأمريكية.

 

    ولكن زمني في الإقامة البيروتية كان قصيراً. أحد السفلة الغيورين كان قد اخبر الشرطة اللبنانية بأني دخلت البلد دون تأشيرة. دبرت ملاذاً أختبئ فيه إلى حين، أنام على صخور الروشة الساحلية. ولكن الشرطة ألقت علي القبض بيسر وألقتني في السجن. لقد خُيرتُ بين أن أُعاد إلى العراق أو أذهب الى أرض أخرى. اخترت الثانية بطبيعة الحال. ولقد حدث أني خرجت في الوقت المناسب، فالحرب الأهلية اندلع بعد غيابي بوقت قصير.

 

ر.أ: أعتقد أن اللبنانية- الأمريكية إيتيل عدنان هي التي ساعدتك بالانتقال من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، حين جئت أمريكا من بيروت عام 1969. ولكن لم اخترت سان فرانسيسكو؟

 

س: أسهمت إيتيل عدنان في مجلة شعر بقصائد عدة، قصص، ومقالات كان يوسف الخال يوصلها لي لترجمتها. بين حين وآخر كانت ترسل خمسين دولاراً مكافأة للمترجم. وقد ساعدتني المكافأة كثيراً. وفي أحد الأيام كنت وحدي في مكتب يوسف الخال حين دخلت امرأة صغيرة الحجم بحذاء أبيض خفيف، ورداء هندي مع مسبحة. كانت إيتيل، التي جاءت من سان رفائيل، في كالفورنيا، على عادتها في كل صيف…أصبحنا اصدقاء، فأعطتني عنوانها وأوصتني أن أتصل بها في اية مرة ازور فيها كاليفورنيا.

    ذهبت أول الأمر إلى نيويورك، فاكتشفت من الوهلة الأولى بأني في مدينة كاسرة، لم أُهيأ لها. كنت قرأت جيمس، جون دوس باسوس، لوركا، ولكن أن تكون هناك حقيقة، وفي قلب مانهاتن، فأمر آخر تماماً. بعد أسابيع من أكل الهوت دوك، والجلوس في الباركات المأهولة بالناس، وزيارة مكتبة نيويورك العامة، والتسكع مع الهيبيو، اتصلت بإيتيل عدنان فأرسلت لي تذكرة سفر إلى سان فرانسيسكو.

 

ر.أ: من التقيت من كتابها المحليين؟

 

س: التقيت معظم شعراء الـ Beat الذين ترجمت لهم في مجلة شعر…

    ولكن كاتبين ينفردان بالأهمية: بوب كورمان وألين غنزبيرغ. كورمان أقسم أن يظل صامتاً بعد اغتيال كندي، ولذا لم نتحدث نادراً إلا بالإشارة، كأن يريدني أن أضع ربع دولار في ماكنة الأسطوانات لسماع أغنيته المحببة. كنا اعتدنا التجوال الحر دون كلام، فقط حين تكون صديقته لين ويلدي معنا، فتدفعه إلى الهمهمة ببضعة كلمات. كتب بوب شعراً فياض المشاعر في الخمسينات والستينات، الذي أثر على معظم شعراء البيتز. كان المعجبون الفرنسيون يلقبونه برامبو الأسود. 

    أما بالنسبة لغنزبيرغ، فقد استطعت أن أرى فوراً هالة الثقة بالنفس تامة. ولم لا؟ فقد كان الشاعر الأكثر شهرة وتوهجاً في عصره. التقيته أول مرة في مكتبة “أضواء المدينة”، يعرج على حمالتين، بسبب كسر في الساق، وبصحبة امرأة فيتنامية شابة. أخبرته بأني ترجمت له بضعة قصائد إلى العربية. سألني فوراً عنهن. قلت له: “أمريكا”، “السوق المركزي في كاليفورنيا”، “حامض المهماز”. ثم سألني إذا ما كنت أعرف قصيدته “عواء”، فأخبرته بأني أعرف جزءاً منها فقط. ذهب يعرج إلى رف مكرس لكتب البيتز وجاء بنسخة من “عواء وقصائد أخرى”، نُشرت من قبل “أضواء المدينة”.؟

    لقد استغرقت مني ترجمتها سنة كاملة. إذا كانت ثمة قصيدة متعذرة على العربية فهذه القصيدة. فقط “أغنية نفسي” لويتمان، التي ترجمتها هي الأخرى، تماثلها في الصعوبة. كان علي أن أنتظر حتى سنة 1983، لأكملها في مرحلة إقامتي في أثينا، حيث كان لي الوقت الكافي للتأمل. بالتأكيد ما كان لأحد ترجمة “عواء” دون أن يكون قد عاش في سان فرانسيسكو، وعرف الساحل الشمالي ومقاهيه، وكذلك تاريخ حركة البيتز من دينفير حتى طنجة. وما زلت ابحث عن بدائل عربية للغة غنزبيرغ المجنونة.

    وجدت أخيراً ناشراً لها في “الكرمل” التي كان يصدرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش. حين رأى غنزبيرغ الترجمة المنشورة امتلأ نشوة. بعد فترة اتصل بي ليخبرني مقترحه في أن نقرأ سوية قصيدة “عواء”، هو للنص الأصلي، وأنا للترجمة العربية عند حائط المبكى في مدينة القدس. قلت له: نعم، ولكن هل تعرف بأنك، كشاعر معروف عالمياً، سوف تفلت حراً، في حين سأُعلق أنا ربما على أقرب شجرة نخيل!

 

ر.أ: في كل حواراتك وذكرياتك حول الحياة في العراق، خاصة في أيام الشباب الأولى، تذكر صديقك جان دمو، الذي كان يلتهم الشعر مثلك ولديه الطموح ذاته. ما الذي صار إليه؟

 

س: جان دمو شاعر آشوري مات في استراليا لبضعة سنوات مضت. التقيته في كركوت في مرحلة الدراسة الإعدادية، وأعرته كتاب مقالات لسلامة موسى، الكاتب القبطي المصري الكبير الذي كان من أوائل الذين وقفوا في وجه التيار السلفي. هذه الإعارة، وكان جان لم يألف الكتب بعد، كفيلة بإصابته بعدى القراءة. كنا نهمين، وشهيتنا للقراءة تزداد مع كل صفحة. بعد ثورة 1958 هرب معظم البريطانيين، الذي كانوا يديرون شركات النفط، وخلف الكثير منهم مكتبات غنية وراءه. ولقد بيعت الكتب على الأرصفة بسعر زهيد. اشترينا بقدر مستطاعنا، على أن جان اكتشف طريقة أيسر، وبدون تكلفة: هي أن يسرق الكتب. لبس جان معطف أبيه الضخم، وفيما أنا ألهي صاحب المكتبة بالأسئلة، أو أجعله يرتقي السلم الى الأرفف العالية، كان جان يعبئ جيوب المعطف بكتب Penguin ، Signet ، Bantam. حين جئنا بغداد كنا نُرهق كل حشد من الكتاب متواضعي الجودة بما نملك من أسماء كتاب من أمثال إسحاق بابل، بافيس، فيتوريني، ميوسيل، ألغرين و سول بيللو، الذي لم يكتشفهم العالم العربي بعد، حتى اليوم طبعاً. ما كنا قد قرأنا كل هذه الأسماء الكبيرة، ولكن إلماحة عن كل واحد منهم كانت تكفي.

       لسوء الحظ  جُند جان إجبارياً في الجيش. وكانت بداية تدهوره، لأنه كان أسوء جندي يمكن أن تتخيله. حيث ألتقيه، كان في حالة تخفي عن دورية الانضباط العسكري. في آخر مرة رأيته فيها، في عمان سنة 1998، كان كحولياً لحد أن الشرطة الأردنية، التي كانت تأخذه كل ليلة للتوقيف، صارت  تتخلص منه بوضعه في فندقه الرخيص. ولذا كانت قصائده تكاد تكون دادائية وعدمية.

………

 

ر.أ: من هم الأبرز في الشعر العراقي المعاصر؟ ومن هم، في رأيك، الذين بولغ في إعلاء شأنهم، والذين أُهملوا عن عمد؟

 

س: بعد أكثر من نصف قرن، تغيرت المواقف بشأن حفنة ممن نسميهم الرواد بشكل متطرف لأنها كتبت بشكل مغاير عن البقية. بعضهم، مثل السياب، بقي متألقاً، في حين لم يبق آخرون، مثل نازك والحيدري.

    في نهاية الأربعينيات، أصبح السياب من أوائل الشعراء العرب الذين حطموا القاعدة الصلبة في التزام البحر والتقفية التي اعتمدها الشعر العربي الكلاسيكي. كل الذي عمله هو محاكاة نظام التقفية في السونيت لدى الشاعر الإنكليزي، من ناحية شكلية، ولكن التأثير الأقوى فيه جاء من الشاعرة أديث سِتويل، بسبب رموزها المسيحية بشكل أساس. إن صلب المسيح أعطاه الصور التي يحتاجها لبناء رؤية التضحية، الملائمة للتوجه اليساري في رؤية العالم آنذاك. ومع أنه هوجم من قبل النقاد العرب، وخاصة إحسان عباس، لاستخدامه الصور المسيحية، بدا تخلصه من العرف الشعري الكلاسيكي ثورياً، وعلى الأثر أصبح السياب إسماً ريادياً للشكل الجديد، الذي أُطلق عليه خطأً بالشعر الحر.  

الرائد الآخر كان نازك الملائكة، التي تعتبر الشاعر كيتس نموذجها الأعلى. كانت تتعبد الرومانتيكيين الإنكليز، ولقد ترجمت بعض قصائدهم مستخدمة الوزن والقافية. ولكنها لم تغامر فيما وراء الرومانتيكيين. إلا أنها تنكرت ، فيما بعد، للشعر الجديد وعادت الى الشكل التقليدي.

…..

    الشاعر عبد الوهاب البياتي، متأثراً ببعض الشعراء الإنكليز مثل أودن وسبينسر، وآخرين مثل أراغون وأيلوار وناظم حكمت، دفع الشعر الجديد خطوة إلى الأمام، موظفاً قاموساً شعرياً أكثر واقعية وبساطة، وشكلاً مرسلاً على السجية، وغنائية مكثفة. كان أصغر سناً من السياب، وأصبح منافسه الأشد. كان البياتي معلمي في المدرسة الابتدائية، وفي كل لقاء لنا كان يقدمني للآخرين باعتزاز، باعتباري تلميذه الأذكى، الأمر الذي كان يحرجني على الدوام. أخر مرة التقيته كان في مدريد، حين كان ملحقاً ثقافياً عام 1988. كان يشعر بالوحدة حد التشبث بي، مصراً بأن نتعشى سوية في مطعم أرمني يعمل كباباً سماوياً.  

    بلند الحيدري بدأ حياته الشعرية في كتابة قصائد كلاسيكية متأثراً بالشاعر اللبناني ألياس أبو شبكة، المعروف بقصائده البودليرية “أفاعي الفردوس”. في الخمسينيات قدم شكلاً شعرياً غير مألوف أطلق عليه النقاد اسم الشكل “الهرمي”. كان كردياً، ولكن هذا الانتماء العرقي لم يؤثر في شعره، بالرغم من أنه كان يشير إلى ذلك أحياناً.

… بالرغم من أن البريكان كان من مجايلي السياب، ولكنه لم ينشر كتاباً أبداً. ولكن حين ظهرت مجموعته الشعرية بعد وفاته لاقت استحساناً جماعياً. فهنا شاعر قد أُهمل بشكل تام، رغم أنه قدم نوعاً شعرياً جديداً، فلسفياً مجرداً من كل زخرف لغوي ابتلي به معاصروه. مازال البريكان، ربما، أكثر الرياديين تعرضاً للغفلة.

……..

……..

 

ر.أ: في بغداد كنتم تُدعون بجماعة كركوك. من هم البقية من المجموعة؟

 

س: في البداية لم يكن شيء يُلقب بذلك. حين التقيت جان دمو أخبرني بأن هناك في منطقة آشورية أخرى شخصاً رائعاً يمارس الكتابة، اسمه مؤيد الراوي، وهو يكتب شعراً مختلفاً. كان مؤيد آشوري من جهة الأم، تركماني من جهة الأب. وعبره التقينا بالبقية. جان هو الآخر كان من أم آشورية ـ يونانية، وأب آشوري. كنا مجموعة مختلفة، يجمعنا حب الأدب. كتاب بغداد العرب هم الذين أطلقوا علينا لقب “جماعة كركوك”، ربما ليميزوننا عن البقية، كما أرى، ويفردوننا باعتبارنا غير عرب.

    العام الماضي، أرسل لي أحدهم مقالة من جريدة في كركوك يقترح فيها الكاتب أن يُقام لنا نصبٌ احتفاءً بـ “جماعة كركوك”. حينها ظهرت ترجمة إلى الكردية لقصيدتي “إعدام نسر” ومعها تخطيط لكردي يوجه رشاشة الى الفضاء. والحقيقة أن القصيدة كُتبت حول فلاح سكير من نيفادا اصطاد نسراً. في أحد مواقع الانترنيت وجدت اسمي موضوعا ضمن الأدب الكردي. يبدو أن أسماءنا صارت تُستثمر داخل المعترك الوحشي من أجل السلطة في كركوك.

………

……..

……..

 

ر.أ: الحنين، وليد المنفى المحتوم، يكاد يكون عنصر ثابت في الشعر العربي المعاصر. ولكن شعرك غير متطرف في هذا، وكتاباتك بصورة عامة غير مشرّبة بهذا التوق لزمن ومكان مختلفين. هل يعني هذا نوعاً من التكيف مع محيطك الجديد، وتراجعاً تدريجياً عن أهمية العراق في داخلك، أم هو نتيجة جهد من قبلك تؤكد فيه أن شعرك ليس أُحادي البعد ومتسم بالتكرار؟

 

س: أستطيع أن أقول باطمئنان أن معظم كتاباتي منذ تركت العراق كانت محاولة بالغة الجهد عبر مئات القصائد للتعامل فنياً مع ما سميته الحنين. وكشاعر، أهشى أن أقع في أحبولة الإسراف العاطفي، على أني لم أتوقف لحظة عن التفكير بوطني أو التشوق لرؤيته. أمريكا بالنسبة لي هي مكان عيش، إقامة، وليست وطناً، لإنت لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت، ليس بمستطاعك أن تعود الى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك. وهنا نقطة حاسمة أريد أن أثبتها: التقنية الشعرية التي طورتها عبر السنوات، لكي أعالج هذا الموضوع الضخم الذي هو المنفى، هي ما حال بيني وبين السقوط في أحبولة الحنين. إذا لم تتحول العاطفة إلى فن، فالأولى أن أحتفظ بها لنفسي وحدي.

………

 

ر.أ: بعد موت الجواهري، آخر الكلاسيكيين العظام، سيطر الشعر الحر على الساحة الشعرية العربية، حيث لم يعد من مجال لتحرك مغير. هل تعتقد بأن عدداً من شعراء جيلك أو الجيل الريادي الذي سبقكم، ممن  لعب دوراً كبيراً في تحرير الشعر العربي من قيود اللغة الخانقة، يسعون عبثاً اليوم؟

 

س: شعراء قلة يحسنون التعامل مع الشكل الشعري الجديد. هناك وباء من المنشورات الفارغة لشعراء يدفعون من جيوبهم لطباعتها ونشرها (خاصة من أبناء الخليج، القادرين على ذلك.). ولا تغرك الكثرة من القصائد العربية التي تترجم إلى الإنكليزية… إنه سوق مزدهر قادر على الدفع في حالة شديدة الاضطراب في الشرق الأوسط، خاصة في العراق ـ لاحظ كم من العناوين تتضمن اسم بغداد أو العراق هذه الأيام. إنها تبدو، لعين الغريب المتفرج، مشهداً حياً، ولكنها حية، في الواقع، من حيث الكم، لا النوعية. والمواقع ألالكترونية كارثة بحق الشعر، هذه الأيام. كل واحد له الحق في أن ينشر الكم الذي يريده. شعراء كثر لهم مواقع تبدو فيها صورهم أكبر حجماً من نصوصهم.

    أعتقد أن الشعر العربي يحتاج إلى عقد من الزمان على الأقل لكي يتآلف مع صدمة الحداثة، أو ما بعدها، قبل أن يعرف توجهه الحقيقي.