فن الشعر في ملحمة كلكامش

مؤلف هذا الكتاب هو الشاعر والباحث العراقي الدكتور صلاح نيازي، المولود في مدينة الناصرية العام 1935م. غادر العراق منتصف الستينات واستقر في لندن حيث يقيم حتى اللحظة. صاحب ورئيس تحرير مجلة «الاغتراب الأدبي» بين العامين 1985 ـ 2001م، وهي أول مجلة أدبية عراقية صدرت في المهجر.

اصدر عدة دواوين شعرية، نذكر منها: «كابوس في فضة الشمس»، «الهجرة إلى الداخل»، «نحن»، «الصهيل المعلب»، «وهم الأسماء»، «ابن زريق وما شابه»… وغيرها، كما صدرت له بعض الدراسات النقدية مثل «الاغتراب والبطل القومي»، و«المختار من أدب العراقيين المغتربين»، وفي مجال الترجمة صدرت له بعض الترجمات القيّمة، مثل رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، ومسرحية «ماكبث» لشكسبير…وغيرهما.

في كتابه الجديد «فن الشعر في ملحمة كلكامش»، الصادر، أخيرا، عن دار المدى في دمشق يتناول نيازي هذه الملحمة من زاوية خاصة جدا، فهو، وكما يشير العنوان، يبحث عن فنون وجماليات الشعر في هذه النصوص الملحمية المجهولة المؤلف، رغم أن الباحث يرجح هنا أن يكون كاتبها أنثى: أي شاعرة، لأن فيها من «صور الأمومة والضعف الأنثوي» ما يعجز الرجل عن تصويره.

وأيا كان كاتب هذه الملحمة، فلا ريب انه شاعر حاذق ـ كما يؤكد الباحث ـ فتقنياته في صناعة الشعر «لا تقل عن تقنيات أي شاعر معاصر عربي أم أجنبي»، وهو أمر يغري على البحث في تلك الجوانب الجمالية والفنية بعد أن أريق الكثير من الحبر عن مضامين هذه الملحمة.

من المعروف أن ملحمة كلكامش هي من الآثار الأدبية الخالدة التي يعود تاريخ كتابتها إلى نحو أربعة آلاف عام، فهي أقدم من «الإلياذة»، و«الأوديسة» لهوميروس، ومن المسرحيات الإغريقية، وهي حظيت، منذ قرون، باهتمام الباحثين والنقاد، والمستشرقين،

وقد صدرت لها ترجمات عديدة، كما صدر بشأنها الكثير من الدراسات النقدية، وأبدى عدد كبير من الكتاب والأدباء، في الشرق والغرب، إعجابه بهذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينطوي على تصوير الصراع الأزلي بين الخير والشر، وهو مفعم بالخبرة والحكمة والتأمل والحيرة.

يقول الشاعر الألماني ريلكه «ملحمة كلكامش مذهلة، اعتبرُها من أهم الأمور التي يمكن أن يصادفها الإنسان..لقد أغرقت نفسي فيها، فخبرت في تلك الكِسَر الهائلة من الألواح المفخورة أنظمة وأشكالا تنتسب إلى الأعمال المجوّدة التي أنتجتها الكلمة الساحرة على طول تاريخها».

وإذا ما حاول المرء أن يعدد شهادات الإعجاب التي قيلت في هذه الملحمة، سيتعذر عليه حصرها في قائمة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين يكمن سر هذه الملحمة؟ هل يكمن في تاريخيتها؟ أم في خيالاتها الخرافية؟ أم في أسئلتها الفلسفية؟

لاشك أن هذه العناصر مجتمعة، أي: التاريخ، والخرافة، والأساطير، والألغاز، والفلسفة، والحكمة، والتأمل… هي التي منحت هذا العمل قيمته، غير أن الشكل الأدبي والفني الذي سُردت، من خلاله، هذه العناصر كان له، كذلك، دور في التأثير، فالتاريخ والفلسفة والخرافة، كما يقول نيازي، «لا يكون مؤثرا فنيا، إن لم يمر بتقنيات مختلفة، مبتكرة ومتطورة».

يشرح نيازي آلية عمله في هذا الكتاب، فيقول: كنت حريصا منذ البداية على أن أجيب على كيفية القول لا عن دوافعه، عن تأثيره لا عن شرعيته. بكلمات أخرى كان الهم الأول والأخير أن اكشف عن موهبة الشاعر في التأليف قدر المستطاع: كيف كتب، مثلا، رثاء كلكامش لأنكيدو؟ كيف صوَّر الطوفان، وما هي الأدوات والأجهزة التي استعملها؟ كيف صوَّر الخوف؟

كيف صوَّر خيبة الإنسان التامة؟»، فالباحث يسعى إلى اكتشاف تقنيات وأدوات هذا الشاعر الذي يصفه بـ «الخصيب»، بعد أن تيقن، من خلال قراءته للترجمات الكثيرة لهذه الملحمة، أن شاعر الملحمة، أو، ربما، شاعرة الملحمة، «شاعر معاصر لكن مادته تاريخية. شاعر مذهل. دقيق وحاذق في صناعة الشعر. لا يمل. كثير المفاجآت. عميق الاحتمالات».

هذه التقنيات الفنية التي ميزت الملحمة هي محور دراسة نيازي، وهو لأجل تبيان هذه التقنيات يمهد لدراسته بقراءة موجزة للملحمة اعتمادا على ترجمة طه باقر، مع مقارنتها بترجمات إنجليزية والبحث عن المفردة الأقرب إلى الواقع والحقيقة.

يتحدث في البداية عن الملحمة كمسرحية، مشيرا إلى أن ملحمة كلكامش هي «أول ملحمة في تاريخ الأدب، مرّ عليها، الآن، أكثر من أربعة آلاف سنة، ولو صح ما افترضه النقاد الأجانب من أن الملحمة عمل مسرحي، فإننا نكون أمام «أول نص مسرحي في تاريخ الأدب».

وهو يقدم، بشكل مختصر، أهم الفصول في هذه الملحمة، إذ يتحدث عن أنشودة الاستهلال التي تتحدث عن صفات ومزايا وقدرات كلكامش «لقد أبصر الأسرار، وكشف الخفايا المكتومة، وجاء بأنباء ما قبل الطوفان». ثم يتحدث عن انكيدو الذي كان يعيش عاريا مع الحيوانات إلى أن روضته المومس شمهات التي عادت به، من الأدغال، إلى مدينة أوروك، فيصبح صديقا حميما لكلكامش،

ومن ثم يذهبان، معا، إلى غابة الأرز لقتل الشر المتمثل في العفريت خمبابا، وينجحان في ذلك، ثم يقتلان، كذلك، الثور السماوي الذي جاءت به عشتار للانتقام منهما، وبعد ذلك يموت أنكيدو فيرثيه صديقه رثاء مرا، ويبكيه عله يعود إلى الحياة ولكن دون جدوى. عندئذ، يبحث كلكامش عن سر الخلود فيخفق في ذلك، ويسمع قصصا مهولة عن الطوفان، ويعود مجددا إلى أوروك مقتنعا بان الموت قدر لا مهرب منه.

يلاحظ الباحث أن ثمة تكرارا لبعض الفقرات والمقاطع في هذه الملحمة، وفي الوقت الذي يرى فيه بعض النقاد في هذا التكرار عيبا فنيا، فان نيازي يعترض على هذا الاستنتاج السهل، ويقول: لا بد من تعيين موقع التكرار. أي ما توقيته؟

ما مكانه ؟ ما ظروفه؟ ومادام التوقيت يختلف، والمكان يختلف، وكذلك الظروف، إذن تتعدد دلالات التكرار بتعدد تلك الاختلافات، وهو يختار الكثير من الأمثلة للتدليل على أن للتكرار أهمية فنية وجمالية في هذه الملحمة.

وفي فصل تحت عنوان «مَلَكَة التشبيه في ملحمة كلكامش»، يرى الباحث بان التشبيه في هذه القصيدة الملحمية تدلل على قدرة شاعرها على تقمّص الكائنات الحية والجامدة واستنطاقها، وهذا ما يندر وجوده في الشعر العربي، كما تدلل على سعة وشمولية الذهنية التي تقف وراءها، بحيث يصبح المشبَّه والمشبَّه به توأمين يولدان وينموان معا، ولا يكمل وجود أحدهما إلا بوجود الآخر، وهو يوضح بان عملية التشبيه في ملحمة كلكامش تمر بثلاث مراحل متواشجة.

المرحلة الأولى احتفالية تمهيدية، ثم يولد التشبيه ولادة عفوية وحتمية في آن، وفي المرحلة الثالثة يبدأ التشبيه بالعمل داخل الصور الشعرية اللاحقة. وهو هنا، أيضا، يورد أمثلة كثيرة للبرهنة على صحة ما نظّر له.

ويتحدث نيازي عن الوزن الشعري والإيقاع الموسيقي في هذه الملحمة، ويذكر عدة أمثلة، ليصل إلى استنتاج بان هذه الملحمة مكتوبة على بحر الخبب، وتفعيلته الأساسية إما فِعْلُنْ أو فَعِلُن، وهو بحر متولد من بحر المتدارك.

ونظرا لكثرة ورود مفردة «الباب» في هذه الملحمة، يجتهد الباحث لإعطاء تفسير لكل باب من الأبواب الواردة في الملحمة، فهناك الباب الذي تعارك أمامه كلكامش وانكيدو وأصبحا بعد هذه المصارعة صديقين،

وكذلك هناك باب «العالم السفلي» الذي تهدد عشتار بتحطيمه إن لم تحصل على الثور السماوي، وهناك الباب الذي خاطبه أنكيدو، وباب غابة الأرز التي يحرسها العفريت خمبابا، وباب حانة سيدوري الموصد… وغيرها من الأبواب التي تحمل كل منها دلالة خاصة في سياق هذا النص الملحمي.

لا يحتاج القارئ إلى جهد كبير حتى يكتشف تعلق الباحث بهذه الملحمة، وإطلاعه على ترجماتها المختلفة، وعلى الدراسات التي صدرت عنها، ولئن جاء هذا الاهتمام من كونه شاعرا، وأكاديميا، فان أحد أسباب هذا الاهتمام، كما نعتقد، يكمن في انتماء نيازي نفسه إلى المنطقة التي ولدت فيها هذه الملحمة، فهو من مدينة الناصرية القريبة من مدينة اورورك التي تخلدها الملحمة،

والتي عاش فيها البطل كلكامش، وثمة تشابه بين السجايا التي تنطوي عليها الملحمة وبين طبيعة الحياة التي يعيشها أهل تلك المنطقة الآن، ولعل هذا «الاقتران الوجداني» ـ، إذا جاز التعبير ـ بين الملحمة وبين الشاعر نيازي هو الذي أثمر عن معالجة نقدية جادة، وأنتج نصا يستحق القراءة.

إبراهيم حاج عبدي

*الكتاب:فن الشعر في ملحمة كلكامش

*الناشر: دار المدى ـ دمشق 2008

*الصفحات:184 صفحة من القطع المتوسط

 

المصدر:

https://www.albayan.ae/paths/books/2008-02-11-1.616039