الحداثة المعطوبة أم وداع الحداثة؟ الربيع العربي و “داء الإسلام”

9545802
04-27-2013 06:08 PM
نقلا عن صحيفة االراكوبة -السودان
يهدف هذا المقال إلى إبراز بنية كتاب “الحداثة المعطوبة” لمحمد بنيس و الصادر في عام 2004 عن دار توبقال المغربية قبيل الربيع العربي.و فيه توصيف ثقافي للحالة العربية قبيل الربيع العربي.و ستتم قراءته على ضوء ما آل إليه الربيع العربي من “استحواذ” للإسلام السياسي الأصولي على المنجز السياسي للربيع العربي في دك حصون ديكتاتوريات متأصلة.

و لأن محمد بنيس يستصحب في كتابه تمييز التونسي الكاتب بالفرنسية عبد الوهاب المؤدّب، بين الإسلام السياسي و الحضاري،سنعرج في نهاية المقال إلى مصطلح “داء الإسلام” الذي اجترحه المؤدب محاولا معرفة سبب مصيبة و شقاء المسلمين المعاصرين،كشعور مؤلم ناجم عن تخلفهم عن العالم المتقدم،و يلخِّص تلك الحالة المزرية من خلال عنونته للقسم الأول “إسلام مفجوع بفقدان غلبته”.

فضلا عن كونه واحدا من أبرز الأصوات الشعرية الحديثة في المغرب،فإن محمد بنيس ناقد للشعر، يتبنَّى المقاربات النقدية الحديثة.و قد بدأ ذلك بدراسته الاكاديمية “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب-مقاربة بنيوية تكوينية-و أعقبها بأطروحته التي تم إنجازها لنيل دكتوراة الدولة في الأدب العربي،تحت إشراف د.جمال الدين بن شيخ،و نوقشت في 17 أكتوبر 1988 بكلية الآداب في الرباط،من طرف لجنة مكوّنة من د.أمجد الطرابلسي،و د. جمال الدين بن شيخ،و أدونيس،و د. محمد مفتاح.و قد صدرت في أربعة أجزاء تحت عنوان “الشعر العربي الحديث،بنياته و إبدالاتها”.الجزء الأول”التقليدية”،الجزء الثاني “الرومانسية العربية”،الجزء الثالث “الشعر المعاصر”،الجزء الرابع “مساءلة الحداثة”.كما صدر له كتاب بعنوان “حداثة السؤال”.كما قام بترجمة كتب و نصوص لعبدالكبير الخطيبي،و جاك آنصي، و برنار نويل ،و عبدالوهاب المؤدب،و ترجم بالاشتراك مع الأخير كتاب “أوهام الإسلام السياسي”،و العنوان ترجمة اقتضتها ظروف الديكتاتورية و القهر العربي فأصلا ترجمته كان يجب أن تكون “داء الإسلام” كما عنوانه الأصلي في الفرنسية،و كذلك ترجم بعنوانه الأصلي إلى الانجليزية أي The The malady of Islam.

*الحداثة المعطوبة:قاموس “نعي” الحداثة العربية:

لم يجترج محمد بنيس مصطلح “الحداثة المعطوبة” كتوصيف لمشروع الحداثة العربية.
ففي مقال للأستاذ زكي الميلاد بعنوان “المثقفون وقاموس نعي الحداثة” يتم الحديث عن “الأوصاف التي أطلقها الكتاب و المثقفين على نعي و ذم الحداثة في المجال العربي”.

و يبدأ زكي الميلاد برصد النمط الأول في قاموس نعي الحداثة العربية حين يقول :
“ومن النمط الأول وصف الحداثة بالحداثة المعطوبة، وأشار إلى هذا الوصف الدكتور برهان غليون في كتابه (مجتمع النخبة) الصادر في أوائل ثمانينات القرن العشرين.

وفي وقت آخر أشار إلى هذا الوصف الكاتب الجزائري عمار بلحسن في مقالة له بعنوان (من أصولية إلى أخرى.. الحداثة المعطوبة) نشرتها مجلة المستقبل العربي في بيروت, أغسطس 1993م, وعن هذا الاستعمال وما يقصد به يقول عمار بلحسن (نستعمل مصطلح حداثة معطوبة للدلالة على أن الحداثة أي مجموع المؤسسات والمظاهر والإنتاجات والطرق العصرية, نتاج العقلانية والإبداعية والذاتية الفلسفية والجمالية والعلمية والثقافية, الغربية أو العالمية, تتعايش وتعيش في مجتمعات وقيم وعلاقات وطرق عتيقة, قديمة وتقليدية, وتتداخل معها مما يعطي نوعاً من الطابع العصري المعطوب”.

كما أشار إلى هذا الوصف أيضاً الشاعر والكاتب المغربي محمد بنيس في كتاب عرف به, يحمل الوصف نفسه (الحداثة المعطوبة) الصادر سنة 2004م”.

ثم يواصل:
“وهناك من وصف الحداثة بالحداثة المعاقة, وأشار إلى هذا الوصف الكاتب المغربي بنسالم حميش في كتابه (نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر) الصادر سنة 2004م, وجاء هذا الوصف في سياق نقده لتاريخانية العروي, وتكرر هذا الوصف عند كتاب آخرين أيضاً.

ثم يذكر أن “الدكتور برهان غليون في كتابه (المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة) الصادر في طبعته الفرنسية سنة 1991م, وفي طبعته العربية سنة 1993م, قد استعمل العديد من الأوصاف القادحة, منها وصف الحداثة بالحداثة المجهضة, والحداثة الممسوخة, والحداثة الكسيحة, والحداثة المفقرة، والوصف الذي توقف عنده أكثر من غيره هو وصف الحداثة الحثالة، وعن هذا الوصف يقول غليون (إن حثالة الشيء هو ما يسقط منه من بقايا ويرسب في قعر الإناء، كحثالة الزيت، إنه منتوج جديد يختلف نوعياً عن المنتوج الأصلي، لأنه يتكون من العناصر التي ترمى من المواد الأولية أثناء عملية التصنيع، والتي لا يمكن الاستفادة منها، لكن هذه الحثالة وإن اختلفت كثيراً عن المنتوج الأصلي أو الفعلي فهي تحتفظ ببعض رائحته ومظاهره وعناصره الأولية.. وقد أصبحت هذه الحداثة الحثالة العقبة الرئيسية أمام استملاك الحداثة الفعلية”.

و لأن الحداثة كما يرى الشاعر عباس بيضون هي إدمان المثقفين العرب فهناك أوصاف عديدة لها من ضمنها كما يقول زكي الميلاد” الحداثة الملفقة، والحداثة الناقصة، والحداثة المشوهة، والحداثة الوهمية.. وإلى جانب هذه الأوصاف يمكن أن نضيف إليها أوصافا لا تحصى مثل الحداثة الفاشلة، والحداثة العاجزة، والحداثة المريضة، والحداثة المشلولة، والحداثة القاتلة، والحداثة الفتاكة، والحداثة المخيفة، والحداثة المرعبة، والحداثة الصامتة، والحداثة الجامدة، والحداثة الضبابية، والحداثة المتسترة، والحداثة المغيبة “.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/2008…1225248302.htm

عن كتاب “الحداثة المعطوبة”:

حين نقرأ “الحداثة المعطوبة “لبنيس بعد الربيع العربي،نرى فيه وصفا دقيقا و تحليلا للحالة العربية الثقافية في علاقتها بمشروع الثقافة الحديثة المستندة إلى “الحداثة”.تلك كانت الحالة العربية التي حاول الربيع العربي التمرد عليها.صحيح أن ثوار الربيع العربي لم يتحدثوا عن الحداثة صراحة،لكن مطالبهم تنتمي إلى قيم أصيلة في الحداثة مثل الحرية و الحق في التعبير و الاختلاف.لم يرفع المحتجون الشباب الافتراضيين و الفعليين شعارت دينية رغم سيادة الإسلام السياسي،كما لم يرفعوا شعارات قومية مثل تحرير فلسطين.

تتأسس لغة “الحداثة المعطوبة” في مراوحة بين الواقعي و الشعري مستخدمة الصور الشعرية و المجازات و التشبيهات.
و سنقرأ الكتاب عبر محاور هي مناقب الحداثة و مديحها،و انهيار المركز الثقافي و وورثة الحداثة، و الحداثة المعطوبة: تمظهراتها و أسباب سيادتها.

*في مناقب الحداثة و مديحها:

يخصّص “بنيس” عدة فقرات لجرد مناقب الحداثة الملعونة الطريدة.يقول عن نمطها الجديد الشامل في صفحة 130″و الحركات المؤثرة في عموم العالم العربي،المصرية و الشامية،هي التي كانت بدأت في الدفاع عن نمط جديد من التفكير و المعاملات و التنظيم و العلاقات،و هي التي كانت رؤيتها أشمل في التحديث،محرِّضة على إبدال الأنظمة في جميع الحقول استجلابا لمعارف و قيم.من ثمَّ كانت الحداثة العربية صدرت عن فكرة و عن مواقف.لي أن أبدا بالمواقف،هذا أيسر للتأمل،أعني أكثر بيانا و ظهورا لعياننا،عيوننا.اللعنة و الف حتى لا يتبدّد التعارض الذي نعيشه في مجتمع وفي ثقافة.تأمُّل يمكن حصره في حقول دالة لها الصلاحيات الإجرائية.إنها الحقول التي نلمسها في أقرب ما نصطدم به”.

و عن تحديث اللغة كواحد من إنجازات الحداثة،يقول في صفحة 130-131 “اعتقدت الحداثة في إنشاء لغة عربية لزمننا.إنه الاعتقاد الذي كان المشجِّع على اختيار مسلك مغاير للمعجم و التراكيب و القواعد ايضا.هذه العربية الحديثة هي التي عملت على إشاعتها و تعميمها في خطابات.و لكن العربية اليوم محاصرة في جمهرة من الخراب.لقد أعطى الأدباء و الصحافيون و المفكرون و الباحثون و العلماء هذه اللغة شرعية التحديث حتى تصبح مرحة،خفيفة،طائرة في الأجواء المشتركة مع العالم.لكن ذلك لم يتعد النخبة التي اشتغلت و اهتدت،ثم هي اليوم في صمتها تنظر إلى عربيتها تئنُّ،تحتضر على مرأى منها”.

و “تحرير المرأة”،واحد من مناقب الحداثة.يقول “بنيس” عن ذلك في صفحة 131 “و جاءت الحداثة بالدعوة إلى تحرير المرأة.كان التعلم،المدرسة،رفع الحجاب،الحياة العامة.و في حياتنا اليوم تختار المرأة ما لم يكن يخطر على بال الحديثين.هي اليوم تتنافس في إسدال الحجب،لا إسدال حجاب واحد على جسدها و فعلها.تتخلّى المرأة المتعلمة،العالمة،التقنية،الإدارية،الفنانة،عن هذه الحرية.تكفِّن جسدها بطبقات من السواد.قطع سوداء تحشر الجسد في كفن،حتى العينان تكادان تصبحان ثقبتين محشوتين بالسواد”.

و دعت الحداثة في الجامعة إلى الفصل بين العقيدة و المنهج.و لكن الجامعات العربية اليوم،يقول “بنيس” في صفحة 131 “عبارة عن مرستانات.على المداخل اشرطة تردِّد كلها الدعوة إلى التوبة من كل فكر و إبداع.على مدخل الجامعات صفوف من المجلدات التي هي نقيض المعرفة الحديثة.كتب الدعوات الدينية الجاهرة بعذاب القبر و بمنطق التكفير.هذه الجامعات،التي كان الحديثون أنشأوها لتهبّ عاصفة العقل و النقد و السؤال،تتحول إلى أقبية فيها يتباهى الجاهلون بالجهل.طوائف متلاحقة تمنع الجامعة عن الجامعة،تمنع الفكر عن الفكر،تمنع الإبداع عن الإبداع.و في وسط الجامعات و مدرجاتها مقاصل تقطع الرؤوس كل ثانية ليرتفع التهليل بالجهل وحده”.

دافع مشروع الحداثة العربي عن الحرية ووقف ضد الاستبداد،يقول “بنيس” في صفحة 131″و الحداثة انتقدت الاستبداد مطالبة بالثورة عليه،و مطالبة بحياة إنسانية يتساوى فيها أبناء المجتمع الواحد.و نحن اليوم ننعم باستبداد لا يشيخ.واحدية بجواسيسها و معتقلاتنا و جلاديها.أين أنت أيتها الحرية التي من أجلها ضحينا بالنفس قبل المال؟أسمع الحديثين الأوّلين يصرخون في أحفادهم و في حكّام بلدانهم.لم يمت أحد منهم.و هم في منزلة العذاب يشاهدون ما حلَّ بأفكارهم و بالحياة التي قضوها مدافعين عن فكرة الحرية من سلطة و استبداد”.

و دعت الحداثة العربية الملعونة المطرودة إلى مثقف نقدي مستقل عن السلطة السياسية.يقول “بنيس” عن ذلك في صفحة 132 “و كذلك كانت الحداثة في الثقافة.في بداية الفكرة كانت الرؤية واضحة.لا بدَّ من استقلال المثقف عن السلطة السياسية حتى يتمكن من إنتاج ثقافة نقدية حرة مبدعة لا تستجدي و لا تخضع.تلك الرؤية التنويرية المتألقة هي اليوم صيحة في واد.لم يعد للثقافة هذا الوعد بالاستقلال عن السلطة السياسية.هي لم تتبدَّل فيما المثقفون يقبلون التنازل عن الخطوة الأولى التي بها أصبحوا مثقفين،يثق فيهم مجتمع،كما يحلم بتحقيق ما كانوا يكتبون في الحرية و الكرامة و التكافؤ و العدالة و الحياة.ظلام يبعدنا عن تلك الجمرة الأولى،التوقُّد الخلّاق،الذي كان صورة ممكنة لشعوب و لأوطان.و لك أن تتأمَّل هذا التبرير الذي يتعاظم من بلد إلى بلد لكي لا يبقى متنطِّع يقول.لا.لهذا الخضوع لسلطة سياسية لن تتنازل من تلقاء نفسها عن استبدادها”.

كانت الحداثة العربية حوارا مع الثقافة الحديثة في الغرب أولا ثم في كل مكان في العالم،حيث الانتقال من عهد إلى عهد،كما يرى “بنيس” في صفحة 132.و لكن الحاضر يقول عكس ما أسّسته تلك الحداثة،ف”في واقع ما تعيش في المكتبات،في الندوات،في الصحف و المجلات،في معارض الكتاب،في الجامعات،في الإعلام،لك أن ترى ما يناقض الذي انطلقت منه الثقافة العربية الحديثة و المراحل التي رسمت الحدود بين ما كان جفاء و بين ما بادرت به ثقافة و ما سعت إليه”.

يختم بنيس قائمة مناقب الحداثة العربية و مآثرها،بفقرة عن الفلسفة كوجه للحداثة الغربية الكبرى،موضحا ما آلت إليه الفلسفة في زمن انتصار “الحداثة المعطوبة”،يقول في صفحة 132″الفلسفة وجه الحداثة الغربية الكبرى،التي أعطت النقد قوة الحضور في حياة الثقافة و في حياة المجتمع و مؤسساته.هذه الفلسفة التي تغذينا منها،جيل النقد،منزوعة السلاح اليوم في حياتنا الثقافية.كانت البداية تنتظر استمرارية في الترجمة و التأليف و التبليغ،و ها هي الفلسفة بيننا ذبيحة تتحوّل إلى أنقاض في مجتمع ثقافي لم يفهم من الفلسفة إلا الكفر و لا يعامل أهلها إلا بالتكفير”.ثم يقول في نفس الصفحة السابقة”كيف لك أن تنظر إلى هذه المواقف من خلال الوقائع ثم تظل بعيدا عن الوصف على الأقل؟لعنة الحداثة تسأل.هل هي الحداثة لعنة في مجتمع عربي و في حياة ثقافية عربية تشمل بلادا،رغم كل التلوينات التي نتشبث بها أحيانا كي نبرِّر واقعا ليس هو الواقع العميق”؟

*انهيار المركز الثقافي أو وداع الحداثة؟

يتحدث بنيس في ص 9 عن انهيار مشروع تحديث الثقافة العربية.و هذا الانهيار يتمثل في بروز ثقافة عربية حديثة بدون حداثة حين يقول في ص 25 “ألّا تعرف بأي حيرة،تلك هي الحيرة الكبرى،وو أنت ترى إلى ثقافة حديثة بدون حداثة”.و يربط في صفحة 35 بين التغيير و الثقافة الحديثة “كانت كتابات و حركات تنشأ لتشاهد و تشهد،لتحرِّك و تبدِّل.تلك هي الحيوية التغييرية للثقافة العربية،التي استحقت بها صفة الحديثة”.و يتحدث عن حرب على الحداثة في صفحة 36 “حرب لا حد لها على العالم العربي.و على ثقافته.و على ماضية.و على حداثته”.و عن انهيار النقد و الحداثة يقول في صفحة 37 “عالم عربي ينهار دفعة واحدة.و الخطاب الذي كان يسمى قوميا،أو نقديا،انهار أمام تصاعد الخطاب الرسمي و الإسلامي و خطاب العولمة.لم ينتظر زمنا لينهار.تلك الضربة كانت حلقة في سلسلة الهزائم الجرّارة،التي مزقت الجسد الثقافي الحديث”.

و مشروع الحداثة العربية نشأ في تماس كبير مع أفق الحداثة الأوروبية،كما يقول بنيس حين تحدث عن لحظة تأسيس ذلك المشروع الحداثي العربي في صفحة 67 “الحديث عن الوقائع الثقافية الحديثة،او عن الثقافة العربية في وقتنا الحالي،اختيار للرؤية،للملاحظة،و للوعي النقدي.بذلك أحس بارتباط يشدني إلى أولئك الذين شيَّدوا،منذ القرن التاسع عشر،عهدا ثقافيا عربيا جديدا،يختلف عما كانت عليه الثقافة العربية في زمنها القديم.خطوات لأجل تحديث ثقافة أصبح لها أفق مفاجئ،هو الأفق الأوروبي”. و ربما كان ذلك اللقاء العربي الأوروبي هو ما استندت عليه الأصولية الإسلامية في محاولتها لتأصيل الثقافة عبر الإجهاز على “الغربي و الغريب و الأجنبي و المستورد”.

يؤرِّخ بنيس لانهيار مشروع تحديث الثقافة العربية بنهاية المركز الثقافي العربي الحداثي في بيروت.يقول في ص 7-8″منذ بداية الثمانينات،على إثر مغادرة مثقفين عرب بيروت،صحبة الفلسطينيين،حدث ما لم يكن السابقون يتخيلونه،حتى في السبعينيات ،على إثر هزيمة 1967 و ذيوع نقد النزعة القومية.إنه نهاية المركز الثقافي.و مع نهايته انتهت فكرة عن الثقافة و العروبة و الحداثة”.

و في صفحة 68 يجري “بنيس” تحقيبا يمهِّد لانتصار “الحداثة المعطوبة”،حين يكتب “منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي (و بعد حالات التفتت الأولى في الثمانينيات مع الغزو الإسرائيلي للبنان) شرع شيئ جديد في الثقافة العربية يتبلور،في فترة حرب الخليج و فترة التبشير بعهد العولمة.و يبدو لي الزمن هنا مؤشرا،لأن الملاحظة لا تنفصل عن الزمن و لا عن المكان.هذا تحقيب يساعد في الملاحظة من أجل أن يعمل الرصد على توفير إمكانيات التأمل.على هذا النحو تظهر التسعينيات على هيئة قبو،مكانا معتما ينحفر و تتعمق حفرته.و الغطاء يكاد يختفي عن الابصار.كلما اقتربت من هذه المرحلة اتضحت لي الحالة،جارفةً و مؤلمة”.

فصل من فصول الكتابة يلخِّص هزيمة مشروع الحداثة العربية،و الفصل هو “انتصار التقليد”.و عن غربة الحداثة الاجتماعية يقول في صفحة 42 “منذ العشرينات كانت النخبة الحديثة واعية بأنها تشتغل في مجتمع تقليدي،و في بنية ثقافية تقليدية.تشتغل معزولة.تفتقد بنيات اجتماعية تتبنّى التحديث.تجربة طه حسين مليئة بالعبر.و ماكتبه في مقدمته لكتاب “في الشعر الجاهلي”،كاف لتلخيص الأوضاع بالدقة و الصرامة المطلوبتين.قل إن تلك المقدمة بيان ثقافي لأزمنة و بلاد عربية بأكملها.و لا خوف عليك.ما يقرب من قرن.و لم تثبت الحداثة،على الأقل،في النقطة التي انطلقت منها،بل هي تراجعت إلى حيث اصبحت معزولة بين ذويها”.و عن “عزلة الحداثة” و “الاشتغال العميق للقيم التقليدية يقول في صفحة 118 “سواء قبلتُ بذلك أم لم أقبل.هذا واقع.أدب يسمي نفسه إسلاميا و حركات تسمي نفسها إسلامية.و لا رائحة للعروبة في هذا أو ذاك من الخطابين.صعود لا يفاجئنا،لأن أفكار الحداثة النقدية ظلت معزولة في واقع مجتمعنا،بل هي لدى فئات واسعة مجرد غطاء لا يدرك معنى الكلمات.فما ظل يشتغل،في العمق،هو القيم التقليدية،اللانقدية،الباحثة عن نفسها من خلال المعلوم،لا المجهول،الرافض للمغامرة،أي للنتماء إلى قيم الثقافة الحديثة أو العالم الحديث”.و هذا يرجع إلى هيمنة ما يسميها “المركزيات المريضة”ص118،ممثلة في “الخطاب الإسلامي الأصولي،الذي تتراجع معه أفكار الحداثة النقدية”ص117.

في ص ص 17-18 يدور حديث بنيس ذو النبرة التراجيدية عن غربة سؤال الحداثة العربية حين يقول “و في الصعود أرى إلى ما أعجز عن رؤيته أعود من جديد لأرى سؤال الحداثة العربية يهوي.كما لو كان خرقة منقوعة في دم الكلمات”.و يقول أيضا ص 32 “ذلك السؤال النقدي،الذي كبرنا به ورأينا الفاجعة،نكنسه اليوم كما نكنس القاذورات”.و عن ذمّ الحداثة يقول في صفحة 30 “و الناس سكارى بما يسمعون من حديث عن زمن لم يعد زمن الثقافة و المثقفين،و لا زمن الحداثة و الحديثين”.و في نفس الصفحة يتحدث عن إحراق الحداثة “فإذا بالعالم العربي يقيم مشاهد الإحراق بأيدي المثقفين أنفسهم،الحديثين أنفسهم،رغبة في اقساط مسمومة من الرضى على ما نكون”. و ذلك “الإحراق “يجري بنعومة فائقة،يقول ص 59 “مشاهد الإحراق تختفي تحت الكلمات،و الكلمات تعجز عن إخفاء قتلاها.تتكرر المشاهد بأناقة أيضا،حيث الشراسة تتعلّم شيئا من مكر صناعة القتل”. و يقول في نفس المنحى عن التبرؤ من الروح النقدية ص 31″هؤلاء الذين كانوا نقديين هم أنفسهم الذين لا يقبلون،اليوم،بوعي نقدي ولا بموقف نقدي و لا بكتابة نقدية.تبرؤوا مما كانوا عليه،باعدوا بينهم و بينه”.

و التبرؤ من الروح النقدية كأُسّ للحداثة ،يقترن بحرب على ذاكرة الحداثة و الثقافة الحديثة ،يقول في صفحة 59 “أحيانا أعجز عن فهم أو تفسير هذا التعامل الشرس مع الذاكرة الثقافية.شراسة تأتي من كل ناحية لتلتقي عند نقطة هجران الذاكرة أو التطويح بها،بعيدا،في أعمق الظلما ت.الجهات تبدو الآن جاهزة لتصفية الآثار الباقية لما تم و أنجز،هناك و هنا،و كأن الذين جاؤوا ليقولوا كلمتهم و قالوها بجرأة و استبسال،هم مجرد وهم أو خطأ همَّ بنا ذات صباح.شراسة ترغمنا على التبرؤ من تاريخنا الثقافي الحديث،فلا تسمح لنا ،بعد،بالعثور في الكتابات و الأعمال،فضلا عن الكتَّاب و الفاعلين الثقافيين،إلّا على الجيف التي علينا القبول بحرقها علانية و جرّها إلى المدافن الجماعية،بأمر ما يعترينا”.

و في ما يشبه وداعا للحداثة العربية،يتساءل “بنيس” عن أسباب نسيانها و إلغائها و التخلي عنها و التعب من مغامرتها الثقافية.يتساءل في صفحة 80 “لكن ما نلاحظه اليوم هو أنَّ ما تمَّ إنجازه يتعرض للنسيان،مرة أخرى،فيما ظل جزئيا ،إن لم يكن ملغى في نسيجنا الثقافي.هل سبب ذلك هو مهادنة المثقفين للنظام الثقافي-السياسي العربي،حرصا على مصالح تهدد الحياة اليومية للمثقفين؟أم سبب ذلك يعود إلى التعب من مغامرة ثقافية جوفاء؟أم يعود إلى صعود خطاب يتخلى كلية عن مشروع الحداثة و مشروع العروبة في آن”؟ و يقول أيضا عن “التخلِّي عن الحداثة”في صفحة 125 “هؤلاء أولياء بدون ولاية. و هم من مظاهر المرحلة الحالية،في الثقافة العربية،التي تتخلى عن القيم الكبرى للحداثة”.و في نفس الصدد أي إلغاء الحداثة يقول في صفحة 84 “لا أتوقف عن استنطاق السياق الذي وجدت نفسي منساقة إليه،و أنا أحاول أن أتأمل وضعية الثقافة العربية.شيئ ما يدفعني إلى الاستمرار.لعلها مذكرات كان عليَّ أن أشرع في كتابتها،و ها هي تأخذ مسارا شبيها بالذكريات.ربما كان ذلك احتفاظا بصمت سميته من قبل إضرابا.إضرابا عن هذه الحالات التي تريد أن تجعل من قرن بكامله عبورا من إلغاء مشروع تحديثي إلى إلغاء مشروع تحديثي”.و يختصر “بنيس” أزمة الحداثة العربية في عنوان لفصل من فصول الكتاب و هو “لعنة الحداثة” ص 129.

و في صفحة 137 يتحدث “بنيس” في ما يشبه “رثاء الحداثة” عن يُتم أهلها،حين يقول في أسى”إلى هذا الحد أصبح أهل الحداثة العربية أيتاما.لا يحنّون و لا يحلمون.في الحالتين معا نحتاج إلى شعلة تقي من البرد.و البرد شديد.في العظام يضاعف الألم،يجوّف العظم و ينخره.إنهم ينظرون إلينا من ثقوب جدار.حداثة لا تقوى على صرخة ما.لعلها لم تكن يوما في حياتنا.لعل الذاكرة أحرقت متاعها الذي كان لها.إبداعا.حرية.جنونا.و هي اليوم متروكة في سرداب بادر،لا يقترب منه أحد.أهل الحداثة مصعوقون بما يهجم كل يوم على كلمات،و على حلم،و على إبداع،و على جنون.شيئ ما يفصل بينهم و بين المسافة التي تخفي القادمين”.

لم يكن للعلم مكان في المشروع الحداثي العربي،و كانت الحداثة في تأسيسها قائمة على الأدب،و في ذلك يرى “بنيس” أن لحظة الأدب هي علامة على لحظة الثقافة في زمننا الحديث،و أن الدعوة إلى العلم كانت دعوة معممة،و لذا جرى انتخاب الادب.و لذلك يعتقد أن مطالبة الحركات الإسلامية بأدب إسلامي “تلتقي مع الدعوة الفرنكفونية في كونهما معا دعوتين أيدلوجيتين،من خارج التاريخ الثقافي للعرب و من خارج المعرفة الاساسية للتحديث الثقافي على الصعيد الإنساني”ص 87.و ربما كان تأسيس الحداثة العربية العرجاء على “الأدب” فقط،هو ما جعلها تترنح غير قادرة على الصمود في وجه المتدافعين لاقتلاعها من المشهد الثقافي العربي.

الوضع المأساوي للحداثة العربية الراهنة يمكن تلخيصه في أن عزلة الكتابة شكل من أشكال مقاومة الحداثة المعطوبة،يقول بنيس في صفحة 11 “و أن تكون الكتابة معزولة هو أن تقاوم الحداثة المعطوبة”.
إذن كيف يبدو المشهد الثقافي العربي بعد انهيار مشروع التحديث الثقافي؟في نظر “بنيس” تبدو البلاد العربية الممتدة الأطراف،منفى ثقافيا. و لذلك يتساءل في صفحة 77 “كيف لي أن أقضي الأيام في الدفاع عن ثقافة عربية لا تتخلى عن المنفى؟الحرب ليست من الكلمات المستحبة إلى القاموس الذي به أرى العالم،حتى و لو كان المنفى الثقافي لا يتوقف عن الحرب.بنسيان لبق.برجرجة الكلام.و الشمس فوق الماء بين مطرين،أو بين نخلتين”.

*ورثة الحداثة:ما بعد الحداثة و النظام العالمي الجديد،و الإسلام الأُصولي

حسب بنيس،فإن فئتين ستحتلان مشهد الحداثة العربية المتوارية: ما بعد الحداثة و النظام العالمي الجديد، و الإسلام الأصولي. و الهجوم على الحداثة يتم حسب رأيه في صفحة 50 “بألقاب ملتبسة إلى حد بعيد.منها ألقاب:ما بعد الحداثة.النظام العالمي الجديد”.

في جانب من دفاع بنيس عن الحداثة،مع اختلاف السياق،يبدو شبيها بدفاع الألماني هابرماس عن الحداثة،في نقده لما سماهم المحافظين الجدد في محاضرته الأولى والتي ضمنها كتابه الشهير “الخطاب الفلسفي للحداثة”.و يعني هابرماس بالمحافظين الجدد ما بعد البنيوية الفرنسية،أو ما بعد الحداثة لاحقا بعد كتاب لجان فرانسوا ليوتار.

و يواصل بنيس مشيرا إلى و محدِّدا ورثة الحداثة العربية المحتضرة،قائلا في صفحة 54 “نحن في زمن ما بعد الحداثة،يقول الأولون.و نحن في زمن يهدم الحداثة كلية بالرجوع إلى الأصول الدينية،يقول الآخرون”.و لذلك “المثقفون النقديون نادرون.نعم.نادرون في كل مكان”.ص 50.
ثم يتحدث عن الإسلام الأصولي و انتصاره على الإسلام الحضاري-مستعيرا تمييز عبد الوهاب المؤدّب- في صفحة 10 “ثم،مع التخلي المتزايد للوعي النقدي عن مكانه،تضاعف جبروت الأصولية،التي تكفِّر باسم الإسلام،و ترهب باسم الإسلام.هذا الإسلام السياسي،إسلام القراءة الحرفية،العمياء،المتعارض مع الإسلام الحضاري،إسلام قراءة الدلالة الموسعة.حتى الأدب افترسته الأصولية.قديما،لم يجرؤ أي كاتب أو ناقد عربي على إسناد صفة الإسلامي إلى الادب ،شعرا و نثرا”.
لكن نقد ورثة الحداثة العربية في معظمه موجّه للإسلام الأصولي.

يستند الإسلام الأصولي على الرجوع إلى الماضي الذهبي،كون إعادته الآن،هي –وفقا لخطابهم-وصفة التخلُّص من قاع الانحطاط المعاصر الذي يعيشه المسلمون.و لذلك يتحدث بنيس عن هيمنة الماضي على الثقافة العربية الحديثة حين يقول في صفحة 90 “و كلما تأملنتُ في القضايا الأساسية ،التي شغلت الثقافة العربية الحديثة،وجدتُ مسالة الماضي ضاغطة على الفكر،كما هي ضاغطة على النفوس.الماضي هنا موقف من الماضي.موقف نظري،لا يسمح للماضي بأن يمضي.فيما هي الحياة اليومية تسير باتجاه آخر،في الآليات،أو في الحساسيات،أو في الأذواق.عالم بكامله يتبدل من طنجة إلى المنامة.مع ذلك فإن هذا الماضي،ماضينا نحن،لا يتوقف عن الظهور،شبحا يعود في الكلمات،كما يعود في لحظة توضيح الطريق التي علينا أن نسير فيها،بحثا عن زمن ليس هو الماضي”.

ثم يتحدث بنيس في نفس الصفحة عن علاقتنا “المَرَضيِّة” بالماضي “الماضي الذي لا يمضي.و ما كتبناه عن الماضي.المنافع و المضار.الحلال و الحرام.كلها تؤكد أن علاقتنا بالماضي مرضيِّة و لا سبيل إلى العلاج منها،ما دمنا بعيدين عن العالم الحديث.و لنكفَّ عن ترديد ما سئمنا سمعه و قراءته.الماضي المضيئ.الماضي النافع.الماضي المقدَّس.لأننا بهذا لا نحل مشكلة من مشاكلنا مع الماضي،بمعى أننا لا نستطيع بها أن نستدل على كيف يمكن أن نستحقَّ هذا الماضي.ترديد أو تهديد.و الماضي برئي من كل ذلك.لقد جعلنا من الماشي خصما حقيقيا لزمننا الحديث،بعد أن طوحنا به الأرض،و أرغمناه على أن يكون ما لم يكن.عقيدة وواقعا،على السواء”.فاللهث وراء الماضي هو ضد الحداثة،لأنه “التقليد” نفسه.

ثم يقوم بنيس بنقد “تقديس الماضي” في صفحة 91 قائلا”فكرة الماضي التي لا نتخلّى عنها هي عائقنا المستديم.لا شك أنها تحولت إلى أضحوكة.فالماضي يسخر منا،و هو أيضا بتركنا نتوهّم ما نتوهّم،فيما هو هناك.حيث هو و حيث لا ندري أين هو.فلا وجود للماضي الذي نركِّبه كما لو كنا نركِّب قطع لعبة روسية.ذلك الماضي وهم من أوهامنا الكبرى،ندخله صاغرين و لا نحس بما نحن عليه،معه أو مع أنفسنا.هل يعقل أن نستمر في التلويح به كلما وجدنا أنفسنا أمام منعطف طريق جمالي أو اجتماعي أو سياسي؟و لربما كنا ببعدنا عن استيعاب شرائط التعامل مع الماضي نكون أعجز مما نعتقد عن التعامل مع الحاضر”.

إنّ مقاربة “بنيس” للماضي ككابح لتطور المجتمعات العربية الإسلامية،تطرح سؤال الزمن في الحداثة،حين يقول في صفحة 94″مسالة الزمن في التصور العربي هي ذاتها مسألة الحداثة،في الثقافة العربية.الأدب أو الفن،السياسة أو الاقتصاد،الفلسفة أو العلم،كل منها يطرح الزمن كعنصر سابق على سواه في مشروع التحديث،على المستوى الإنساني،لا الغربي بمفرده.و طرح الزمن ،في الأدب و الفن،أو الفلسفة و العلم،كان يعني استيعاب متطلبات ظهور وضع جديد،فيه للإنسان مثلما فيه للبنيات و الطبيعة”.فغياب الزمن هو سبب انعدام الفكر عند العرب”.يقول في ذلك في صفحة 96 “قرن بكامله مضى و العرب لم ينتجوا فكرة واحدة تستحق أن تجعلنا نحس بأن الزمن حاضر في الهم الجماعي.و حتى الحركات الأصولة في العالم العربي لم تبدع فكرة و احدة”.ثم يوضح “العزلة المجيدة”للعالم العربي،حين يقول “العالم العربي لم ينعزل فقط عن “الزمن” ،بل “عن العالم”،ص 109.

في زمن التخلي عن “الحداثة” هنالك قادمون جدد لاحتلال مشهدها الجنائزي،و عن ذلك يكتب بنيس موضحا هويّاتهم “محتلّون بأسماء غامقة،ملتحون بسيوف التكفير،قطاع طرق يرفعون شعارات الدستور و الديمقراطية،و على المنابر وجوه تشير إلى ما سنكون عليه.هؤلاء و أولئك.محتمل قدوم أي منهم لكي يضعوا لنا قوانين يلزمنا الخضوع لها”ص 136.
و لكن كل هؤلاء القادمين الجدد بهوياتهم الجديدة،حسب بنيس “يظلون من خارج ما هيَّأت له حركة الحداثة العربية،بحماستها المنشدَّة إلى الجميل و الحر.لم تكن حماسة معتوهين تأكيدا.هي حماسة شبيبة كانت آمنت بقيم زمن كوني.كانت كلما اطلعت على معرفة عانقتها،و كلما هاجرت إلى افق مبدع بادرت باختباره.و هي في فعلها كانت متعطشة إلى حياة مختلفة عن حياة الطغاة،و حياة الجهل،و حياة الانغلاق.و القادمون ينتسبون إلى خارج ما أعطى لكتابات و أعمال و حركات وهج الارتباط بالزمن”.ص 136.
*الحداثة المعطوبة:هيئتها و أسباب انتصارها

عن عزلة الكتابة يتحدث بنيس في صفحة 11 “و أن تكون الكتابة معزولة هو أن تقاوم الحداثة المعطوبة”.و هذه الجملة تلخّص هيمنة الحداثة المعطوبة على المشهد العربي.و قبلها كان بنيس قد أعلن انتصار “الحداثة المعطوبة في ص 8”و لنا،مع المأساوي،دلالةفي تعبيرها الموجز،هو انتصار الحداثة المعطوبة،في ثقافة و مجتمع.كيف لا تكتب و لا تستمر في الكتابة،التأمل؟تقول لي يدي.و طيلة عزلة كانت تشتد،كتبت اليد،في صباحات،بعضا من تأملات،مذكرات،عن حداثة معطوبة تنتصر،في اختيارات و ممارسات”.

يعقد بنيس في ص 9 رابطة وثيقة بين الأصولية التي يسميها ” تمركز الذات المشرقية” و الحداثة المعطوبة،حين يكتب عن أعراض الحداثة المعطوبة “هل هناك حداثة منفصلة عن الثقافة؟و هل تصل الثقافة إلى حداثتها من غير التورط الأقصى للذات الكاتبة في كتابتها و زمنها؟و كيف يمكن أن نواصل الكلام عن الحداثة و نحن ننسى و لا نفكر في السلطة و المؤسسة؟و من أين لنا أن نطأ أرض الحداثة و نحن نحتقر وظائف الأدب و الفن و الفكر في فكرة الحداثة و المجتمع الحديث؟و هل الإصرار على التمركز حول الذات المشرقية مفيد في الكشف عن الدلالة الوطنية في نسق و سياق جديدين للثقافة و العروبة و الحداثة؟أسئلة تبدو،اليوم،مهينة.و للمأساوي،الذي نعيشه،في المغرب و المشرق،ما يدلنا على الجواب.إنه زمن انتصار حداثة معطوبة،متعددة الرؤوس.حداثة معطوبة تواصل المؤسسة السياسية (الرسمية و شبه الرسمية)اختيارها،في السلطة و الثقافة،و حداثة معطوبة تعتمدها النخبة الثقافية،بعد أن ندمت على مشروعها النقدي و على الانخراط الأقصى للذاب في كتابتها و زمنها،و حداثة معطوبة تضاعف بها مؤسسات ثقافية و إعلامية موانع الاستقلالية و المبادرة و الإرادة،في السياسة و المجتمع و الأدب و الفكر.و لا تتوقف الحداثة المعطوبة عن السيادة في ثقافة و مجتمع”.

و “الحداثة المعطوبة” حسب “بنيس”،ليست نبتا شيطانيا،و لم يكن انتصارها مفاجأة فهي أصل في مشروع التحديث العربي.يقول عن ذلك في صفحة 132″منذ البدء،البدء في مشروع التحديث،اتضح أن هناك حداثتين:حداثة معزولة و حداثة معطوبة.تمييز يتأكد اليوم و لكن بدرجة اعلى من حيث سيادة الحداثة المعطوبة.بها تكتمل شروط لعنة الحداثة أو هي اللعنة ذاتها بعد مضي قرن أو يزيد”.و ما تشهده المجتمعات العربية ،في زمن كتابة “الحداثة المعطوبة”،كما يرى بنيس ناتج عن نزع الحداثة من “الحداثة النقدية”.يقول في صفحة 133 “لا يهم أن نسأل عن سبب انتصار الحداثة المعطوبة،لعنة الحداثة،طردها و إبعادها.فالتحليلات و التفسيرات موجودة،و هي لا تضيف شيئا بالنسبة لما نحن عليه.ما قبل التحليلات و التفسيرات و ما بعدها هو اللعنة عندما تنتصر الحداثة المعطوبة في مجتمع عربي بأكمله.فالتأويلات التي تهيمن على الحداثة تنزع الحداثة من الحداثة النقدية،المنفتحة،المتفاعلة مع العالم”.

انتصار الحداثة المعطوبة يمكن تلخيصه في “الجهل”.يقول “بنيس” في صفحة 133 “انتصار الحداثة المعطوبة هو اللعنة.لعنة الحداثة في الثقافة العربية و في مجتمع و حياة سياسية.و الجهل هو العنوان الذي يلخِّص اللعنة.لكأننا سعداء بالجهل.مفتونون بالخضوع.مستبشرون بالجفاء.راغبون في القبر.مبتهجون بالقبح.مطمئنون للخوف.لعنة تشاهدها في الشوارع كما تلاحظها في الأوساط العائلية و الحياة العملية و السياسية.لعنتك و لعنتي.و الأردية السوداء تتبدَّل أشكالها،حتى لا حق لي إلا في تأمل لعنة.فمن منَّا سينجو من هذه الحداثة المعطوبة”؟

و كان المؤدب قد سبق بنيس في كتابه “داء الإسلام” في الحديث عن علاقة الأصولية بالجهل و “أشباه المتعلمين” الذين تحدث عنهم كثيرا في كتابه.

يرى المؤدب في ص 127 أن الأصولية تزدهر على أنقاض التجارب الفاشلة.ثم يضيف ،قارنا ذلك بأشباه المتعلمين،إلى “صفحات قائمة التجارب الفاشلة تلك،انهيار مشروع القومية العربية في صيغتها الناصرية نتيجة نكسة حزيران-يونيو 1967،التي على إثرها انفتحت أبواب الجزيرة العربية أمام أشباه المتعلمين من خريجي الأزهر،الذين هاجروا إليها بكثافة سعيا وراء الكسب المادي.ففي هذه الرحلات المكوكية ما بين ضفتي البحر الأحمر تمذ في السبعينيات إقامة الصلة العملية بين الأصولية و الوهابية”.

ثم في ص 129 يتحدث عن تراجع مستوى التعليم الذي أدّى بدوره إلى تضخم حكْم أشباه المتعلمين.و كان من شأن المرتبات الضئيلة أن دفعت أشباه المتعلمين إلى السفر إلى الجزيرة العربية.و في هذا السياق السياسي و الاجتماعي خضعت مصر لعملية أسلمة متجدد ناشطة”.

ثم يضرب المؤدب مثلا عن كيفية تعاطي “أشباه المتعلمين” مع الطروحات الفكرية الساذجة لحسن البنا ،حين يقول في ص 121 “و يجد القارئ نفسه،مع هذا الاستشهاد،إزاء نموذج مثير للشفقة من الطروحات الساذجة التي تلقفتها الآذان المتلهفة لأشباه المتعلمين الذين يتآكلون حقدا”.

ثم يتحدث عن دور “أشباه المتعلمين” في ص ،118 حين يكتب مستطردا “و حالات الفشل هذه تفتح الطريق أمام المعارضة.و إنه لمن السهل على كارهي الأجانب،المشنعين،أن يفضحوا عيوب النموذج الغربي دون أن يفتحوا أعينهم على الانحراف الذي رافق تطبيقه.كما أن المحرضن،أشباه المتعلمين ينسون،بدعوتهم إلى العودة إلى تقاليدهم الخاصة،أن سبب فشل الديمقراطية هو الرجعية الاستبدادية التي كانت أساس التقليد الذي يدعون إلى استئنافه،لكنهم يتجاهلون هذا العائق،جاعلين من حقبة الخلفاء الراشدين مثالا أعلى لهم”.

و يضرب المؤدّب مثالا حيا على الجهل و دوره في انتشار “داء الإسلام”. فهو يرى،ضمن عوامل تاريخية كثيرة،أن “تدنِّي المعرفة بالعربية و علوم القرآن” قد أدى “إلى تنامي عدد الجاهلين بطرق استنباط الأحكام و الفتاوى و تزايد عدد من سمحوا لأنفسهم بالمساس بالنص.و كثرة عدد الجُهَّال تغذي الشراسة و تقويِّها”،ص 16.

و في إشارة إلى جهل الأصوليين،يورد المؤدّب مقاطع من “جامع الحكمتين”لفيلسوف هو ناصر خسرو حاول التوفيق بين لغة القرآن و بين الطروحات المنطقية للعلوم النظرية،ثم يعلِّق عليها “و لو أن طيف ناصر خسرو عاد بيننا و أطلع على أعمال أصولييننا و كتاباتهم،لما كان من شك أنه كان سيرى فيهم جهلة أشبه بالدواب،لا يستطيعون رؤية شجرة الحكمة و لا تمييز الثمار التي تزدان بها أغصانها”ص 183.

و في مقطع طويل نسبيا،يروي “بنيس” مشاهد للحداثة المعطوبة حين يكتب في صفحة 133 “و أنت لا تستطيع التراجع عن تأمُّل مشهد اصولي يتقن المعلوماتية أو محجَّبة تحمل نقَّالا و تسوق سيارة،أو حاكما يعتمد دستورا و برلمانا ثم هو في الوقت نفسه يقرر شخصيا في مصير الصلاحيات و تطبيق القوانين.هذه الحداثة المستترة هي الحداثةالمعطوبة،اللغةالعربية.المرأة.الجامعة.السلطة السياسية.استقلالية المثقف.حقول لا تغطِّي جميع العلاقات و المحسوسات.مع ذلك صارت كلها رهينة هذه الحداثة المعطوبة،رهينة اللعنة و الطرد و الإبعاد عن مجتمع و عن قيم.حتى التمييز صار صعبا داخل المؤسسة الواحدة أو العائلة الواحدة أو الشخص الواحد.و الدخيلة جرداء.لا تقترب من هذه المنطقة الأشد إيلاما لهؤلاء الذين يرتضون تكفير الحداثة.إنها المبعدة،الطريدة.بأوقية من الجهل يجيبك المسؤول و في نفسه نفور منك و من سؤالك.لا تقتربْ منها.هي التي يئدها،يخشى أن تتفتّح زهرتها فينهدم الجهل على الجاهل.لا تقتربْ”.

لا يتساءل الأصوليون عن تخلفهم في الاكتشافات العلمية و التكنلوجية ،و كيفية تغيير مواقعهم من مستلهكين للتكنلوجيا إلى مخترعين.

و لتعزية المسلمين كونهم خارج المساهمة في الاختراعات المعاصرة،يتحدث المؤدب عن مثال لما ساد حول الإعجاز العلمي في القرآن،ضاربا المثل بالشيخ الشعراوي مخاطبا أشباه المتعلمين. فهو أي الشيخ الشعراوي “يحاول أن يجد في الرسالة القرآنية مؤشرات إلى الاختراعات التي حققها التطور التقني،من الكهرباء إلى الذرة،كما لو أن جماهير المسلمين تجد في هذه التحايلات ذريعة أخرى كي تصدِّق أصالة كتابها الزاخر بالعلم الكلي،الذي استبق اختراعات غيرت حياة البشر على وجه الأرض.و كأنما الشيخ يستقطر بمعنى ما تعزية عن كونهم أقصوا من الاختراعات التي حقّقها هؤلاء الأجانب الغربيون المحقود عليهم.و كأن هذا الاستباق الربّاني يزيل عنهم عقدة الذنب،و يضع شعور الحقد جانبا فيساعدهم في التمتع بالخيرات المادية في مجتمع ما بعد صناعي،مغذيا لديهم الوهم بأنهم هم الذين بشروا بها،إنْ لم يكونوا المخترعين الفعليين لها”ص 133.

في ص ص 49-50 يذكر المؤدّب عن “كيف يتعايش في المواطن الواحد اعتماد الاستهلاك على الطريقة الأمريكية و النظر إلى الإسلام نظرة بسيطة تبتعد غاية البعد عن السنة و تعقيدات صعوبة التأليف الفقهي القديم .و قد أدركت أن المواطن الواحد المنتمي إلى النمط الاستهلاكي،وفق طلب السوق العالمية،ملزما أن يكيف نفسه سلفا.فبإمكانه أن يتبع نمط الحياة الأمريكية فيما يحافظ في الوقت نفسه على وعيه الجامد”.

و يضرب المؤدّب في صفحة 50 مثالا على المفارقة التي يعيشها المواطن العربي المسلم حين يقول “و أفضل مثال على هذه المفارقة هي المملكة العربية السعودية.فهي دولة قريبة بشكل وثيق في تحالفاتها من الغرب،مؤمركة إلى أقصى حد في حياتها المدنية،و هي تدعو في الوقت نفسه إلى إسلام لا علاقة له بالإسلام الحضاري بقدر ما هو إسلام أخضع لعملية انتحال حتى خرج منها واهيا فاقدا للحيوية”.

أسامة الخوّاض


os****************@ya***.com












__________________________________