ثقافة أم غطاء ؟!

 

Optimised by Bayyraq.com

 عبدالله زهير

ثمة ظاهرة لافتة تأتي في خضم استفحال الظواهر المعبرة عن تخلّف الواقع الثقافي العربي: فخامة أسماء المؤسسات والفعاليات والعناوين، وفي المقابل محدودية التأثير على مستوى الفعل الثقافي العميق. وجميع هذا يأتي في سياق التغطي بالثقافة وتطويعها لتكون مجرد صالون تجميل لجسد السلطة المترهل ولوجهها البشع. ذلك شبيه بما يقوله بيت شعري لجرير:  تُغطّي نُميرٌ بالعمائمِ لؤمَها / وكيف يُغطّي اللؤمَ طيُّ العمائمِ؟

 إن البنية السياسية والاجتماعية التي تصدر عنها هذه المؤسسات مغلقة بالفطرة، طغيانية في العمق، وهي بالتالي لا تجعلنا نصدق نواياها المُعلنة، ناهيك عن شعاراتها المتضخمة.

فلتسمحوا لنا إذاً. لا يمكنكم أن تكونوا متعالين ومتفاخرين أكثر من هذا. ولا يمكننا أن نكون سُذجاً أكثر من ذلك. ولتسمحوا لنا ألّا نكون مهذبين أكثر، ألّا نكون وديعين أكثر.

حقنا هو أن نشكك حتى في النوايا. ألسنا خُلقنا لنشكَّ ولنجهرَ بشكوكنا أمام تبجحِ الآلهة وعربدتها. هكذا خُلقنا، وسنبقى.

لا يمكن أن يوجد حراكٌ ثقافي وهذا الكم الهائل من المحظورات في السياسة والدين والتاريخ والجنس والمجتمع.

ثمة مدونون يُسجنونَ لسنوات بسبب “تغريدة”، وشعراء يُحاكمونَ بالإعدام أو بالمؤبد عقاباً على مقالة أو مجموعة شعرية.

يا الله! هل تخفِّفُ علينا قليلاً سطوةَ هذا الجحيم!

كل هذه المؤسسات عاجزة عن إطلاق موقف إدانة أو احتجاج على الانتهاكات التي تحصل للمثقفين أنفسهم، فما بالك بباقي البشر. بالأحرى إنها ليست عاجزة، بل متشاركة متواطئة مع هذه الممارسات؛ لأنها ارتضتْ أن تدخل َ في طاحونة الاستغلال والتوظيف.

قلْ لي ما هي مصادر تمويلك وتحت لواءِ أي سلطة أنتَ مُنضوٍ، أشرح لك آنذاك لماذا تسكتُ أو تبرر أو تدافع أو تتبرأ…

اللاوعي هنا يتحرك، ولا قيمة للادعاء بأنك تنطلق من منظورعقلاني أو قانوني صرف.

قد تسألني: وهل ثمة بديل سوى هذا؟

أقول(وربما أكون على خطأ): الاستنفاع لا يطور ثقافة مجتمع. إنه، على العكس، يطمس جوهرَ الثقافة ويخنقُ عصبها الأساسي، ألا وهوالتحرر. التحرر بوصفه جهراً بالمناطق المحجوبة المسكوت عنها.

الثقافة(أية ثقافة) إن لم تجعلْ الإنسان يثور حتّى على نفسه، فلا خير فيها ولا خير في القائمين عليها الداعمين لها.

إن الممارسة الثقافية بمختلف أشكالها: محاضرة، ندوة، شعر، مسرحية، موسيقى… إلخ إنْ لم تنتصرْ للقيم الإنسانية البديهية، حتى ولو على نحو غير مباشروهي من المفترض أن تكون كذلك بطبيعتها الغامضة والساحرة والصادقة، إن لم تكنْ مكتنزةً بهذه القيم التي على رأسها نشدان المساواة والعدل والجمال، فليس متوقعاً إلا أن تكون آلة توظيف مكشوفة لعنوان الثقافة ومسمياتها وشعاراتها.

بلى، إن الثقافة تغير واقع المجتمعات إلى الأحسن، ولكن بأي معنى وبأي شكل؟ الثقافة التي تداهن السلطة، أيا كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية أو حتى سلطة جمهور أو سلطة مزاج عام/ذائقة سائدة، لا تغير واقعنا إلا إلى حضيض المأساة التي نعايشها ونراها اليوم.

أذكر مرة أني انتهيتُ من أمسية شعرية، وكنتُ مشاركاً مع شعراء آخرين فيها، فبادرتني إحدى الحاضرات بهذا السؤال: لماذا كل هذا الحزن في قصائدكم؟ لماذا لم نجدْ حالة الفرح فيها؟ نحن جئنا إلى هذا المكان لنسمع الفرح لا الحزن..

وأظن أنكم سمعتكم مثل هذه الشكوى مرات عديدة. لهذه السيدة الفاضلة أقول:

الشعر في حقيقته لا يقول ما يحب الناس سماعَه، وبالشكل الذي هم يريدون. إنه يقول اللامُتوقع(اللامقول)بالشكل الذي لا يتوقعه أحد. إنه يحتمل الحزن والفرح في اللحظة ذاتها. ثم إن هذا الذي تسمعونه ليس حزن الشاعر وحده فقط، إنه حزن المستحمين بغبار الصحراء، والغارقين في البحر هرباً من هذا الحزن الأبديِّ المُسمَّى وطناً. إنه يأس المحرومين من ملاقاة أحبائهم بسبب سجن أو منع من خروج/دخول إلى بلد ما. إنه أشلاء المهدومة بيوتهم على أجسادهم الهشيمة في ليل الحروب العبثية…

لا تطيقون سماعَ ظلال ضئيلة من هذا السديم الشامل الذي يُغطّي الكون؟!

تفضلوا إذاً، وأتحفونا بأفراحكم وأهازيجكم. هل هي قصائد في حب الوطن،على شاكلة القصاصات التقليدية الفارغة التي تُلقى في حفلات التفاخر الوطني الكاذبة؟ هل تقصدون الغزل المتباهي بجمال المحبوب وحسن صفاته، ولابأس بتوجع خفيف يُعبّرعن صدوده والتشوق إلى وصاله؟! …إلخ

حسناً، إلى هنا يكفي. فهمنا. هو فرحكم أنتم فقط، وبالشكل الذي تريدونه أنتم، وليس فرح الآخرين ولا شكلهم.

ماذا عن المهمشين والمحرومين والمنبوذين والمغضوب عليهم بسبب لاقابليتهم للخضوع؟ هل تُركتْ لهم مساحةٌ للفرح أصلاً؟

وبالتالي فإن هذا الفرح المزعوم  لا يعدو أن يكون إلا أنانية فجة تستبطن استغلالاً لمفردة الثقافةبطريقة سمجة مفضوحة، تمسخ مفهوم الثقافة وتحولها إلى تفرع ضئيل بائس من تفرعات السلطة وتغولها.