حسن المطروشي بين الحدس والحواس

f2b65743c70f4c4bac61142f247e7b5c
جريدة الحياة اللندنية
السبت، ٢٨ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٧ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: السبت، ٢٨ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٧ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)شوقي بزيع 

يبذل الشاعر العماني حسن المطروشي أقصى ما يستطيعه من جهد لكي ينجو من الرتابة النمطية التي تحكم القصيدة العربية الحديثة بشقيها التفعيلي والنثري. وهو إذ يدرك تمام الإدراك وقوع الكثير من التجارب المتأخرة في فخ الاستسهال والغرْف من المنجز الشائع والمكرر لهذه القصيدة، وبخاصة في ظل طوفان التجارب والأسماء الذي بلغت به التقنيات الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي ذراه الأخيرة، يذهب إلى الاشتغال على قصيدة مجانبة للسائد وبعيدة عن السيولة اللفظية، ولغة مقترنة بالاختزال والإيماء والصور اللماحة والتجاور غير العادي بين المفردات. ثمة شعور راسخ عند صاحب «على السفح إياه» بمسؤولية الكتابة وصعوبة اقترافها. وهو ما يفسر مجانبته للإطناب والغزارة بحيث تفصل خمس سنوات كاملة بين مجموعتيه الأوليين «وحيداً كقبر أبي» و «على السفح إياه»، وخمس أخرى بين هذه الأخيرة وبين مجموعته الثالثة والأكثر تميزاً في مسيرته «لديّ ما أنسى». وإذ تقلصت إلى ثلاث سنوات المسافة بين مجموعتي المطروشي الثالثة والرابعة فهو لا يزال يحافظ على نضارة لغته وتخففها من الزوائد، من دون أن تفقد صدقها ورشاقتها والتصاقها الحميم بالنفس والحياة.

 

يشكل عنوان المجموعة الجديدة «مكتفياً بالليل» أحد المفاتيح الرئيسة للولوج إلى عوالم حسن المطروشي الذي يرى إلى الشعر بصفته إيغالاً عميقاً في عتمة النفس البشرية ودهاليزها، لا بصفته أداة للتحريض السياسي والدعوي وملامسة للسطوح الظاهرة وإقامة في الضوء الباهر للنجومية.

وإذ يذكرنا العنوان بقول الأرجنتيني بورخيس عن أن الله خصه بميزتي العمى والكتابة، فإن المطروشي لا يذهب بقصيدته نحو التعمية والإبهام من جهة، ولا يجعلها تقيم في الضوء الساطع للواقع المعيش، من جهة أخرى. كأن قصيدته تسير على الخيط الفاصل بين الضوء والظلمة، بين الوضوح والغموض، وبين الواقعي والمحلوم به. ومع أن قصيدته هي ثمرة تسويات دقيقة بين المحافظة على المنجز الشعري السابق وبين مغامرة التجريب، فإن الشاعر يجانب الافتعال والجمالية المصطنعة وينقع لغته بماء الشغف وقوة العصب وحرارة التجربة. ما يجعل تجربته دافئة ومقنعة ومشدودة العصب. والمجموعة الأخيرة تشكل استمراراً طبيعياً للمجموعات الثلاث السابقة، سواء من حيث مقاربته للعالم والأشياء، أو من حيث غنائيته الرقراقة وإيقاعاته الرشيقة، إضافة إلى وقوع التقفية في مكانها الملائم من دون افتعال أو تعسف.

وتعكس قصيدة الشاعر اللافتة «تقمصات رجل وحيد» الكثير من خصائص تجربته وأسلوبه الذي يلحق تفاصيل الحياة اليومية بالتقصي النفسي والحلمي، كما بظلال الحياة وأطيافها.

رغبته في التأمل والاستبطان وطرح الأسئلة الوجودية الكبرى لم تمنعه من دفع الشعر إلى ملامسة اليومي والعادي من التفاصيل، كالحديث عن الهاتف والجلوس قبالة التلفاز والانشغال بإيجار البيت وغير ذلك. لكنه سرعان ما يحوّل يومياته العادية عن مسارها الضيق والمحدود ليعلن بأنه «يقظٌ بما يكفي ليربك عاصفة»، أو يهتف فجأة «أضِيقُ كما بلاد أو أموت بلا صفة». وصولاً إلى وضع خاتمة شبه سوريالية لمكابداته وأحواله: «يتكاثر الرجل الوحيد على المقاعد والرفوف/ وكلما يدنو من المرآة يضحك خلسةً/ تبدو نواجذه المصابة بالتآكلِ/ تسقط المرآة في جهة محايدةٍ/ فتنبت هجرتان على يديه وينكسرْ».

لا تغيب المرأة والحب عن قصائد المطروشي ومقطوعاته، ولكن حضور المرأة في شعره يأخذ بعداً طيفياً أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع المحسوس. ثمة بالطبع نزوع إروتيكي لا تخفى إشاراته في أكثر من نص، كقول الشاعر «وأصعد ريحاً كي أراني وربما/ أطلُّ على داري وراء ثيابها». فإن السمة الغالبة في المجموعة هي الاحتفاء بالأنوثة بصفتها ماء العالم وهواءه وخشبة خلاصه، أو بصفتها الموجة الأكثر تناغماً مع روح الشعر وجوهره. وكما عبّر الشعراء الأقدمون والمعاصرون عن رغبتهم في قهر الزمن وتجديد عقد حبيباتهم مع الصبا المتفجر، يكرر الشاعر الرغبة ذاتها في إحدى قصائده، فيهتف بمن يحب: «ليكن أني أنا من سرق الضحكة من نومكِ/ كي ينجوَ من أعوامه البلهاءِ/ ما ثَم على ظلي سواي/ جالساً في طرف الدنيا كقرصانٍ/ أناديك: انظري/ ليكن أني تآمرتُ على روزنامة الخلقِ/ وألغيت التقاويم لئلا تكبري». هكذا تحضر المرأة بصفتها أقرب إلى الأيقونة منها إلى الوجود الواقعي، وإلى الطيف منها إلى الحقيقة، بحيث لا يتردد الشاعر في القول: «حذار التصادم بامرأة في الزحام/ لئلا يزلّ الرصيف/ ويربك خطوتها الصافية».

ثمة في قصائد «مكتفياً بالليل»، كما في معظم قصائد الشاعر، وقوف مترنح على شفير الخيارات الصعبة حيث الإنسان محكوم بالثنائيات الضدية التي تظهره متعففاً وطهرانياً في بعض الحالات، وتظهره أقرب إلى الشهوانية والغريزة البدائية في حالات أخرى. مثل هذا التمزق عرفناه عند بودلير في «أزهار الشر»، وعند الياس أبو شبكة في «أفاعي الفردوس»، وصولاً إلى أنسي الحاج الذي نعته بعضهم بالقديس الملعون. وهو يظهر جلياً في بعض نصوص المطروشي الذي يلامس حيناً حدود التصوف، حيث يعلن في إحدى مقطوعاته «سأعود إلى الملكوت/ ليس ثمة ما يغري في هذا العالمِ/ لا الحرب ولا الكهنوت». بينما يتوق من جهة ثانية إلى اقتراف الإثم وتصيد متع الحياة وملذاتها. لكن الشاعر لا يذهب بعيداً في انتهاك المحرم ولا يغلبه النزوع العدمي على أمره، بل ينقل رغبته في التمرد إلى داخل اللغة متصيداً ما استطاع من الصور والمجازات والتراكيب الطازجة والمتغايرة، لكنه ينحاز في آخر الأمر إلى براءته الطفولية، كما إلى نزقه الرعوي الذي يتماهى مع الفطرة الأم والغرائز الأولية للكائنات. وهذا ما تعكسه بوضوح قصيدته «مثل لص يغرّر باليائسات» التي يقول فيها: «سكنتُ الذرى/ وكبرت مع الريح والماشية/ ولي خفة الضبع قرب الينابيع/ لي في النوائح مرضعةٌ/ والعواصف أرملتي الثانية». ولن أغفل في هذا السياق إلحاح الشاعر على صورته المشروخة في مرايا الأزمنة المتباعدة، أو استعادة جذره المائي الذي يتعهده البحارة العمانيون بالحدب جيلاً بعد جيل: «سألتُ أبي مرةً عن أبيهِ/ فقال: مضى كالرجال إلى البحرِ/ يا ولدي رحلة نائيه/ وحين افتقدتُ أبي في الدروب/ بكيتُ لوالدتي/ فأشارت إلى البحر/ وانطفأتْ فوق منزلنا نجمةٌ ساهيه/ ومن يومها أتهيأ للبحرِ/ منتظراً كالرجال متى تقلع السفن الراسية».