رموز الموت والحياة وما بينهما في شعر عبد الوهاب البياتي

 

636373379641291094-بيلءؤ

د.حسن الخاقاني

 

الموت صنو الحياة ، وقرينها الازلي ، وهو من المشكلات التي واجهت الانسان منذ بدء حياته ، وما تزال قائمة الى ان يبعث الاموات الى حياة اخرى. وقد اهتم الفكر الانساني بهذه المشكلة منذ قصة قابيل وهابيل ابني آدم (عليه السلام)([1]) مروراً بعصور الحضارة المختلفة التي وجدت تعبيراً لها في الاساطير ، فقد كان موت أنكيدو دافعاً قوياً لصديقه جلجامش ليغامر في رحلة البحث عن عشبة الحياة ، او الخلود فيها ، لكنه عاد خائباً ليواجه مصيره المحتوم([2]) .

وكان لابد للانسان من ان يواجه هذه المشكلة مادام حياً ، فتنوعت استجاباته ازاءها بحسب مراحل تطوره الحضاري والفكري ، اذ لم يكن لديه في البداية (أي تمييز محدد بين الاحياء والاموات ، فكان استمرار حياة الموتى ، وعلاقتهم بالناس أمراً مسلماً به لان الموتى جزء من الحقيقة التي لاشك فيها ، حقيقة الم الانسان او توقعه او سخطه)([3]) وبتطور الانسان الى اتجاهات فكرية جديدة تحول (الى الثورة على الموت ، التي نلقاها في صورة سخط مكتوم واحساس دفين بالظلم)[4] لغياب القدرة على المواجهة او النصر في المواجهة ، وهو ما دفعه – حين لم يجد ذلك – الى البحث عن تعويض ، فظهرت فكرة “العالم الاخر”([5]) حيث يحيا الانسان حياته الاخرى ، بعد الفناء في حياته الاولى ، فاما الجحيم واما النعيم .

وكانت فكرة الجحيم([6]) ، والنزول الى العالم السفلي([7])حيث (صنوف العذاب التي توجه للمذنب يوم الحساب وعندئذ يستوي الحال على كل المذنبين لافرق بين سيد ومسود ، ونبيل وعبد ، وغني وفقير ، الناس سواسية ويكافأون على قدر الذنوب التي ارتكبوها لان الحياة الدنيا لاتوفر مثل هذه المساواة ، فلا اقل من ان تتحقق في العالم الثاني)([8]) وبمقابل 
ذلك ، كانت فكرة الفردوس – التي هي في ارض دلمون([9]) –  حيث النعيم الذي تناله الارواح الخيرة.

وكان من سعي الانسان الى بلوغ العدالة المفقودة ، ان اوقع الموت على الالهة ايضاً ، اذ وجد (ان الالهة التي لم تسعده يوماً في حياته ، لا يمكنها ان تلتفت اليه بعين العطف وترعاه بعد موته)([10]) وبذلك يكون الموت قد غلب اقوى قوة في الكون وهي الالهة ، فلا تثريب على الانسان ، بعد هذا ، ان ناله الموت ، لكن هذا التهوين من شأن الموت لم يكن قادراً على ازاحة القلق الكامن في داخل نفس الانسان وشعوره.

ومن وسائل التعويض ، فكرة الخلود([11]) بعد الموت لدى القدماء الذين (لم يروا الموت على انه الفناء المطلق بل كان انفصالاً مابين الجسم والروح التي كانت تلازمه في الحياة ، ولكنها تتحول عن شكل من الوجود الى شكل اخر حيث تذهب عند الدفن الى عالم خاص بالارواح)([12]) وفكرة التحول قديمة عند العراقيين([13]).

لقد كان تراث امم الارض غنياً بمعطيات الموت والحياة والصراع الازلي بينهما ، وقد اهتم العرب لهذا الامر ، اذ واجه العربي في عصر جاهليته مشكلة الموت والحياة([14]) ، وتعاقبهما في سيرته المهددة بالفناء في اية لحظة ، وحين لم يكن من شيمة العربي ان يقر الفرار في المواجهة ، فقد كان الخيار الثاني الذي لابد منه ، وهو مواجهة الموت ، والاقدام عليه بكل جرأة. لكن ذلك لم يكن منجياً له من قوة الشعور بفداحة الخطب ، وعظيم الرزية فيه ، برغم علو جلبة الفخر عليه ، وربما كان الفخر نفسه ، تسلية للنفس المفجوعة عما اصابها ، وهذا ما ظل ينطق به التراث الضخم الذي خلفه الجاهليون([15]) ، حتى اذا جاء الاسلام اعطى الموت معنى نبيلاً ، ان اقترن بجهاد في سبيل الله ، او اصلاح من شأن الدنيا والاخرة.

غير ان التسلية بحسن الجزاء لم تنف اصل المشكلة التي ظلت قائمة تتداولها فروع العلم المختلفة ، وقد كان للفلسفة حصتها من القضية ، اذ اهتمت الفلسفات القديمة والحديثة([16]) على السواء به حتى ظهر من مجّد الموت وسعى اليه ، وهم الرومانسيون خاصة ، فيما كان هيجل (يعد الموت تصالحاً للروح مع ذاتها ، برغم شعوره بمأساوية الموت ، وقد نظر الى الخلود على انه يقف شاهداً على لاتناهي الروح والقيمة المطلقة للفردية الروحية)([17]).

لكن الموت ظل مصدر قلق للانسان حتى العصر([18]) الحديث و يبدو انه سيظل كذلك حتى يقضي الله امره.

كان البياتي واحداً من الشعراء الذين واجهوا مشكلة الموت الازلية مثل غيره من شعراء الدنيا ، الا ان ظروف نشأته عمقت احساسه بالموت ، ومكنته من تكوين رؤية خاصة به ، ومن اهم تلك الظروف : المنطقة([19]) التي ترعرع فيها طفلاً ، ثم فتى ، وهي تقع قبالة مقبرة تقرب منها مجزرة للحيوانات ، وكلاهما يعرض كل يوم ، مشاهد مختلفة للموت (فالحياة التي عاشها {كذا} هذا الطفل كانت اشبه بالموت نفسه ، او بأطلال دارسة مهجورة ، ولكنها بلا اساطير ، كنا نعاني الموت ونتنفسه ، وكانت المقبرة قبالنا ، فلا يمر يوم الا ونرى الموتى الذين يشيعون الى مثواهم الاخير ، وكنا نسير وراءهم ، نحن الصغار ، لنشاهد عملية دفنهم ، فالموت ، موت الانسان والحيوان كان امراً مألوفاً لدينا)([20]) وما ان شب هذا الطفل قليلاً حتى راح يبحث عن منافذ للخلاص او السيطرة على هذا الهاجس الذي لايكاد يهدأ ، وكان من تلك المنافذ الاقتراب من الموت عبر رؤية رومانسية واضحة اكتنفت مجمل نتاجه الاول في ديوان “ملائكة وشياطين” ([21])لكن اظهر تلك المنافذ محاولته اقصاء الشعور بالموت ، وتغليب التمسك بالحياة ، حتى اصبح الموت نفسه لحظة ميلاد جديد ، ليكون الموت منتج حياة جديدة ، سواء تم ذلك بالبعث والنشور ، ام بترك بذرة الحياة مغروسة في بقعة دم لتنمو من جديد (حيث الموت لاينفي الحياة ولايوازيها ، بل يخالفها في الدرجة وقوة الحساسية ، فالذي يموت لايلبث ان يبدأ رحلته من جديد ، في سفر متواصل ، مضنٍ ، محققاً ، بقوة العشق ، يقظة جديدة في عالم جديد)([22]). وهذا نظر جديد انتجه قوة التأمل الهاديء بعد زوال الصدمة الاولى التي احدثها منظر الموت (ففقدان الدهشة ازاء الموت يتيح الفرصة للتفكير الهاديء الرصين ، ومن هنا بدأ الموت الصاعق ، المدهش ، بالنسبة للاخرين يتكشف للبياتي عن شيء مغاير ، عن الميلاد ، واخذت الغلالة الميتافيزيقية الشفيفة ، والرداء القدري الجبار معاً في التمزق والسقوط ليحل محلها بناء جدلي من نوع جديد ، يبصر في رحم الموت بذرة الحياة)([23])التي تضمر امكان حياة جديدة ، وتفرز رؤية جديدة تسقط الرؤية العدمية التي قد ينطوي عليها مفهوم الموت من حيث انه نهاية الحياة المادية ، او فناؤها ، فقد (صار موت الاشياء من حوله ذا معنى ، اعمق وابعد من معنى النهاية ، وقدم بذلك مفهوماً فلسفياً للموت)([24]) معتمداً في ذلك (رؤيا اشراقية ، شمولية. فالموت ليس نقيض الحياة وحسب ، بل مبدأ من مبادئها ، ولازم لتجديدها وسيرورتها)([25]) التي تظهر في رموز جديدة ، كلما افنى الزمان رموزها القديمة.

ذلك هو المظهر العام الذي تجلت به العلاقة الجدلية بين الموت والحياة في شعر البياتي في صورته العامة ، حيث الدلالات مختلفة ، وربما عبّر الرمز الواحد عن اكثر من دلالة. لكن هذا الامر قد مر بمراحل اكتسبت صفاتها بحسب مفاصل التطور الشعري والفكري ، ودرجة النضج الذي بلغها الشاعر في نموه ويمكن تلمس التباين في القراءة الاولى لديوانه ، وهذا التباين يؤذن بأن مراحل مختلفة يمر بها البياتي في هذا الشأن سيأتي البحث علىتحديدها.

يتجاذب ترجح البياتي بين الموت والحياة([26]) طرفان هما : الواقع السيء الذي يحيل الى الموت ويفرز رموزه ، والايمان([27]) بالثورة على هذا الواقع ، وانتصارها الحتمي الذي يعطي قوة الايمان بالحياة وانتصارها في صراعها مع قوى الموت ، لكن افول الثورة ، وانكسارها في العالم ، وفي نفس البياتي ، تبعاً لذلك ، غلّب الشعور بهيمنة الموت وسطوته ليكون رمزاً لكل القوى الشريرة التي افنت الثورات ولتكون الرموز معبرة عن ذلك الانهيار ، وزاد من حدة هذا الشعور لدى البياتي تقدم العمر به ، واقتناص الموت احباءه واصدقاءه ، فلم يجد بداً من الاستسلام ، وان ظل – كأي انسان آخر – متشبثاً بالحياة الى اخر رمق فيه ، او فيها ، لكن من دون جدوى.

رمـوز المـوت  :

الخـيام(*) :

 يعد الاختلاف الحاد بين الخيام وعصره من اوضح سماته رمزاً ، فقد عاش الخيام في عصر([28]) انحطت فيه القيم الاخلاقية والفكرية ، وتردى فيه الوضع السياسي كثيراً ، فانحسر العقل والحكمة والخير ، ليطغى نهازو الفرص فيستغلوا رعاع الناس ويسطاءهم ، لتحقيق مارب دنيا ، ومثل الخيام لايجد لفكره وحكمته مكاناً بين هؤلاء ، بل لايجد من يفهم هذه الحكمة ، فيرمى بالزندقة والمروق من الدين ، وهي تهم طالما أصابت امثاله في عصور الجهل.

وعلى هذا الاس العميق من اسس الحياة ، وما فيها من مظاهر الصراع ، بنى البياتي شخصية الخيام رمزاً في ديوانين هما : “الذي يأتي ولا يأتي” و “الموت في الحياة” وقد وضع للاول عنواناً فرعياً هو : (سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولايأتي) وحدد بهذا بعض ملامح الرمز ، فكلمة (سيرة) تعني وجود منحى سردي للكشف عن الحياة الباطنية التي هي معاناة معرفية من اجل بلوغ الحق ، ثم يعطيه امتداداً في كل العصور ، ومنها العصر الحاضر الذي يعيش فيه البياتي ، وبذلك ينتقل الرمز من سياقه الزمني ليدخل في نسق يحتوي العصور كلها([29]).

اما انتظار الذي يأتي ولا يأتي ، فهو معلق على ثنائية الاثبات والنفي في وقت واحد ، ليكون اجتماع الاثنين مستحيلاً في صورته المادية. وبذلك يكون انتظار الخيام مستحيلاً ، لانه ينتظر شيئاً لايمكن ان يتحقق ، ولعل في تصدير الديوان([30]) بعبارة البيركامو ما يشد من ازر هذا الرأي.

اما ديوان (الموت في الحياة) فقد جعل له عنواناً فرعياً هو (الوجه الاخر لتأملات الخيام في الوجود والعدم) ليكون مرادفاً لتأملات الخيام في الحياة والموت مع فارق الحقيقة والمجاز ، وقد احتوى هذا الديوان رموزاً رئيسة للموت عند البياتي ينتظمها خط واحد هو صراع الانسان مع عصره لسوء غالب على هذا العصر ، ولافرق في ذلك ان كان الانسان رمزاً تاريخياً او معاصراً ، ثائراً او شاعراً ، او فناناً ، اسطورة او حقيقة ، فكل هؤلاء يعمل بتأثير تلك المرجعية التي هي اختلافهم الحاد مع العصر[31] الذي كتب عليهم ان يعيشوا فيه ، وقد افرز هذا العصر رموزه التي تمثله ، لذا سيجري تحليل النصوص للكشف عن حدود الرموز بنوعيها بدءاً بالخيام نفسه وصراعه مع عصره ، ثم الرموز التي وظفها البياتي للتعبير عن الفكرة نفسها.

يبدأ الخيام في (الذي يأتي ولايأتي)([32]) من لحظة تناقض تاريخي ، فيها الماضي المجيد([33]) ، والحاضر السيء :

كان على جواده ، بسيفه البتار

يمزق الكفار

وكانت القلاع

تنهار تحت ضربات العزّل الجياع

– مولاي : لا غالب الا الله

فلتغسل السحابة

ادران هذي الارض ، هذي الغابة

ولينهض الموتى من القبور

ولتحرق الصاعقة الجسور

والجثث المنفوخة البطون

فحول رأس القيصر ، النسور

تحوم ، والامطار

تغسل جرحك الدفين ، تغسل الاشجار

تنتمي هذه الصورة البطولية ، على مستوى الخطاب والانجاز الى الماضي الذي يقيده الفعل الناقص (كان) في مفتتح النص ، وهي صورة سرعان ماتخبو في النصف الثاني من النص ، فيتحدث ضمير المتكلم عن (الاخرين) ، ثم عن النفس : ليكشف عن نمط جديد فيه الخيبة والموت :

– مولاي : قال النجم لي ، وقالت الانوار

باننا ممثلون فاشلون فوق هذا المسرح المنهار

وان هذي النار

الشاهد الوحيد في محكمة الزمان

           وبهذا يكون الماضي قد احتجب تماماً ليطل الحاضر وجهاً نقيضاً له. فلا يبدو غريباً بعد هذا ، ان بدأ الخيام سيرته من نقطة الجحيم والموت :

ولدتُ في جحيم نيسابور

قتلت نفسي مرتين ، ضاع مني الخيط والعصفور

بثمن الخبز ، اشتريت زنبقاً

بثمن الدواء

صنعت تاجاً منه للمدينة الفاضلة البعيدة

لأمنّا الارض التي تولد كل لحظة جديدة

فالسعي الى المدينة الفاضلة ، والولادة الجديدة ، يصيبها الخراب بتدخل “البشر” :

طفولتي الشقية الحمقاء

فراشة عمياء

البشر الفانون في مدينة الحديد والاحجار

تسلقوا الاسوار

ونصبوا الشراك

تختفي المدينة الفاضلة لتظهر (نيسابور) مطية الغزاة ، لتكون ساحة موت مفتوحة  :

دُقت طبول الموت في الساحات

وأعدم الاسرى وهم اموات

– لسانها الثرثار

يقطع فيه خشب التابوت

خيوط عنكبوت

تلتف حول هذه الذبابة

ايتها السحابة :

لتغسلي ذوائب المدينة الثرثارة

وهذه القذارة

كل الغزاة من هنا مروا بنيسابور

على ظهور الصافنات وعلى اجنحة الطيور

يمتزج شعور الموت بالغربة لدى الخيام ، حين يحس انه معلق بين استحالة الموت واستحالة الحياة :

القمر الاعمى ببطن الحوت

وانت في الغربة لاتحيا ولا تموت

لكنها غربة فكرية ، وهي مفتاح لنصوص اخرى تحمل فيها الرموز القضية نفسها ، قضية اقتراب الرمز من السلاطين وما شابههم ، لتبدو ضرورة للاكتشاف :

– اصابك السهم ، فلا مفر ، ياخيام

ولتحسب الديك حماراً ، انها مشيئة الايام

– الظبي في الصحراء

وراءه تجري كلاب الصيد في المساء

والخمر في الاناء

فعبَّ ما تشاء

بقبة السماء او قدح البكاء

في حانة الاقدار

حتى تموت فارغ اليدين تحت قدم الخمار

رفيقك الوحيد في رحلتك الاخيرة

يكشف النص عن مرحلة مهمة بلغها الخيام ، تضعه على مقربة من الموت الذي تتساقط رموزه من حوله :

في سنوات الموت والغربة والترحال

كبرت يا خيام

وكبرت من حولك الغابة والاشجار

شعرك شاب والتجاعيد على وجهك والاحلام

ماتت على سور الليالي ، مات “اورفيوس”

ومات في داخلك النهر الذي ارضع نيسابور

يتأكد هذا بموت اقوى رموز الحياة عند البياتي – عائشة – :

عائشة ماتت ، وها سفينة الموتى بلا شراع

تحطمت على صخورها شواطيء الضياع

لكن “عائشة” تمتلك امكان الانبعاث والحياة ، لذلك يظل ثمة امل للخيام برغم اطباق الموت عليه :

عائشة ماتت ، ولكني اراها تذرع الحديقة

فراشة طليقة

لاتعبر السور ، ولاتنام

وهو ما يتأكد بالانتظار في (الذي يأتي ولا يأتي)

عائشة ماتت ، لكني اراها تذرع الظلام

تنتظر الفارس يأتي من بلاد الشام

وينتقل الخطاب الى ضمير المتكلم – الخيام – لتزداد قوة الايمان بهذا الامل :

– يأتي ولا يأتي ، اراه مقبلاً نحوي ، ولااراه

تشير لي يداه

من شاطيء الموت الذي يبدأ حيث تبدأ الحياة

من كان يبكي تحت هذا السور؟

كلاب رؤيا ساحر مسحور

تنبح في الديجور

ام ميت الجذور

في باطن الارض التي تنتظر النشور

وبعد هذه التجربة القاسية في الموت والحياة ، ومقاربة الامل الخداع ، يستطيع الخيام ان يختار نمط الموت الذي يريد :

– معجزة الانسان ان يموت واقفاً ، وعيناه الى النجوم

وانفه مرفوع

ان مات او اودت به حرائق الاعداء

وان يضيء الليل وهو يتلقى ضربات القدر الغشوم

وان يكون سيد المصير

لكن هذه الميتة اصبحت املاً مرتجى لايمكن تحقيقه ، اذ تظهر العودة الى جحيم نيسابور مدى وحشته وذلته ، والخراب الذي اصاب المدينة في البكائية الموجهة اليها ، وتظهر عائشة وكأنها ماتت الى الابد :

عدتُ الى جحيم نيسابور

لقاعها المهجور

للعالم السفلي ، للبيت القديم الموحش المقرور

ابحث عن عائشة في ذلك السرداب

اتبع موتها وراء الليل والابواب

كزورق ليس به احد

تتبعني جنازة الشمس الى الابد

يترك هذا الموت اثاره العميقة في جسد الخيام وروحه ، فيحيله الى حجر من يابس الصخر ، ليس فيه من  الحياة نسغ يتحرك :

من اسفل السلم ناديتك ، يا رباه

جلدي يتساقط في الظلام

شعري شاب ، طائر الشباب

يسف في الضباب

منكسر الجناح

النسغ في العروق والاوراق

يجف مثلما يجف الحبر في الدواه

الليل طال ، طالت الحياه

وبردت جدران هذا القلب يا رباه

وتموت من حوله رموز الحياة ، القديمة والجديدة ، لتعبر جميعاً عن عذاب شديد ، واحتضار عنيف قبل بلوغ لحظة الموت :

تفسخ الجديد والقديم

تعفن الماء وجفت هذه الابار

تعرّت الاشجار

ونثر الخريف فوق الغابة الرماد

وها انا احمل في نقالة الموتى ، الى مدينتي ، حجر

أمدُّ كفي مثل شحاذ الى المطر

لعل قطرة تبلّل الزجاج ، تثقب الظلام

ويؤكد صوت الراوي بضمير الغائب ، اثر الموت في الخيام ، ليظهر غيابه :

– تهرّاً الخيام

وسقطت اسنانه ، وجفت العظام

وهجرت يقظته عرائسُ الاحلام

والدود فوق وجهه فار وفي الاقداح

العندليب قال لي ، وقالت الرياح

– الليل طال ، طالت الحياة

فاين يا رباه

شمسك ، تحيي الحجر الرميم

وتشعل الهشيم

يمكن ان يمثل هذا الدعاء بارقة امل اخيرة ، لكن خبرة الخيام في معاناة الموت تمكنه من تسجيل وصف دقيق له تحت رمز (الثعلب العجوز) :

الثعلب العجوز

الملتحي بالورق الاصفر والرموز

المرتدي عباءة الليل ، وفوق رأسه طاقية الاخفاء

يفتض كل ليلة عذراء

يفترس النعاج والاطفال

يرضع ثدي هذه الشمطاء

يغدر بالعشاق

يضحك مزهواً من الاعماق

يرفس في حافره السماء

يلعب بالتيجان

نرداً مع الشيطان

يأخذ شكل هرة سوداء

تموء في الظلماء

يطارد الفراخ والاشباح

يمارس بلا شعوذةٍ ، ويضرب الضحية العمياء

بيده الثلجية الصفراء

وتزداد هذه القدرات شراسة حين يرتقي الموت على ما سواه ، فيصبح كالاله :

يذل من يشاء

يعز من يشاء

الملك الوحيد ، في مملكة الاحياء

الثعلب العجوز

الملتحي بالورق الاصفر والرموز

يغدر بالجلاد والضحية

*      *      *

لقد فرض الموت هيمنته على البياتي ، وعلى رمزه – الخيام – ولايعدل الموت سوى الحياة ، الطرف الثاني في الثنائية ، وقد كان للحياة حضورها الذي يختم النصوص غالباً ليجعلها مفتوحة على امل يغلب الموت ، ويغلّب الحياة ، ذلك بأن البياتي ، كان مؤمناً ، حتى ذلك الحين ، بوجوب انتصار الحياة مهما اوغل الموت فيها ، فهناك (رؤيا ثالثة)([34]) اكبر من ثنائية الموت والحياة ، تبشر بحياة جديدة تولد من الصراع الازلي بينهما :

أرى البذور فتحت عيونها في باطن الارض وشقت دربها

للنور والهواء

– مولاي : هذي زهرة تبكي على عتبة هذي الدار

وهذه اخرى على الجدار

تمد للصغار

خصلتها المعطار

– ثور حراثة يشق الارض في اصرار

– البشر الفانون يولدون

من زبد البحر ومن قرارة الامواج

من وجع الارض ، ومن تكسّر الزجاج

فلتمطري ايتها السحابة

أيّان شئتِ ، فحقول النُور

امرأة تولد من اضلاع نيسابور

هذه الولادة الجديدة هي نتيجة دعوة سابقة اطلقها الخيام بقوة حين جعل : (الموتى لاينامون) ([35])  :

– ايتها الجنية!

تناثري حطام

مع الرؤى والورق الميت والاعوام

وخضبّي بالدم هذا السور

وايقظي النهر الذي في داخلي مات ورشّي النور

في ليل نيسابور

ولتبذري البذور

في هذه الارض التي تنتظر النشور

وهذا ما تؤكده (تسع رباعيات)([36]) المنظومة على طريقة الخيام في رباعياته :

الميت الحي بلا زاد ولا معاد

ينفخ في الرماد

لعل نيسابور

تخلع كالحية ثوب حزنها وتكسر الاصفاد

يمكن ان نلحظ بسهولة ، ان البياتي قد توسع كثيراً في سيرة الخيام رمزاً ، بل انه صاغ للخيام سيرة جديدة لاترتبط مع تلك الواقعية ، الا برباط الفحوى العامة ، التي امدها بنظرته الخاصة لهذا الرمز ، وما اراده منه ليكون الوسيلة التي يثبت بها افكاره ورؤاه عن العصر الحاضر. بحمولات العصور القديمة ، ليظهر بذلك ترابط العصور وامتدادها اذ الفاعل الرئيس ليس الزمان بامتداده اللامتناهي ، انما هو الثوابت التي تتكرر فيه بثنائيات متلازمة تقوم على الصراع وهو ما يتجلى في الرموز المختلفة التي انبثقت من الخيام – الرمز الاصل – وهي تعاني المشكلات نفسها التي اسبغها البياتي على الخيام ، وهذا ما يعني من جهة اخرى ، ان البياتي قد جعل الخيام رمزاً متحركاً لينفك عن حقيقته وليرتبط بحقائق عصر البياتي ومشكلاته ، التي لاتخلو من مؤثرات عقائدية كانت مصدراً رئيساً لرؤى البياتي ، وتفكيره الذي تظهر اثاره في نتاجه ورموزه الاتية :

 

ـ لـوركــا(*) :

يعد لوركا من الرموز التي كثر استعمالها في الشعر الحديث ولاسيما لدى الشعراء ذوي الاتجاهات اليسارية في العالم العربي ، لما يمثله هذا الشاعر القتيل من قدرات تعبيرية حين يصبح رمزاً او ضحية لهمجية قوى الشر في العالم وعنفها الدموي في دحر الثورات والقضاء على رموزها ، وهو ما يحدث أثراً نفسياً ، وشعوراً بهزيمة مأساوية لدى الشاعر العربي الذي كان يتطلع الى مثل تلك الثورات في تلك الحقبة ، فتزداد لديه خيبات الامل ، ويغلبه شعور بالانكسار والحنق (فلقد اثار قتل لوركا موجة من السخط في انحاء العالم ، وذكرى مصرعه ما تزال عالقة في الاذهان في قرن قاسٍ من الجريمة والعنف ، ونمت شهرته سريعاً ، لقد كان مجرد اسم ثم غدا رمزاً)([37]).

 ولم يقتصر توظيف هذا الرمز – لدى البياتي – على لوركا نفسه بل امتد الى بعض اثاره الادبية والمسرحية مثل اغاني الغجر و (عرس الدم)(*) فتأتي مضمنة في النصوص ، فقد يكون مكانه مركزياً في النص ، او يتخفى بين مضامينه احياناً.

يبدو “لوركا” في بعض الاحيان ، رمزاً عقائدياً (ايديولوجياً) اكثر منه رمزاً فنياً ، أي ان الاهتمام به يمكن ان يكون لدوافع : فكرية ، عقائدية ، احتضنتها حقبة زمنية مساعدة ، قبل ان تكون تلك الدوافع فنية خالصة ، وان كان هذا النظر لايقدح بالمستوى الفني الذي يرد فيه الرمز ان جاء هذا المستوى ضمن الشروط الفنية المقبولة ، لذا يمكن تفسير كثرة حضور هذا الرمز في عدة نصوص ، اذ يظهر واضحاً صريحاً ، او مندمجاً في مضمون النص تدل عليه بعض صفاته ، وقادت كثرة التوظيف هذه الى ان يمتد الرمز الى اكبر من حجمه الحقيقي ، وحجم الشخصية التي يمثلها ، وهو امر ان كان يبدو مقبولاً في بعض المواضع ، وعند بعض الرموز ، فانه لايبدو كذلك اذا افتقد العلاقة الاصيلة ، فقد عمد البياتي الى ادخاله في علاقة تماهٍ واندماج مع الشخصية العراقية في بعض رموزها المقدسة لدى الضمير الشعبي – في اقل تقدير – مثل : الحسين والعباس (عليهما السلام) وهو ما سيأتي بيانه في تحليل النصوص. ففي قصيدة (الى أرنست همنغواي)([38]) يظهر لوركا رمزاً للموت ظلماً ويبدو وجود (همنغواي)([39])  في النص شاهداً على بشاعة هذا الموت اذ ينطلق من ثنائية الموت والحياة التي كان الدم رمزها المشترك.

الموت في مدريد

والدم في الوريد

فالموت ، وقد حققته الجملة الاسمية المحذوفة الخبر للدلالة على عمومه ، يقابل رمز الحياة ، وهو الدم الذي ما زال يجري في الوريد ، تعززه جملة مناظرة اخرى :

لوركا صامت

والدم في آنية الورود

فالوريد والورود – بعلاقة الجناس الجزئي – يرمزان للحياة ، والدم رمز ينقض الموت في نهاية المقطع الاول الذي يتجه فيه الخطاب الى (همنغواي) :

انت صامت ، والدم

يخضب السرير والغابات والقمم

لكن الدم يتجه الى الطرف الاخر من قوته الرمزية حين يشير الى انتشار الموت وهيمنته على مفردات الحياة : السرير والغابات والقمم.

يكشف المقطع الثاني المعنون (حافة الموت) عن توقف الحياة المؤقت ، المتأهب في الوقت نفسه ، للانفجار :

النار في الدخان

والخمرة في الجرة والوردة في البستان

والكلمات والعصافير وداء الحب والزمان

صمت البحار أقلق الربان

وما ان تغيَّب سطوة الموت (لوركا) حتى تظهر اثار خلوده مرتبطاً بالوجود الانساني :

وجدته في كتب الرحالة الاسبان

كان يغني تحت رايات شعوب الارض

تحت راية الانسان

لكن المقطع الاخير ، وعنوانه (النهاية) يقدم خاتمة مأساوية تجعل الموت هو المتحكم بمصائر البشر ومنها مصير لوركا :

الموت حتف الانف

لوركا ، قال لي

وقال لي القمر

ضيعتني

ضيعك الوتر

ليفرض الموت وجوده القسري على مكونات الحياة منتهية بالاستسلام لارادة القدر :

رحلت والربيع في طريقنا

وارتحل الغجر

واحترقت خيامهم

واحترق الزهر

اغنية ينزف منها الدم

كانت

قال لي نبوءة القدر

كان يمكن ان يكون التسليم للقدر نهاية هذا النص ، لكن البياتي ينطلق به نحو عوالم اخرى حين يحضر على حين غرة الشيخ محي الدين ، ليقدم حكمة عاجزة لايستطيع ان يصرح بالكلمة الحق ، فيبدلها باسلوب النهي :

قال صديقي الشيخ محي الدين

لاتسأل عن الخبر

فالناس يمضون ولا يأتون

والسر على شفاهنا انتحر

واذا كانت الاندلس رابطاً بين الشخصتين : لوركا والشيخ محي الدين يسوغ اجتماعهما فان الشبه بينهما يبدو بعيداً من نواح اخرى ، التاريخ وسيرة كل منهما ، والميول الفكرية ، ولايبقى سوى الموت قتلاً نهاية يشتركان بها.

يبدأ (الموت في غرناطة)([40]) بلوركا ليصل الى العراقيين ، وبغرناطة ، مدينة لوركا ليتجه الى العراق ، وبعد ذلك كله يتجه من الموضوع الى 
الذات ، كل هذا يجري في تمازج بين هذه الاطراف ، بحضور رمز عراقي “عائشة” وهي في حال الانبعاث من الموت ، لكن هذا الانبعاث يحدث بفضل تضحيات (لوركا) وموته ليكون بديلاً عنها في دخول التابوت ليتبادل النهران مجريهما :

وصاح في غرناطة

معلم الصبيان

لوركا ، يموت ، مات

اعدمه الفاشست في الليل على الفرات

ومزقوا جثته ، وسملوا العينين

لوركا بلا يدين

اصبح لوركا الاسباني بديلاً عن كل قتيل عراقي عذب حتى الموت ، فالتمثيل بالجسد. لكن هذا القتيل المقطوع اليدين وهما رمز القوة ، يمكن ان يوحي بشخصية العباس (عليه السلام) الذي قتل على الفرات مقطوع اليدين ، مفقوء العين ، متعلقاً برموز الحياة ، او ان الحياة قد تعلقت به ، حين تقدم له امل الانبعاث :

يبث نجواه الى العنقاء

والنور والتراب والهواء

وقطرات الماء

فهي عناصر الحياة الاربع التي اقرها قدماء الفلاسفة.

يكشف الخطاب عن عراقيته حين تندمج شخصية لوركا بشخصية الامام الحسين([41]) (عليه السلام)

ارض تدور في الفراغ ودم يراق

ويحي على العراق

تحت سماء صبغه الحمراء

من قبل الف سنة يرتفع البكاء

حزناً على شهيد كربلاء

ولم يزل على الفرات دمه المراق

يصبغ وجه الماء والنخيل في المساء

يكشف اتجاه الرمز (لوركا) الى العراق عن مصدر الموت الذي ينال ابناءه ، فالمصدر هم “الفاشست” انفسهم الذين قتلوا لوركا ، لكن هذا امر فيه مفارقة شديدة ، فالفاشست في اسبانيا هم الملكيون اليمينيون ومن يقف وراءهم من القوى الامبريالية ، اما هنا في العراق فهم فئة يسارية معينة اساءت حكم العراق بعد تموز 1958 وهذا ما يضعف قوة الرمز في دلالته ، ولا سيما اقترانه برموز عراقية اصيلة هي اشد قوة في الدلالة والتأثير ، واختفاء الرمز “لوركا” ليعلو صوت ضمير المتكلم حتى نهاية النص ، ليغادر الموضوع متجهاً الى الذات مع بقاء قوة الربط بين الاثنين قائمة ، بعد ان تحقق وقوع الموت على ضمير المتكلم نفسه :

من قاع نهر الموت ، يا مليكتي اصيح

من ظلمة الضريح

أمد للنهر يدي ، فتمسك السراب

يدي على التراب

يا عالماً يحكمه الذئاب

ليس لنا فيه سوى حق عبور هذه الجسور

نأتي ونمضي حاملين الفقر للقبور

الصرخة الاخيرة صرخة يقين بنزول الموت ، ولا عزاء منه الا انه موت مقدس :

ها انذا اموت

في ظلمة التابوت

يأكل لحمي ثعلب المقابر

قطعتني الخناجر

من بلدٍ لبلدٍ مهاجر

على جناح طائر

– ايتها العذراء

والنور والتراب والهواء

وقطرات الماء

ها أنذا انتهيت

مقدس ، با سمك ، هذا التابوت

تبدأ قصيدة (مراثي لوركا)([42]) بمقدمة فيها منطق مقلوب مهيأ بذلك لما سيأتي بحق لوركا ، او هو تسلية له عما سيناله من قسوة الموت وظلمه :

يبقر بطن الأيّل الخنزير

يموت أنكيدو على السرير

مبتئساً حزين

كما تموت دودة في الطين

ويزداد هذا المنطق قوة بالاستسلام الى حقيقة الموت المقدر :

فهذه الطبيعة الحسناء

قدرت الموت على البشر

واستأثرت بالشعلة الحية في تعاقب الفصول

يقدم المقطع الثاني رؤيا المستقبل ، رؤيا المدينة الفاضلة التي يمكن ان تعيد التوازن الى المعادلة المختلة ، لكنها تظل رؤيا قاصرة اذ تختفي المدينة التي مات من اجلها لوركا الرمز مضحياً ، ويعود الموت ليسيطر عليها :

صحت على ابوابها الالف ولكن النعاس عقد الاجفان

واغرق المدينة المسحورة

بالدم والدخان

تمتزج هذه المدينة المسحورة بالغادة المضواع في المقطع الثالث لكن الموت يظل متربصاً بها ، ويظهر رمز جانبي هو (طيارة من ورق) سيكون له اثر في النص ، بعد ان يجيء الموت الى المدينة :

فمن هناك الاخوة الاعداء

جاؤوا على ظهر خيول الموت

واغرقوا بالدم هذا البيت

فقد وقع الموت بهذه الافعال المتلاحقة ، التي يعززها المقطع الرابع وهو يقدم (الثور الصريع والفارس) في علاقة من التناظر يدعم طرفاها بعضهما:

فمان احمران فاغران

شقائق النعمان

على سفوح جبل الخرافة

دم على صفصافة

تلك هي النتيجة التي آل اليها الصراع : دم معلق بالعبث واللاجدوى : جبل الخرافة والصفصافة وهما من رموز الخواء والعقم ، لكن الدم يذهب باتجاه اخر ، اتجاه من كانت غاية التضحية ، او التي استحقت كل تلك التضحية ، وبذلك تتوارى مفاهيم العبث واللاجدوى لتظهر الغاية النبيلة عبر خطاب لوركا لنفسه ، او لدمه :

– ايتها النافورة الحمراء

اسواق (مدريد) بلا حنّاء

فضُمّخي التي أحبها بهذه الدماء

يقدم المقطع الخامس كشفاً عن دوافع الموت البطولي او التضحية ، بانه الموت الثوري الرافض للاستسلام الذي اقدم عليه لوركا رمزاً :

غسلاً لعار الموت حتف الانف

أغمدُ حد السيف

في قلب هذا الليل

قاتل حتى الموت

من شارع لشارع

تعود (الطيارة الورقية) لتظهر في لحظة الموت لتكون شاهداً على اغتيال البراءة والطفولة :

ادركه الاوغاد

وزرعوا في جسمه الخناجر

وقطعوا الخيط الذي يهتز في السماء

طيارة الطفولة الخضراء

تسقط في خنادق الاعداء

وبذلك تفقد غرناطة رمزها فتكون يتيمة ، او جارية اسيرة ، فتتحد مع عائشة الاسيرة :

غرناطة اليتيمة

يبيعها النخاس

من يشتري عائشة ، من يشتري العنقاء

اميرة من بابل اسيرة

أقراطها من ذهب المدينة المسحورة

من يشتري الاميرة؟

وبهذا يتجه النص الى العراق وواقعه البائس محولاً دلالات الرمز للتعبير عن معاناة مشتركة بين الشاعر ووطنه :

يا ببغاء الملك الأبله ، يا عشيقة السلطان

تسلقي حوائط المتاحف

وضاجعي الزواحف

وقامري برأس هذا الثائر

ها هو ذا محاصر من شارع لشارع

تتبعه الخناجر

وبهذا يكون البياتي قد فتح الطريق للموت ليناله مثلما ينال من لوركا.

*          *          *

يبدو (لوركا) في نصوص اخرى متخفياً اذ لم يذكر اسمه صراحة ، لكن بعض صفاته تدل عليه ، ففي قصيدة (خيط النور)([43]) التي تقدم مثالاً للثوري ، او المخلّص يأخذ لوركا الحيز الاكبر من ملامح البطل ، فالقصيدة تبدأ به من مدريد وتنتهي به اليها.

رأيته يصارع الثيران في مدريد

يغزو قلوب الغيد

يضحك من اعماقه ، منتظراً ، وحيد

– بوابة الابد

مغلقة ، ليس هنا احد

يضحك من اعماقه ، الجسد

يلسعه ثعبان

رأيته يصارع الثيران

مضرجاً بدمه ، يصرعه قرنان

وبين البداية من مدريد والانتهاء اليها تمتد لعبة الصراع ، والدماء ، وتمتزج الحياة (المنتظرة) بالموت الماثل فعلاً ، اذ تظهر النهاية ان بدء الحياة يكون في لحظة الموت نفسها :

مناضلاً يموت في مدريد

مدرجاً بدمه وحيد

تحت قرون الثور او في ساحة الاعدام

الدم في كل مكان ساخناً يسيل

مُروّياً هامة هذا الجبل الثقيل

فساحة الاعدام هي ساحة الولادة ايضاً وبذلك يتحقق الجدل بين الموت والحياة :

رأيته يولد من مدريد

في ساحة الاعدام او في صيحة الوليد

متوجاً بالغار

تحوم حول رأسه فراشة من نار

اما في (السمفونية الغجرية)([44]) تظهر بعض ملامح لوركا في صورة الغجري ، فضلاً عن ان الصورة العامة مستوحاة من اعمال لوركا نفسه ، ولاسيما في (اغاني الغجر) وبذلك يبدو لوركا من وجهين : صفاته واعماله:

مقتولاً تغطي صدره الخناجر – الزنابق – النجوم

كان الغجري شاحباً يطرد في غنائه الاشباح

كانت يده ترسم في الهواء شارة الغريق – العاشق – المخدوع

والعذراء مثل ريشة تطير خلف يده الراجفة الضارعة

لكن الغجري يتجاوز حدود شخصية لوركا في بحثه عن الانثى ، وفي حركته داخل النص ، وما يتبع ذلك من تمدد الدلالة واتساعها ، ليؤول الى النهاية نفسها التي انتهى اليها لوركا :

مقتولاً تغطي صدره الزنابق – الخناجر – النجوم

لتجمع في هذا الرمز دلالات الموت والحياة في آن معاً بدرجات متساوية عبر رموزها : الزنابق النجوم × الخناجر.

جيـفارا(*) :

ظهر جيفارا في زمن اشتد فيه الصراع بين المعسكرين الغربي – الامريكي ، والاشتراكي الشيوعي ، وقد اشتعلت الثورات في مناطق مختلفة من العالم ، وهي تحمل شعارات متقاربة يجمعها (النضال ضد الامبريالية الامريكية) فامتد اثر هذه الثورات الى الشعوب المغلوبة التي رأت فيها تحقيقاً لاحلامها في التحرر من التخلف ، وذلك عندما تلقفها الشباب الصاعد الذي كانت تحركه الافكار والخطط الماركسية ، بمختلف اتجاهاتها.

لقد اصبح جيفارا رمزاً للمناضل الثوري الذي يؤثر حياة الكفاح المسلح على السلطة ومغرياتها حين فارق رفيق نضاله فيدل كاسترو بعد نجاح الثورة الكوبية اوائل الستينيات. وانصرافه لتكوين فصائل مقاتلة في احراش بوليفيا في امريكا الجنوبية ، لكنه لم ينجح بعمله تماماً ، وهزم امام قوة عسكرية تستمد الدعم من اجهزة المخابرات الامريكية تدريباً وقيادة (وقد كسرت هذه الهزيمة الصلابة لدى كثير من الثوريين ، وبعثت من جهة ثانية اسطورة البطل المتجسد في تشي جيفارا)([45]) اذ كان مقتله ايذاناً باختفاء الشخص ، وبزوغ الرمز على غير ارادة منه ، حتى ظهر من يعتقد : (ان جيفارا قتل مرتين : مرة اولى عندما قتل على ايدي العسكريين ، ومرة ثانية بملايين الصور التي علقت بعد موته ، لان لاشيء كان يثير اشمئزازه اكثر من الرمز الذي غداه بعد موته)([46]) لكنه ، وبعد ان فقد الحياة ، لم يكن يستطيع ان يوقف هذا الهياج الذي اصاب الناس حول الاسطورة الجديدة. فقد غمر حضوره الطاغي مجالات الفكر والسياسة والادب والدعاية ، وصار رمزاً للثورة المغدورة ، والتضحية ، رغماً عنه ، وصار بضاعة رائجة يتداولها الكتاب بوعي ، او بنصف وعي ، وربما من دون وعي احياناً.

كان البياتي من هؤلاء ، وقد غمر نفسه وفكره في التنظير للثورة وانتظارها فقد رأى في جيفارا : (الرمز والامل الوحيد الباقي لكادحي ومثقفي [كذا] العالم المضطهدين والمظلومين … واول بطل نموذجي في جيلنا تخطى اسوار الحاضر المتعفن واسوار الامبريالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية)([47]) لكن هذا البطل (سقط في الساحة شهيداً)([48]) لذلك لابد من ان يكون مادة رمزية – اسطورية خصبة ، لما يكتبه البياتي في الثورة والثوار المناضلين ، ولاسيما اولئك الذين يضحون حتى الموت الذي ينقلهم الى عالم آخر ، عالم الرمز او الاسطورة المعاصرة ، بعد ان غادروا عالم الوجود المادي الملموس الذي يحد من امتداد الخيال ، فللموت رهبة لاتملك الحياة مثلها.

تبدأ قصيدة (عن الموت والثورة)([49]) المهداة الى جيفارا باثبات حركتي الموت والحياة في وقت واحد ، ليكون هذا منطلقاً للرؤية العامة للنص :

كان مغنيها على قيثاره مذبوح

تحوم حول وجهه فراشة

مصبوعة بدمه المسفوح

فالفراشة ، وهي رمز للروح احياناً ، قد حملت من دم الضحية علامة الحياة ، لكن الشاعر يسرع بنقل النص من بيئته الاصل الى بيئة جديدة هي العراق ، معبراً عنه بالفرات :

لاتجر يا فرات حتى اكمل النشيد

ليكون هذا مفتاحاً لنقل المعاناة ، وما يتعلق بها من امل بثورة مماثلة لتلك التي قادها جيفارا ، ويستمد هذا الامل من رصيد الانتظار في الديانتين المسيحية والاسلامية :

عدالة المسيح في التاريخ لن تقوم

موعدها القيامة

ايتها العلامة

ياقدر التاريخ والمصير للوجود

الموت في الزمان

في داخل الانسان

يأتي لبعث الجنة المفقودة

في هذه الحياة

لاتجر يا فرات حتى اكمل النشيد

فضلاً عن ذلك – تزدحم رموز تاريخية تحاول التعبير عن حال العراق : الاغريق ، التتار ، الاخوة الاعداء , وذلك سعياً الى الثورة ، التي تكرر ورودها بالاسم الصريح مرات في النص : عدالة الثورة والمسيح ، نجم الثورة البعيد ، علامة الثورة .. وهذا ما جعل اجتماع هذه الرموز المتباعدة في دلالاتها ، وربما المتقاطعة احياناً ، كالمسيح والثورة ، غير مسوغ بدرجة فنية ، ولايمكن ان يفسر الا بالاندفاع وراء اغراء الرمز الاول – جيفارا – والاعجاب الذي يتجاوز حقيقة الانسان الواقعي ، مرتفعاً به بعيداً ليقارب المسيح ، هذا فضلاً عن الافعال العظيمة التي اسندها للثورة ورمزها :

علامة الثورة فوق السم والشرور

فهي عبور من خلال الموت

وصيحة عبر جدار الصوت

خطيئة لابد ان تغفر ، ان تعَّمد الدماء

مسارها المحتوم

تناطح المجهول والمعلوم

وانكسرت صخرة هذا الجبل المشؤوم

وهي حركة افعال اكبر كثيراً مما حدث في واقع الامر من حركة جيفارا التي هي حركة مسلحة قصيرة العمر سرعان ما قضي عليها ، لذلك يبدو الرمز اكبر من حجمه ، والتوسع في توظيفه كثيراً غير مسوغ الا من باب الاعجاب الشديد ، او التبعية الفكرية ، وهو ما يكشف عنه نص آخر([50]) –  مع فارق زمني – مهدى الى جيفارا ايضاً ، لكنه يتحدث بلهجة خافتة ، بعد ان هدأت فورة الاعجاب ، واتاح كر السنين ، تأمل الذكرى بنظر عقلي ، فتختفي افعال الثورة الهائجة ، ويحل محلها خطاب هاديء فيه رنة يأسٍ أيقن بحلول الموت ، وبرود الثورات التي غمرها الثلج :

في زمن المنشورات السرية

في مدن الثورات المغدورة

(جيفارا) العاشق في صفحات الكتب المشبوهة

يثوي مغموراً بالثلج وبالازهار الورقيه

قالت وارتشفت فنجان القهوة في نهم

سقط الفنجان لقاع البئر المهجور

     اختفى الخطاب الثوري العنيف ، وجاء الخطاب اليائس ، فالثائر مهزوم حوصرت حياته بين ملهى ومخفر بوليس ، والثورة تحولت الى بغي تنقاذفها اذرع الرجال :

رأيتكِ في روما في زمن المنشورات السرية

بين ذراعي رجل آخر تمضين الليل

بكيت ، رأني البوليس وحيداً

خلف نوافذ ملهى القط الاسود أبكي مخموراً

وورائي خيط من نور يمتد لنافذة اخرى

اشبعني الضابط ضرباً

وجدوا في جيبي صورتها

بلباس البحر الازرق

ترنو للافق المغسول بنور الغسق الكابي

فقد تحول الثوري الى عاشق مطارد ، يبكي مخموراً بحبها ، ويختفي اسم جيفارا ولا يبقى سوى ضمير المتكلم الذي ينازعه عليه الشاعر نفسه ، لينتهي النص ، بسقوط الثورة في لجة التزييف ورقابة البوليس ، وينتهي العاشق مجنوناً ، وان احتمل الجنون معنى العشق حد الوله :

رأيتك في مبغى هذا العالم

في احضان رجال ونساء تمضين الليل

بكيت ، رأني البوليس وحيداً

في مدن الثورات المغدورة

مجنوناً أتحدث عنكِ

البوليس رأني

الحـلاج(*) :

اشتهر الحلاج بقول كلمة الحق ، بحسب رأيه ، فدفع حياته ثمناً ، وقد عرف رمزاً بهذه الصفة حتى كثر استعماله في الشعر العربي الحديث كثرة بالغة ، وقد خصه البياتي بعدة نصوص اشهرها (عذاب الحلاج)([51]) وفيه عرض لمعاناة الحلاج من جور السلاطين في زمانه ، وهذا ما يؤكده العنوان ، فالنص يهتم بعرض انواع العذاب التي جرت على الرجل من اهل الدين والدنيا على السواء حين ابصر نار الحق من بين ازدحام رموز الشر : السلطان واتباعه ، وشهود الزور ، وقضاة الباطل.

يتحدث (المريد) في المقطع الاول الى الحلاج ليكشف عما اصاب نفسه من سوءٍ لتقربه الى السلاطين :

سقطت في العتمة والفراغ

تلطخت روحك بالاصباغ

شربت من آبارهم

أصابك الدوار

تلوثت يداك بالحبر وبالغبار

وذلك سعياً الى التخلص من هذه الاثار ، وهو أمل لاسبيل الى بلوغه ، ولا يبقي سوى الحسرة :

من أين لي ونارهم في أبد الصحراء

تراقصت وانطفأت

وها انا اراك في ضراعة البكاء

في هيكل النور غريقاً صامتاً تكلم المساء

  كان انطفاء النار اثراً من اثار اللقاء بالسلطان ، وهو ما يكرره المقطع الثاني الذي يبدأ من الليل ، وانطفاء المصباح ، وهو تكرار لانطفاء النار الذي يُعقب الظلمة :

ما اوحش الليل اذا ما انطفأ المصباح

ليكون هذا مقدمة لنتائج اخرى :

وأكلت خبز الجياع الكادحين زمر الذئاب

وصائدو الذباب

وخربت حديقة الصباح

السحب السوداء والامطار والرياح

هؤلاء هم بعض تابعي السلطان ، وهم بعض وجوه معاناة الحلاج ، ومصادر عذابه والجمع يكمل مكونات البيئة التي يعيش فيها الحلاج ، وما فيها من علاقات ظالمة.

يعرض المقطع الثالث بعض شخصيات تلك البيئة التي تنسجم معها ، وفيها (مهرج السلطان) وهو رمز التبعية والنفاق ، لكنه يحمل وجهاً ايجابياً هو حبه لابنة السلطان وهي رمز للامل ، وموته بعد موتها :

كان يحب ابنة السلطان

يحيا على ضفاف نهر صوتها

وصمتها

لكنها ماتت كما الفراشة البيضاء في الحقول

تموت في الافول

فجُنَّ بعد موتها

ولاذ بالصمت وما سبّح الا باسمها

وبذلك يحمل المهرج صفتين مختلفتين تظهران انطواء هذه الشخصية على امكان فعل الخير ، وان اظهر – مضطراً – افعال تخالف ذلك ، في حين كانت شخصية السلطان رمزاً للقوة المستبدة ، يعينه جمع من التابعين : قضاة مزيفون ، شهود زور .. وبذلك امكن احداث التصادم بين نمطي الشخصيتين : السلطان والحلاج ، واداة الحلاج هي الكلمة الحق :

بحت بكلمتين للسلطان

قلت له جبان

 اما اداة السلطان فهي السيف والسياف ، لكن كلمة الحلاج تعني الثورة التي تحدث فيه التحول المطلوب ، فهو يتحد مع الله ، ويتحدث باسم (الفقراء) لكن الفقراء يختفون ، ليظل الحلاج وحيداً في وليمة الشيطان :

ونمت ليلتين

حلمتُ فيهما بأني لم اعد لفظين

توحدت

تعانقت

وباركت – انت أنا

تعاستي

ووحشتي

وضج في خرائب المدينة

الفقراء اخوتي

يبكون ، فاستيقظت مذعوراً على وقع خطا الزمان

ولم أجد الا شهود الزور والسلطان

حولي يحومون ، وحولي يرقصون : انها وليمة الشيطان

بين الذئاب ، ها أنا عريان

حين يتحدث الحلاج باسم (الفقراء) يكون قد حدد الطرف الاخر في الصراع الذي ينبغي ان يكون – قياسا على مبدأ المخالفة – الاغنياء ، لكن البياتي جعل هذا الطرف ، السلطان رمزاً للسلطة الزمانية المستبدة ، اذ ان مغزى (الفقراء) ينحرف عن دلالته المطابقة الى منحى جديد ، يعضده لفظ (المجاعة) في المعنى نفسه :

في سنوات العقم والمجاعة

باركني

عانقني

كلمني

ومدّ لي ذراعه

وقال لي :

الفقراء ألبسوك تاجهم

يسرد الحلاج واقعة صلبه في المقطع الخامس بافعال موجزة لكنها مؤثرة في حركة السياق :

واندفع القضاة والشهود والسياف

فاحرقوا لساني

ونهبوا بستاني

وبصقوا في البئر

ليعود رمز النار الى الظهور ثانية ، وهو وسيلة الاهتداء والوصول ، لكن النار تتحول الى رماد ، وبذلك يبطل فعلها :

من أين لي ان اعبر الضفاف

والنار اصبحت رماداً هامداً

من اين لي يا مغلق الابواب

والعقم واليباب

ويعيد المقطع الاخير واقعة الصلب مكرراً الافعال نفسها – تقريبا – لغرض تعميق الاحساس بالعذاب ، وبشدة الاستبداد وقوته في انزال العقاب بناطق كلمة الحق ، ليعمق درجة المفارقة بين الانموذجين ، وليمهد لما بعد الواقعة :

اوصال جسمي قطعوها

احرقوها

نثروا رمادها في الريح

دفاتري

تناهبوا اوراقها

واخمدوا اشواقها

ومرّغوا الحروف بالاوحال

لكن هذا التأكيد بالتكرار لتعميق الاحساس بعنف الموت ، والاقرار بوقوعه هو تمهيد لاظهار قوة الحياة التي ينتجها ، يعضدها تكرار بعض الرموز المصاحبة :

اوصال جسمي اصبحت سماد

في غابة الرماد

ستكبر الغابة ، يا معانقي

وعاشقي

ستكبر الاشجار

سنلتقي بعد غدٍ في هيكل الانوار

فالزيت في المصباح لن يجف ، والموعد لن يفوت

والجرح لن يبرأ ، والبذرة لن تموت

تلك هي الخاتمة ، وهي الغاية ، (البذرة لن تموت) بل ستنجب حياة جديدة تحيي غابة الرماد اشجار باسقة ، وذلك امل مفرط حقاً سنجد أنه بدأ بالتلاشي والاختفاء في نص آخر – يفصله فارق زمني – تكفل بسيطرة اليقين على الاحلام.

يعتمد نص (القربان)([52]) المهدى الى الشاعر التشيلي القتيل بابلو نيرودا(*) ثنائية السلطة والثورة عليها ، لذا يركز النص على الجانب الثوري من شخصية الحلاج ، فيعرضه بصورة رجل رأى الحق بعينيه فنطق به لسانه ، فعوقب بالموت صلباً ، لكن الفارق الرئيس هو تراجع خطاب الامل ، وقوة الايمان بالحياة وانكماشهما ، حين يغلب اليأس على الحلاج من ثورته ، فلا يعيد لها ذكراً ، ويقر ، مقابل ذلك ، بهيمنة الشر :

الحلاج كان بقميص الدم مشبوحاً على القاموس

في عيونه : مدينة اصابها الطاعون

ويظهر وجه اخر للحلاج ، وهو يمتزج بشخصية الشاعر نيرودا ، فيقاسمه المعاناة نفسها ، بمفردات العصر الجديد.

رأيت نيرودا مع الهنود في مذابح الانديز

مطارح القارة حيث الجوع والانجيل والمنشور في

الشوارع العارية – المسالخ – السجون

حيث المدفع – الدبابة – البيان في الاذاعة – الجريدة الصفراء

يُنهي دورة الفصول

يلوي عنق الوردة

يحاول النص ان يعطي زخماً اكبر لرمزيه الاصلين فيحشد لذلك رموزاً اخرى متباعدة في الزمان والمكان والسمات ، وان التقت حول قضية واحدة ، ومنها قائد الزنج ، وهو محل خلاف :

الحلاج كان بقميص الدم مصلوباً

وكان قائد (الزنج) على الفرات ينهي لعبة الخليفة

الأبله ، لكن ملوك المال والبترول في (الانديز)

حيث الجوع والانجيل والمنشور

كانوا يقتلون باسم عجل الذهب – الطغاة في كل العصور

حامل القربان القى وردة في النهر

تزداد قوة إتحاد الرمزين الحلاج- نيرودا بجامع الوقوف مع الفقراء ضد مستغليهم ، وبجامع الثورة ، والدم ، رمز الموت والتضحية :

الحلاج قال ساخراً للقاتل المأجور : هل سترفع السوط

بوجه الكلمات – الجبل – القاموس؟ مولاتي ستبكي

عندما يهزمني الخليفة الأبله

في هذا السباق القذر المجنون في دائرة الضوء

رأيت الشمس في عيونه يصطادها العبيد والمؤرخون

خدم الملوك في مزابل الشرق

رأيت الدم في شوارع القارة مكتوباً به الانجيل والمنشور

مطبوعاً به جبين (نيرودا)

على طوابع البريد والأبواب

كان الفقراء يذرفون الدمع في شوارع المدينة العارية

لكن رمز الحلاج يتضاءل ازاء الامتداد الاوسع لنيرودا ، وتبقى بعض لوازمه حتى نهاية النص :

كان الجنرال – القاتل المأجور

وهو خائف ، يذيع من دبابة بيانه الاول

ركعتان في العشق

تعالى

حامل القربان القى وردة في النهر

قال اشتعلي ايتها الانهار في القارة باسم الفقراء

حامل القربان قال اشتعلي ايتها القارات

وقد تبدو العلاقة بين الرمزين مسوغة في بعض نقاط الالتقاء : الثورة ، مناصرة الفقراء ، الدم ، الموت قتلاً ، الظلم القديم والحديث ، لكن شقة الخلاف بينهما تبدو كبيرة ايضاً ، التاريخ ، البيئة ، الفكر ، الغاية وسواها من نقاط أخرى قد لا يمكن اذابتها بسهولة ليكون النص مقنعاً من ناحيته الفنية ، بعد ان ارتكز على النواحي الخارجية ، الفكرية او الايديولوجية خاصة ، حيث الاعتقاد بنظرة مسبقة تقود الرموز وتتحكم بها ، ودليل ذلك اننا نجد البياتي قد تخلى عن كثير من هذه الاتجاهات في نص اخر هو (قراءة في كتاب الطواسين للحلاج)([53]) حين تغدو الحياة التي تخيلها البياتي في قناع الحلاج محل شك كبير ، بل يغلبها اليأس ، ويتحول الوجود الى عذاب ونفى :

لماذا يا أبتي لم ترفع يدك السمحاء بوجه

الشر القادم من كل الابواب؟ لماذا تنفى الكلمات؟ يصير الحب

عذاباً؟ والصمت عذاباً؟ في هذا المنفى؟ وتصير الكلمات طوق نجاة

للغرقى في هذا اليم المسكون لفوضى الاشياء؟

لكن طوق النجاة هذا لايكاد ينجي أحداً ، فقد غمر الليل هذا الوجود وصار الامل محل شك كبير حين يعرضه السؤال القلق في ضمير النص :

كل الفقراء اجتمعوا حول الحلاج وحول النار

في هذا الليل المسكون بحمى شيء ما ، قد يأتي او لايأتي

من خلف الاسوار

لقد عاد لهذا الرمز (الحلاج) توازنه ، بعد ان كان البياتي قد اسرف في اغراقه بالامل ، او الرجاء الكاذب ، فليس في مقدور هذا الرمز ان يكون كذلك ، وقد ظهر فيه الجانب الاخر ، جانب العجز والتسليم بفقد القدرة على احداث الثورة والتغيير ، ولايعني هذا ان الرمز قد اصبح مسوغاً هنا ، فهو مسرف ايضاً في باب الشك واليأس ، وتبدو علاقة الحلاج ضعيفة بهذا التذبذب الكبير ، لان الامر راجع الى البياتي نفسه ، فهو الذي اجرى على الشخصية هذا الذي جرى ، فلا يبدو الرمز في حقبتي  البياتي سواء،فهو في الاولى شيء وفي الثانبة شيء اخر, وهذا يدل على ان الرمز لاينمو ولا يصاحب الشاعر في مراحل اخرى بل كان في استعماله مؤقتا , او لنقل موقعيا , ليقضي حاجة السياق وينتهي , واذا استمر هذا في الرموز الاخرى سيكون لنا القول  :ان الرمز عنده لاينمو ولا يتحول, بل هو في كل نص له شان .  وليس الامر كذلك في العمل مع الرمز والترميز.

ديـك الجـن* :

يوقع الحبيب العاشق الموت على الحبيبة المعشوقة على وفق الحكاية المعروفة التي يوظفها البياتي في قصيدة (ديك الجن)([54]) فيعمد الى ادخال تغيير على النسق الاصل ، بادخال نسق جديد ، يغير به الاسباب ، او الدوافع التي اوصلت الى القتل لتكون بفعل عوامل موضوعية هي حصيلة ظروف اجتماعية وسياسية معاصرة ، تدفع بديك الجن الى القتل ، ليرتقي به البياتي الى رمز معبر ، مثلما ارتقى بالحبيبة القتيلة الى رمز حين جعلها “جنية” ، وتضاف الى شخصية ديك الجن ابعاد جديدة لم تكن موجودة في الاصل :

– رأيت ديك الجن في القاع بلا اجفان

على جواد عصره المهزوم

يقاتل الاقزام

مهاجراً في داخل المدينة

من شارع لبيت

على جواد الموت

وتزداد مأساة ديك الجن عمقاً حين تتألب عليه رموز عصره مع رموز العصر الحاضر. ليحمل الهمين معاً :

– رأيت ديك الجن من فردوسه مطرود

يصطاد في قفار ليل موته الاسود

والكلمات السود

ملطخاً بالحبر والغبار

وعرق الاسفار

وصاحب الخليفة

يلتقي ديك الجن – بصورة مفاجئة – بشخصية معاصرة هي (لوركا) عبر الاشارة الى مدريد ، لكنها اشارة فيها سخرية يائسة :

– كنت على ظهر جوادي الاخضر الخشب

اقاتل الاقزام في (مدريد)

ليكون هذا مقدمة تنذر بلا جدوى الذي اقدم عليه ديك الجن وهو (القتل) برغم قوة الافعال التي ينطق بها ، اذ ينتهي الامر الى هيمنة الموت في نهاية المشهد العنيف :

– انا امير الليل

قتلتها – مزقتها بالسيف

تحت سماء الصيف

مرنحاً سكران

أشعلتُ في اشلائها النيران

صنعت من رمادها فراشة ودمية

وقدحاً مسحور

لاأرتوي منه ، فيا خمار حان النور

ماذا لنار بعثها أقول؟

فهذه الطبيعة الحسناء

قدرت الموت على البشر

واستأثرت بالشعلة الحية في تعاقب الفصول

هذا هو مشهد القتل ، اما الدافع فهو شدة الحب في عصر لايبيح الحب ، اما طرفا الحب فهما جنية وانسان ، وهذا ما يجعل اجتماعهما مستحيلاً ، غير ان الجنية رمز يبدو واضحا في دلالته ، ولذلك يكون القتل مأساة تشبه الانتحار :

– ايتها العدالة الميتة الوهمية

يا ايها القضاة

تلك هي القضية

وقعت في حبائل الجنية

حمامة كانت على الخليج

تنوح في الشرك

لؤلؤة غواصها هلك

صفراً من الذهب

يدور حول نفسه في العدم الرهيب

هذا ما انتهى اليه الحال في الزمن الحاضر ، وفي الحياة الدنيا ، ولاسبيل الى التغلب عليه ، فكان التعويض بزمن مستقبل ، في عالم آخر :

– غداً امام الله في الجحيم

احطم الدمية والقدح

اتبعها عبر الممرات الى الفرات

ابحث في مياهه عن خاتم ضاع وحب مات

انام في الضفاف

صفصافة تنتظر العراف

والبرق والعصفور

وراقصات النور

ولكن جاء هذا التعويض ناقصاً ايضاً ، فهو ينتهي الى الجحيم ، والى الانتظار الذي قد يجدي او لايجدي ، وبذلك يكون اليأس قد هيمن على هذه النهاية التي انتهى اليها ديك الجن رمزاً ، والبياتي شاعراً في نصه الذي توسع بهذا الرمز حين اجرى عليه تحويراً في الدوافع والغايات ، وتغيير ملامح الشخصيات وافعالها فالحبيبة تحولت الى جنية ، والعاشق الى رجل معاصر يحمل هموم العصر الذي يعيش فيه البياتي ، وليس ديك الجن ،  كان هذا من منافع الترميز الذي يريد الكشف عن عورات الحاضر بخطاب الماضي وادواته.

وضـاح اليمـن(*) :

يبدأ وضاح اليمن – الرمز – رحلته الى الموت([55])، متوجاً بالموت مع جملة من التحولات تطرأ على شخصيته بفضل السحر والساحر:

يصعد من مدائن  السحر ومن كهوفها وضاح

متوجاً بقمر الموت ونار نيزك يسقط في الصحراء

تحمله الى الشام عندليباً برتقالياً مع القوافل  السعلاة

وريشة حمراء

ينفخها الساحر في الهواء

يكتب فيها رقية لسيدات مدن الرياح

وكلمات الحجر الساقط في الابار

ورقصات النار

لقد اصبح وضاح  مسحوراً يستطيع ان يحدث تحولات مماثلة بالشعر والسحر معاً ليمتد الاثنان ، لكن الشعر يؤدي الى الحب ، وليس السحر كذلك :

فتسحيل تارة قصيدة

وتارة لؤلؤة عذراء

تسقط عند قدمي وضاح

يحملها الى السرير امرأة تضج بالاهواء

تمارس الحب مع الليل وضوء القمر المجنون

يعجز الحب عن تقديم الخلاص ، وبذلك يعجز الشعر والسحر من ورائه ، ايضاً  :

لم اجد الخلاص في الحب ولكني وجدت الله

هذه النتيجة التي بلغها وضاح حصلت في الحياة الاخرى ، أي بعد الموت ، لذلك يعود الى سرد قصة حبه  من جديد بضمير الغائب في مقطع غنائي مبتهج :

قبلت مولاتي على سجادة النور وغنيت لها موال

وهبتها شمس بخارى وحقول القمح في العراق

وقمر الاطلس والربيع في ارواد

منحتها عرش سليمان ونار الليل في الصحراء

وذهب الامواج في البحار

طبعت فوق فمها حبي لكل ساحرات العالم النساء

وقبل العشاق

بذرت في احشائها طفلاً من الشعب ومن سلالة العنقاء

اتخذ الحب بعداً جديداً ، بعد ان ارتقى بالمرأة ، والفعل “بذرت” الذي يحمل قوة الحياة ، سيكون مقدمة للموت ايضاً ، اذ تطل الاشباح في المقطع الرابع لتنذر بالموت القادم :

من اين هذه الاشباح؟

وانت في سريرها تنام يا وضاح

لعلها نوافذ القصر. لعل حرس الاسوار

لم يغلقوا الابواب

ولا تلبث هذه الهواجس ان تقود الى رؤيا واضحة يتجلى فيها الموت :

رأيت في نومي على نهديك نهر موت

يشق مجراه بلحم الصمت

وكلب صيد ينهش النهدين

وطائر السمان

يبدأ في رحيله عبر مدار غربة الانسان في العالم والاشياء

ووجه عبدٍ من عبيد القصر

يطل من عيني ومن مرآة هذا الفجر

مقبلاً نهديك في نومي رأيت العبد

ممدداً عارياً فوق سرير الورد

مبتسماً للغد

من أين جاءت هذه الاشباح

وانت في سريرها تنام يا وضاح

يتحقق الموت فعلاً بدخول (الخليفة) عنصراً مهماً في الحكاية ، بأدوات الموت معه :

لعله الخليفة

اطلق في اعقابه العبد وكلب الصيد والكابوس

يستدعي الخليفة رمزاً اخر هو (عطيل) بجامع الغيرة القاتلة ، اذ يقلب النسق الحكائي لعطيل وديدمونة افعالاً ونتائج ليمثل وجوداً ازلياً في التكوين البشري :

عطيل كان كائناً موجود

تنهشه عقارب الغيرة يا وضاح

من قبل ان يولد في الكتب

عطيل كان قاتلاً سفاح

لكن ديدمونة

في هذه المرة لن تموت

انت اذن تموت!

انت اذن تموت!

عطيل هو الخليفة نفسه ، والخليفة لايموت ، انما يموت العاشق ، وكذا المرأة لاتموت ، فانفرد وضاح بالموت وحده ، برغم الفضيحة :

عطيل في عمامة الخليفة

يواجه الجمهور

بسيفه المكسور

يستعيد وضاح حكاية موته بعد ان تحقق من وجوده في عداد الاموات ، وبعد ان لاقى الله :

مت على سجادة العشق ولم أمت بالسيف

مت بصندوق والقيت ببئر الليل

مختنقاً مات معي السر ومولاتي على سريرها

تداعب الهرة في براءة تطرز الاقمار

في بردة الظلام

تروي الى الخليفة

حكاية عن مدن السحر وعن كنوزها الدفينة

ويدرك الصباح ديدمونة

يتداخل هذا الختام مع حكايات الف ليلة ، لكن التغيير في اسم الراوية كان ذا مغزى ، اذ بقيت ديدمونة على قيد الحياة ، وقتل وضاح ، خلافاً لحكم المنطق ، لذا يكون هذا التغيير مقصوداً ، لكنه من الجانب الاخر ، كان قد ارتقى بالمرأة الى مصاف الحلم والمثال ثم عاد فانحط بها.

اما وضاح فلم يغادر صفته الرئيسة وهي انه كان عاشقاً وان اتخذ هذا العشق منحى رمزياً ، وبرغم الدخول في انساق جديدة لحكايات مقاربة ، لم يستطع وضاح ان يتخلص من هذه الصفة القريبة من مسارها التاريخي ، لتكون الدلالة الرمزية واضحة  ، برغم الجهد الكبير في بناء القصيدة حجماً وحركة.

المتنبي :

مات المتنبي قتلاً ، لكن قصيدة (موت المتنبي)([56]) لاتشير الى هذا ، فليس هذا الامر من شأن البياتي الذي يرصد موتاً اخر ، فاجعاً ، هو موت الفنان([57]) الذي يمثله المتنبي ، في عصر سيءّ دنيء ، يكون الفنان الاصيل فيه الشاهد والضحية ، وقد كان المتنبي كذلك – في هذا النص – شاهداً على سوء عصره وخطاياه ، وضحية كبرى من ضحاياه ، لذا يكثر من عرض سيئات العصر وانحطاط الناس فيه ، ليبين اسباب الموت ودوافعه :

لتحترق نوافذ المدينة

ولتأكل الضباع هذي الجيف اللعينة

ولتحكم الضفادع العمياء

وليسد العبيد والاماء

وماسحو احذية الخليفة السكران

والعور والخصيان

وقبل ان يعلن النص موت المتنبي ، يقدم معادلاً له في الحال نفسه :

الرخ مات

بيضته تعفنت في طبق الخليفة

الرخ صار جيفة

في طبق من ذهب

     ومن مفارقات النص ان الذي يعلن موت المتنبي – المعنوي – فيه هم اعداء المتنبي نفسه ، مفاخرين بذلك ، ليظهر بهذا مدى انحطاطهم بمقابل رفعة المتنبي :

انا شججت جهة الشاعر بالدواه

بصقت في عيونه

سرقت منها النور والحياه

اغمدت في اشعاره سيفي

وافسدت مريديه ، وضللت به الرواه

جعلته سخرية البلاط والفرسان والاشباه

وبعد هذا يظهر المتنبي حزيناً ، منزوياً ، يكابد موت روح الفنان في مظهرها الخارجي :

الشاعر الغارق في الاحزان والاغلال

يعود من غربته ممزقاً جريح

ماذا تقول الريح

للشاعر الشريد

في وطن العبيد

يعيد النص الحياة الخالدة للمتنبي ليعبر حدود الزمان من بعد الف سنة وليعيد الحياة للمدن التي سلبته الحياة :

حصانه يصهل في المساء

على تخوم المدن الغبراء

يرد نبع الماء

حصانه عبر المراعي الخضر والتلال

يوقظ في حافره النجوم والاطفال

يوقظ ذالكرة السنين

اللهب الاسود والحب الذي يموت في ظل السيوف

وبهذا يكون النص قد نجح في اقامة توازن ، او تعويض ، اعاد فيه الحياة الى الرمز الذي ضن عليه عصره بها ، لكن ذلك جرى بطريقة خطابية تتجاوز حدود الواقع والامكان لترسم صورة بطولية هي من نسج الامنيات التي قد لايتاح لها التحقق على صعيد الواقع العملي ، فهي تنتمي الى حقبة كان فيها ايمان البياتي بالحياة طاغياً حتى جعلها تنتصر على الموت ، وليس الامر كذلك قطعاً ، فمازال العصر ، حتى عصر البياتي في نصه هذا –يفعل بما فعله بالمتنبي وامثاله – ان كان له مثيل – اذ يبدو ان رغبة البياتي الكبيرة في تجاوز سوء عصره هي الدافع لذلك – لكن العصر ظل يزداد سوءاً ولاتجدي معه رفعة المتنبي وانفته ، اذ يظهر في الكوفة([58]) وهي في ايدي اللصوص ، وهو يدرج في ليل ازقتها طفلاً لايقدر على شيء ليغير ما يجري:

سمى النعمان

ظاهرها : خد العذراء

وانا والمتنبي سمينا باطنها : كوفان الحمراء

جوهرة شقت

في جدث التاريخ الدامي

واشتعلت حسناً وبهاء

كان المتنبي في ليل ازقتها طفلاً

لما افترست الغيلان

نهابون / ولاة / صم / بكم عميان

هبطوا من برج الثور خفافاً

اعصاراً دموياً

طوفان رمال

يتضاءل وجود المتنبي في مدينته ، ويتضاءل ، تبعاً لذلك ، اثره وقوة فعله المغيّر ، او يختفي ذلك الاثر تقريباً ، لكن المتنبي الطفل يكبر قليلاً في (حرائق المتنبي)([59]) ليبدأ بنظم قصيدته الاولى التي سيكون لها اثر واضح في بدء نسق جديد من الوجود ينقض ما سبقه :

لمّا ضُربت في الكوفة اعناق الثوار

وتناهبها السفاحون / ولاة الامصار

بدأ المتنبي في نظم قصيدته الاولى

بدأت احجار الهرم الاكبر تنهار

دخل العالم في المابين :

شعوب ولدت فوق ظهور الخيل

واخرى طلعت من بين شقوق الارض

واخرى نهضت من تحت الانقاض

سقطت فوق عمود الشعر الامطار

اشعل سيف الدولة اخر قنديل في الدار

ان هذه الافعال العظيمة ، والاثار الكبيرة التي تركها المتنبي في اجزاء النص ودلالاتها لاتنبع من صفته التي بدأ بها فتى قادراً على التغيير حسب ، بل تستند الى صفة اخرى لها دلالتها المهمة ايضاً وهي الانتماء الى الفقراء ، ليكونوا مصدر التأثير والتغيير في الموت والحياة على السواء  :

لكن المتنبي نجل السقّاء الكوفي

حفيد امام الفقراء

ظل يواصل اشعال النار

في جثث الموتى وقبور الاحياء

ابو العلاء المعري :

امتحن ابو العلاء بالعمى صغيرا فاثر فيه كبيرا,وبدا على شعره وفكره , لكن قصيدة (محنة ابي العلاء)([60]) لاتدور حول محنة عماه ,بل دارت حول محنة اخرى هي مقارعة رموز عصره , اما عماه فينزوي ليلبي حاجات للنص مثل استحضار العصر الماضي ورموزه .

يقدم المقطع الاول منذ عنوانه (فارس النحاس) رموز العصر التي تجتمع حول دلالة الموت المعنوي :

هذا بلا امس وهذا غده قيثارة خرساء

داعبتها ، فانقطعت اوتارها ولاذ بالصهباء

وذا بلا وجه ، بلا مدينة ، وذا بلا قناع

اشعل في الهشيم ناراً وانتهى الصراع

وذا بلا شراع

ابحر حول بيته وعاد

حياته رماد

وليله سهاد

ياموت! يا نعاس!

لوركا ونور العالم الابيض في الاكفان

فقد ازدحمت نماذج تمثل الموت ، أي الانقطاع عن ممارسة الحياة المبتغاة ، اذ ظهرت ملامح سندباد العاجز ، وظهر لوركا رمز الموت المتكرر ، وصولاً الى الرمز الاسطوري الذي يمثل الموت :

وفارس النحاس

في ساحة المدينة

تجلده الرياح

تنوشه الرماح

يجمع المقطع الثاني (العباءة والخنجر) التفيضين ، ويرقب ما ينتج عن اجتماعهما ، وذلك هو اجتماع الشاعر – الصوت النقي – بالامير رمز الاستبداد والدنس :

شربت من خمر الامير ، ورأيت في نهار ليله النجوم

اكلت من طعامه المسموم

اصبت بالتخمة والحمى وبالضجر

اصبحت في بلاطه حجر

ليلاً بلا سحر

قيثارة مقطوعة الوتر

عباءة بالية ، مسمار

صفراً يدور في الفراغ ، الة تدار

وهذا يشبه ما حصل للحلاج في نص سابق حيث العلاقة الازلية : الاستبداد يلغي الاخر ، ويطوعه لمصلحته.

يقدم المقطع الثالث رمزاً اخر من رموز الموت هو (المغني) في علاقة مختلة بالامير ، فيكون مصيره الموت اذ تنبأ بمستقبل الامير ، ويقدم الموت بصورة ايحائية مستخلصة من مجموع الافعال الدالة عليه :

فانتفض الامير ثم ضحكا

وقال للجلاد شيئاً وبكى

فاصطفقت واغلقت ابواب

وانقلبت انية الطعام والشراب

وسكت القيثار

وانطفأ القنديل ثم اسدل الستار

والنموذج الاخر للموت يقدمه المقطع الرابع ، حيث الضحية هو (الشاعر) في علاقته المختلة بالامير ايضاً ، وحيث الحاشية المنافقة التي يزدحم بها مجلس الامير الذي يذكر بذلك المجلس الذي اردى المتنبي في نص سابق :

مجلسه كان يعج بدواب الارض والهوام

من كل صعلوك شويعر ، دعي ، داعر نمام

كان – اذا ما انشدوا اشعارهم – ينام

مفلطحاً ومتخماً

وكلما

انشد منهم احد تململا

وقال لا!

– مولاي ، هل يخفى القمر؟

ويغضب الامير

ويصفع الشاعر ، فالقمر

يغيب كل ليلة في صفحة الغدير

يبقى ابو العلاء وحده ، متميزاً من كل هذا الزحام حين يتجه اليه الخطاب فجأة هاجياً ذلك العصر ورموزه :

كان زماناً داعراً ، يا سيدي كان بلا ضفاف

الشعراء غرقوا فيه وما كانوا سوى خراف

وكنت انت بينهم عراف

وكنت في مأدبة اللئام

شاهد عصر ساده الظلام

يطول النص ، لاهتمامه بهجاء العصر ورموزه ، وهي رموز تتكرر : كالضفادع والامير ، والحاشية المنافقة ، وقد اصبحت هذه من الثوابت التي يكرر البياتي ذكرها في النصوص التي تعالج قضايا متشابهة من حيث الغاية كعذاب الحلاج وموت المتنبي ، لتنتهي بانتصار الضحية ، او الامل في انتصارها في المستقبل ، او بعد الف سنة ، وهو امل يرجع الى ايمان البياتي بحتمية انتصار الحياة مهما طال صراعها مع الموت ، ومهما كانت رموز الموت قوية ، لكن هذا الامر كان مرتبطاً بمعطيات المرحلة التي كتبت فيها تلك النصوص ، وهي معطيات اصابها التغيير الجذري بعد عقود من السنين ، فتغير معها ايمان البياتي ايضاً ، ولم يصمد لفروض الزمن الجديد. اذ يظهر نص متأخر هو : (سجون ابي العلاء)([61]) وقوع البياتي تحت هيمنة الموت ، وقد دنا منه كثيراً ، ليفقد ابو العلاء ، كل قدرة على الرفض والمقاومة ، او التمسك بفكرة : (ان الارض تدور) التي كانت رمز انتصاره في النص السابق ، فيؤول في هذا النص الى التسليم بسطوة عدوه عليه ، ويكون سجين ذاته قبل ان يكون سجين عماه ، ولتكثر عليه السجون لتكون جزءاً من عنوان النص :

الاحمر والاسود

لصان اختبآ

في اكواخ الطين

وفي قصب الانهار

انهكني هذا الزمن الدائر

في اجراس الماء

من يروي جسدي

لأطوف به حول الكعبة

أدفنه في جبل (التوباد)

فلعل نسور الفجر الدامي

تأكله

وتبقي بعض عظامي

طلسماً لطفولة اعمى

ضيّع في باب الله

سحر الالوان

يمكن ان يكون (الأسود) دالاً على (العمى) لكن ابا العلاء تجاوز لون عماه ليحتفي بالبصيرة التي يفتقدها غيره ، فهو بها يبصر غير ما يبصره سواه :

في ليل معرة اجدادي

ولدتني امي اعمى

كنت ارى من بين اصابعها

سفناً ترحل نحو كواكب اخرى

ولصوصاً يحكم بعض منهم بغداد

وممالك اخرى

ماتت قبل ولادتها

كنت ارى امي شاحبة

في الفجر تصلي

وتنادي اشباح الموتى في غرف الدار

فلقد احاط الموت بالبصر والبصيرة ، وغمر وجوده حركات النص ، حتى ليصير البيت معه مقبرة هي رمز للعالم الانساني اجمع :

في حفرة موتي

في وحشة بيتي

كان النمل يروح ويغدو

مثل بناة الاهرامات

ليجمع من كسر الخبز طعاماً

لشتاء قاس

اعلام ليلي وحشته اقتربت

يتهامس في لغة اعرفها

في بيت الاموات

الأسود والأحمر لصان

سرقا مني (الغفران)

يمثل البيت العالم الاصغر الذي يعيش فيه ابو العلاء ، ثم يتسع ليشمل كل ما يحيط به من العالم ، لكنه لايكتفي بهذا حتى ينشر رؤيته للموت وقد امتدت في المكان والزمان البعيدين ، او التاريخ بكل ابعاده ، بتحريك قوة رمز (الأحمر) :

من صحراء الربع الخالي

حتى تدمر

اجدادي تركوا خيط دم

واكتشفوا البعد الخامس للموت

وروح الليل

ولاتكاد تجدي فورة الرفض وقد حاصره الاسود والاحمر ، فهي لاتعدو ان تكون اسئلة يائسة يغلبها اليقين بالموت :

قانون ازلي ام ماذا؟

موتي في كل مكان

وقبور يتصاعد منها الهذيان

من يشعل ناراً

في هذا الليل الموحش

من يصرخ في غرف الدار

فلتطلقني يا ابتي من قفصي

فسجوني كثرت

وعذابي طال

يتحول هذا السؤال الى استسلام عندما يتراجع بين يدي يقين الموت القادم، لكنه سؤال الغربة والقلق :

مابين الوردة والسكين

روحي قطرة ضوء تخبو

وانا اخبو معها

سنموت كلانا في هذا المنفى الملعون

فلماذا يا أبتي

أنجبت حصاناً غجرياً اعمى

لايعرف في هذا الصقع الشاسع

اين يموت؟

لقد تحول المنفى – الملكوت الى : المنفى الملعون ليحدث القطيعة مع امل الحياة وليغلب الموت عليها ، وهذا امر يرجع الى البياتي بعد ان جعل ابا العلاء الوسيلة لذلك ، وهو ما يظهر ابا العلاء رمزاً مختلفاً في النصين ، اذ غلب الاندفاع في الحياة ، والمقاومة والرفض ، والوقوف بوجه اجماع المجتمع على النص الاول ، فكان نصاً متفائلاً في نهايته ، مستنداً الى ما ابداه من هجاء لعصره ليتفوق عليه ، اما في هذا النص ، فقد بدا ابو العلاء فاقد القدرة على المقاومة والرفض برغم احتفاظه ببصيرته الحية التي ارته الحقيقة لكنه لم يستطع الاندفاع في اقرارها ، فقد وهنت قواه ، وهي قوى البياتي في حقيقة امرها, لذا استكان الى الموت موقناً ، مستسلماً ، وقد خالطه شعور الغربة والموت فيها اذ لا امل له في سواها ، وقد كان الامر كذلك حقاً , وهنا نلحظ ,بعد ان راينا في رمز الحلاج , ان الرمز لاينمو ولايتحول , بل يتغير تغيرا نوعيا في كل نص وفي كل مرحلة ليدلنا على ان الشاعر لم يكن يعي حياة الرمز بل كان يستعمله كما يستعمل أي اداة او اية وسيلة ليس لها نوع او شخصية وهذا يدلنا عليه متابعة الرمز الواحد في نصوصه .

ناظـم حكـمت(*)

:يعد هذا الشاعر التركي من رموز النضال في العصرالحديث ، فقد تحمل عناء السجن الانفرادي الطويل ، ثم النفي والغربة في الاتحاد السوفيتي لميوله الفكرية ، محتفظاً في اثناء ذلك ، بالمباديء التي أمن بها من اجل شعبه. حتى وافاه الاجل في دار غربته.

ارتبط البياتي بصداقة مع هذا الشاعر ،في اثناء وجودهما في موسكو قبل ثورة تموز 1958، وتوثقت عرى هذه الصداقة بعد عودة البياتي الى موسكو ، بعد الثورة ، ملحقاً ثقافياً عام 1959، واستمرت تلك الرابطة الى وفاة ناظم حكمت 1963، وقد كان البياتي شديد الاعجاب به([62]).

تقدم قصيدة (مرثية الى ناظم حكمت)([63]) الشاعر وهو يعاني موت الحب في الغربة ، والمقطع الثالث المعنون (الحب في الخريف) يكشف عن افول الحب مع افول العمر الذي ينازع لحظاته الاخيرة وقد حاصره الموت :

الورقة الاخيرة

تسقط في حديقة الاميرة

يا عندليب الموت

يا مخالب الظهيرة

لاتنبشي المسائل الصغيرة

لاتوقظي الاميرة

مدي الى بئر حياتي المظلم الضفيرة

ولملمي الانية الكسيرة

ودثريني فانا بردان في الظهيرة

ان موت الحب ، وحلول الجفاف والبرد محله دفئه الذاهب هو تهيئة لما سيأتي في المقطع الخامس (النهاية) حين يسرد الشاعر واقعة موته ، مظهراً التمازج مع أي ثوري اخر في العالم ليأخذ الاداء الرمزي امتداده :

اعدمت في اليونان

تفتحت في الليل وردتان

سال دمي على جبين القمر النعسان

وعاد عاشقان

من رحلة الضياع والاحزان

لكن هذا السرد قد اتخذ منحى مجازياً ، فهو ليس جزءاً من سيرة الشاعر ، انما هي توسعة في الاداء الرمزي ادخلها البياتي في سيرة الرجل ، لتصبح الرحلة ذات مغزى اوسع ، فهي رمز للموت الابدي ، الذي يتحد بالغربة ، والتضحية من اجل الانسان :

ودقت الاجراس في مدائن الدخان

اجمل انسان على الارض يموت

اجمل الاغان

رحلتنا تمت

سلاماً

ايها الانسان!

وفي قصيدة (مرثية اخرى الى ناظم حكمت)([64]) ينوب (النوم) عن الموت والنوم يحمل الوجهين معاً : الموت والحياة ، فهو موت مؤقت ، تعقبه حياة ، وانابة النوم مناب الموت يعني اضمار الحياة في هذا الموت :

كان ينام ، كانت ابتسامته تمر فوق فمه الصغير

وخده المورد المنير

كالقمر الميت في غياهب الحرير

كان ينام

كانت استانبول في خياله

فراشة تطير

حطت على القرنفلات

ايقظت من نومه الامير

فاستنبول التي مات ناظم من اجلها تكون سبباً في ايقاظه حين مرت بخياله ، وتقابلها (باريس) رمزاً للغربة ، والموت في الغربة ، لتعبر عن احساس البياتي نفسه ، فيوسع المكان ، مستفيداً من توظيف الرمز ، وان كان الرابط يبدو بعيداً احياناً :

والثلج الذي تغمره الكأبة الخرساء

وذلك الصوت الذي ترعشه

بائعة (الاوركيد) في المساء

يحمل لي رائحة الموت الذي يحوم في الهواء

يدق مسماراً بتابوتك ، يا حبي

ويا بوابة الهناء

لن نعبر الجسر اليك ، مرة اخرى

ولن نعود في المساء

باريس ماتت

فوداعاً ايها الاحبّاء

لقد هيمن الموت حتى على (باريس) نفسها ، واصبح النص ينطق بضمير المتكلم لكن المقطع الاخير في النص يعود الى التجريد ، فيحتفي بعودة ناظم من المنفى التي لم تتحقق في واقع الامر ، وهو احتفاء يقلب معنى الموت الفعلي ، بل يتغاضى عن حقيقة وقوعه ، ليظهر اهمية عودة الشاعر المغترب جسداً بارداً :

ولادة اخرى هو الموت ، هو الإياب

الرمل والحصى على الشاطيء والعناب

زوارق الحب

تحطمت

وغاض النور في العباب

وتزداد اهمية عودة الشاعر – المجازية – حين تكون عودة للحياة التي غابت بغيابه :

ناظم عبر الاناضول ، فافتحوا الابواب

يسقي الدوالي

يغرس الزيتون في الهضاب

وعرق الظهيرة الحمراء في الاهداب

كان جلال الموت

كان حفنة التراب

ناظم عاد ، فافتحوا الابواب!

لكن الابواب لن تفتح ، اذ تكشف قصيدة (الموت في البسفور)([65]) عن موت العقيدة التي مات من اجلها ناظم قبل عقد من الزمن ، ممثلة برموزها الذين انحرف بعضهم عنها ، او غيّب الموت بعضهم ، او في السلطة التي آلت الى الاعداء ، بل حتى (منوّر) زوج ناظم تتزوج من بعده وترحل :

مررت باستنبول بعد الليلة الالف

وبعد السنة العاشرة

التقيت بالرفاق : كان بعضهم مات

وكان بعضهم شاخ

وكان بعضهم خان

ضياء القمر الطالع في البسفور بعد الليلة الاولى

لكن البياتي ، وبرغم هيمنة الموت الظاهرة في النص ، يحاول الاحتفاظ ببعض صوت الامل مبشراً بامكان المقاومة والحياة :

الرفاق كانوا يذبلون ويموتون

على ارصفة الميناء في بطءٍ

ولكن المغني كان في غنائه

يقاوم الذبول والموت ، وفي جحيمه محترقاً

يضيء ليل البشر – الالهة – الطيور

وهذه المقاومة هي رغبة من البياتي ، او امل في ما ينبغي ان يكون ، وهو ينقضه الاعتراف السريع بهيمنة الموت وغلبته في مظاهر كثيرة :

بعدك كان الموت والفراق في استانبول

يمارسان لعبة المنتظر المخدوع

“منور” تزوجت ورحلت

والاخرون احرقوا الجسور

كان هذا خطاب البياتي واضحاً وهو يتجه الى ناظم ، الا ان المقطع الثالث يحدث تداخلاً بين الصوتين في المعاناة ، اذ ينتقل الخطاب الى ضمير الانا في ظاهره او يتحدث عن معاناة ناظم ، فيختلط الصوتان معاً جرياً وراء امل الثورة والحرية :

هل رأيت من نافذة السجن ينابيع الربيع

وقطار الليل وهو يرسل العويل في عاصفة ثلجية؟

كنت الى المنفى اساق

وانا مقيد بشعرها الاحمر

اعوي واعض القيد

من يرحل في نفسي ولا يعود؟

هل رأيت!

لا شيء سوى الضوضاء والتصفيق في القاعات

كان الليل في كل مكان

وانا مقيد يشعرها

اتبعها كالعبد

هل رأيت؟

لكن سلطة الموت/ المنفى تقهر الشاعر وتجبره على الاعتراف بالهزيمة المبرقعة بقوة الاحتفاظ بنقاء الذات امام مظاهر الزيف والسلطة :

الزمان دار

سقط الثلج على بوابة الحديقة

السلطان في مملكة الموت انا

اتبع مولاتي الى المنفى

قبور الشهداء هي ميراثي

سابقى حاملاً وسامهم

خارج قاعات الملوك ولصوص الشعر والقبائل الجديدة

يختفي ناظم ليظهر (يونس الاعرج) وهو من رفاقه ، بديلاً عنه في التمسك بامكان الحياة بعد الموت ، فيبقى صامداً برغم عرجه ، وموته في اول النص فيكون الانموذج الوحيد الذي يظل وفياً للمبادئ اذ نكص عنها الآخرون ، وقد وظفه الشاعر ليعطي قوة دفع جديدة بعد ان همد النص بموت ناظم :

وكان يونس الاعرج ، ما زال على ايمانه

يذرع كل ليلة خريطة العالم في عكازه

وعندما يعود للقبر

يمد يده يمسح التراب عن وجه المغني

وهو في غنائه يقاوم الذبول والموت وفي جحيمه محترقاً

يضيء ليل البشر- الالهة- الطيور

لقد غلبت على ناظم حكمت ، وهو يحل رمزاً لدى البياتي ، صفاته الموضوعية التي اشتهر بها ، وتضاءلت آثار تلك العلاقة الوثيقة التي ربطت الشاعرين معاً ، فاصبح موضوعاً مستقلاً يوظفه البياتي في شعره مساوياً لرموز اخرى : قديمة او حديثة كالمتنبي والمعري ولوركا وغيرهم ، فقد استطاع ان يصنع منه رمزاً فنياً اكثر من كونه عاطفياً , وهنا يختلف رمز ناظم حكمت  عن الحلاج والمعري وغيرهما في انه ينمو او يتحول ولا يترك نوعه ذلك لارتباطه به شخصيا .

ومن الجانب الآخر ، يكشف هذا الرمز عن التحول الذي اصاب البياتي فكراً واحساساً بحسب فارق الزمن ، وبحسب المعطيات الموضوعية التي يعيش فيها واقعاً جديداً يسفه كثيراً من الرؤى والاحلام التي كانت تمده بمبادئ النضال والثورة والامل المشرق. وهي من رموز الحياة التي امن بها ، لتحل محلها ، انتكاسة الثورة ، وزيف النضال ، والسراب الخادع ، وهو ما يعطي فسحة اكبر لرموز الموت لتفعل فعلها في الشاعر وشعره كلما تقدم به الزمن.

الاسكندر المـقدوني([66]) : رمز للقوة غير المالوفة, لكنها تعجز ازاء الموت , وكأن الموت اتخذه مثلا لغيره ,  فقد اختار اكبر فاتح , واعتى غاز ليري غيره سلطته , فكان وقع موته مخيفا على مخلوقات المشهد الذي يبنيه نص الشاعر  قبل ان يطرق الاسماع موت الاسكندر([67]) :

تهاجر الطيور

لكي تموت في مساء العالم الاخير

فوق عواميد الضياء وسقوف المدن الغبراء

مصلوبة في النور

تعوي كلاب الموت في المغيب

يصرخ العند ليب

في الغابة المنسية

انها الحرائق الليلية

ولا يقع الاسكندر دفعة واحدة ، انما هو يتداعى ، فينهار جزءاً فجزءاً امعاناً في تجسيد المشهد واظهار العجب منه :

هاهو ذا الاسكندر الاكبر في المراة

ينام يقظان على جواده اراه

مبللاً بعرق الحمى وعطر الليل

تأكل لحم يده القطط

يتبعه القمر

والريح في التلال والقدر

يحمله الجنود في محفة الموتى على الرماح

هاهو ذا المنتصر المهزوم

يعود من اسفاره وليس للاسفار

نهاية مكللاً بالغار

ومثقلاً بالحزن والشعور بالخيبة والضياع

امام نور العالم الابيض والليل الذي يليه الف ليل

وسور بابل الذي يليه الف سور

تتبعه النجوم

لكن كلب الموت يعوي ، فتغيب في ظلام الفجر

فهو مشهد موت احتفالي ، تشترك فيه مكونات العالم ، ويحمل في طياته انواع التضاد الحاد من نصر وهزيمة ، واكليل الغار ، والحزن والشعور بالضياع.

يكتسب الاسكندر بعض علامات الحياة حين يتصل برمز الحياة (عشتار) فيستعيد القدرة في صراعه مع الموت ومحاولة القضاء عليه ، لكن تلك المحاولة لا تجدي ، وتبقى الهيمنة للموت ، ويتضاءل وجود الاسكندر ليظهر البياتي من خلف القناع ، برغم ايهام ضمير المتكلم :

الموت في المراة

اراه كل ليلة ، اراه

يحدجني بنظرة استهزاء

وعندما ارمي الشباك حوله يصفر لي ويختفي كالجن في الابريق

وفي الخوابي مشعلاً في قدحي الحريق

يا شعلة الاولمب ، يا مراكب الاغريق

ضمي رفات النورس الغريق

في الابد السحيق

وداعبي قيثارة الريح على الشطان

وعلميني لغة الانسان

وهذا سعي الى التعويض عن الموت ، بالتمسك برموز الحياة او الانتماء الى الانسان الحي ، ويزيد على هذا التعليق بامل البحث ، وانتظار المنقذ بصورة فارس مجهول في تضمين واضح لعقيدة الانتظار الاسلامية :

… في انتظار الشمس

يعدو على تراب قبرى فارس مجهول

ملثم نعسان

تفوح من معطفه رائحة الحقول والجبال والمطر

ما آب من سفر الا وكان يزمع السفر

ناديته وهو يمر متعباً لكنه ارتحل

وغاب في الجبل

مخلفاً وراءه آثار اقدام على الرمال

وقمراً يبكي على التلال

منتظراً عودته في آخر المطاف

فالدلالة الرئيسة للرمز هي موت القوة المتسلطة([68]) لتبعث قوة جديدة تختلف عن قوة الفتوحات والغزو ، بل تنقضها ، فيولد منها اسكندر جديد فيه القوة وليس فيه الاستبداد ، او الغزو :

اسطورة اعيش بين عالم يموت

وعالم يولد من جديد

احس بالعصارة الحية تسري في عروق الارض وبالظلام الحي

ينبض في نواة كل شيء

ولعل في هذا جمعاً بين الدين والاسطورة وانتماء الاسكندر اليهما معاً ، فضلاً عن التاريخ ، لان افاق الرمز تبقى مفتوحة ، وللشاعر ان يختار منها ما يشاء.

الدم رمز مـشترك  :

الدم نهر الحياة ، لكنه يدل على الموت ايضاً ، فهو رمز مشترك بين الاثنين ، ورابط بينهما ، بحسب السياق الذي يرد فيه ، وقد عبر البياتي بهذا الرمز عن الموت والحياة في مواضع كثيرة فاقترن بالقتل ، او الاعدام ، وهو يروي الارض لتنبت فيها بذرة الحياة ، ولذلك تكررت كلمة (دم) كثيراً عند البياتي رمزاً او حقيقة ففي (خيط النور)([69]) يصبح الدم هو ذلك الخيط السري الممتد عبر الاجيال في موتها وحياتها ، فيبدأ من لوركا بغير تسمية :

رأيته يصارع الثيران

مضرجاً بدمه ، يصرعه قرنان

ويمتد هذا الرمز، من مدريد الى بغداد ، ليحمل سمات كل مناضل باختلاف الزمان والمكان :

يعدم رمياً بالرصاص ، عارياً يولد او يموت

يزرع في الجليد

بنفسجات حبه الجديد

يزور في اعياد الموتى ، يغني للموت في الميلاد

يحمل في ضلوعه بغداد

يمتد سيل الدم الدافق من الجسد الصريع ليغمر العالم كله رمزاً للتضحية ، وبه تصبح الثورة امتداداً شاملاً :

الدم في كل مكان ساخناً يسيل

مروياً هامة هذا الجبل الثقيل

رأيته يمتد من جيل الى جيل كخيط النور

في عالم الفوضى وتزاحم الاضداد والعصور

وقد يجدي سيلان الدم او الثورة في استعادة نقاء الحياة ، مستخرجاً اياها من صلب الموت :

الدم في كل مكان ساخناً يسيل

يلعق في لسانه المحاره

يفتضها ، يغتصب العبارة

يعيدها صبية ناضرة البكارة

رأيته يولد من مدريد

في ساحة الاعدام او في صيحة الوليد

متوجاً بالغار

تحوم حول رأسه فراشة من نار

و (دم الشاعر)([70]) طاقته التي تحترق من اجل ان تضاء دروب الحياة ، والشاعر رمز للانسان الذي حاز ضميراً نقياً ينطق بأسم الاخرين :

صوت الشاعر فوق نحيب الكورس يعلو ، منفرداً ، منحازاً ضد

الموت وضد تعاسات البشر الفانين

وتظهر رموز الحياة وقد فارقت حياتها ، ولاشيء يعيد لها الحياة الا دم الشاعر الذي يعني تضحية ، وحياة جديدة تبعث بفعل هذا الدم :

بدم الشاعر ، هذا الحب القاسي ، يكتب تاريخ الروح

يغمر الموت والدم قصيدة (من كتابات بعض المحكومين بالاعدام بعد سقوط كومونة باريس)([71]) اذ يغلب الموت الحياة حين يموت الاب والابن معاً :

كان ابي عبداً على محراثه مات

ولكني على مقصلة الجلاد

مستشهداً أموت

يتشابه الموت في النهاية ، لكنه يختلف في الوسيلة والدلالة ، وهو مختلف بدليل اداة الاستثناء ومقصلة الجلاد التي تجعل موت الابن ثورة ، وموت الاب عبودية ، وتختلف الغاية ايضاً :

لترتفع رايات كومونة باريس

لينهض فقراء الارض من جديد

ونهوض الفقراء لايكفيه دم واحد ، فهو به حاجة الى تضحية اكبر ينتشر الدم معها في كل مكان ، فتتجمع لذلك كثير من الرموز الدالة :

دم على الكنائس القوطية الحمراء

دم على الاجراس

دم على قصائد الامطار واللوحات

دم على دفاتر الاطفال

دم على باريس

يهطل مدراراً على بيوتها ويسقط الجليد

فقد اصبح الدم رمز ثورة([72]) شاملة ، وتضحية كبيرة ، وهو حين يحدث في باريس يجدي ، لكنه حين يحدث في بلاد العرب يجلب الموت دون الحياة :

كان الفراق / الموت

يأتي مع الفجر ليستخرج من صندوق هذا الجسد الجواهر

والامل المسافر

وشعلة الحياة

يأتي مع الجلاد

فيتحول الثائر الى نعش يرتجي البعث من جديد بعد ان خاب في موته :

فلتحملي أمّاه

نعشي على فراشة البرق الى الحقول والغابات

ولتنثريني في الضحى رماد

في مدن الجوع وفي ازمنة العذاب والثورات

اولد من خلال هذا العالم الواعد بالطوفان من جديد

مع الملايين التي عذبها انتظارها الطويل

تلك هي المفارقة بين دم ودم.

ويتسع انتشارالدم على رموز كثيرة سعة انتشار الحرب والامها، في (الى انا سيكرز)([73]) :

دم على الاشجار

على جباه الحرس الاسود

والاحجار

على عيون القمر المصلوب في الجدار

على المصابيح

على الازهار

على زجاج عربات النوم في القطار

حتى كأن النار

أتت على العالم

فاستحالت الارض الى قفار

تغمرها الصلبان والصبار

والصلبان رمز اخر يعزز كثرة ما اصاب الناس من قتل في الحرب العالمية الثانية.

ومن رموز القتل (الخنجر) اداة تقترن بالغدر والمؤامرات والدسائس ففي قصيدة (الى البيركامو)([74]) يشرع البياتي في بناء مشهد موضوعي تعمل فيه الادوات من دون تحديد للشخصيات ، اذ يحل الرموز محلها ، قبل ان يظهر ضمير المخاطب (انت) الذي يحتفظ بالدلالة على اكثر من مخاطب ، بما فيه الشاعر نفسه :

خناجر الغجر

تلمع في الكهوف في مخابيء الشجر

تغرز في اضالع القمر

وانت مشدود الى حجر

تغمرك الاعشاب والاملاح والمطر

وحولك الصلبان غرقى

آه لاتسترق النظر

فالف باب اغلقت والف سر دوننا انتحر

يعود الرمز نفسه ، (خناجر الغجر) ليظهر ثانية في قصيدة (الى بابلو بيكاسو)([75]) ليؤدي الوظيفة نفسها باسلوب مقارب :

خناجر الغجر

تمزج في خصلتها السماء والعالم والقدر

وتحرم البشر

من نومهم

من ان يموتوا في سراديب من الضجر

طعامك النار وصمت البحر والسحر

يتكرر “الخنجر” رمزاً للصراع ، والموت غدراً في (الفارس فوق المدخنة)([76]) فالفارس :

يموت فوق المدخنة

وحائط الرصاص والنوافذ المسننة

يُمد الف خنجر منها

والف لفظة مبطنة

لتطعنه

لتطعنه

وهو يموت حاملاً صليبة ووطنه

ومن رموز الموت (الطفولة البريئة) التي هي اكثر من يتأثر به ، ولاسيما اذا وقع بفعل مقصود. ففي قصيدة (افول القمر)([77]) يظهر التناظر بين القمر والطفل الضحية :

ووضع القمر

جبينه الشاحب فوق حجر ونام

وارتجف الشارع والمصباح والظلام

وسكتت بغداد لاتسأل عن الكلام

يظهر تناظر اخر بين الطفولة والقمر بجامع الغياب في قصيدة (قمر الطفولة)([78])

قمر الدموع على هضاب الليل غاب

والطفل والعصفور والخيط الذي ينسل من باب لباب

يتسع رمز الطفل ليمثل بديلاً عن الوطن المعذب([79]) :

قمر الطفولة في التراب

عريان تنهش لحمه

عريان تأكله الكلاب

أواه يا وطني

ويا طفلاً تمزقه الحراب

يا زورقاً يهتز في ريح المغيب

ويا مناديل الغياب

لكن هذه الرموز جزئية ، تأتي ضمن رموز اخرى ، تعضدها ، وتقوي دلالتها ولاتكاد تأخذ امتداداً واضحاً تخضع فيه للتطور الذي اصاب الرموز الكبرى.

تظهر (الذئاب) رمزاً للموت لدى البياتي في مواضع متفرقة ، لتمثل الموت العنيف الذي يمزق جسد الضحية ومن ذلك : (النابحون في العاصفة)([80]) :

عريان ، ها ان الذئاب

تعوي مع الموتى

وها ان الطريق الى العراق

سدته قطعان الذئاب

سدته يا قلبي وانت على مخالبها تسير

عريان ، محترقاً ، كبير          

  وكذلك الامر في (الباب المضاء)([81]) مستفيداً من نص تراثي معروف :

والذئاب

تسطو على من لاكلاب له ، وسفاكو الدماء

يقامرون بما تبقى من رصيد

 ليكون (الباب المضاء) نافذة الامل الوحيدة في نص هيمنت عليه رموز الموت التي تسند رمز الذئاب :

والليل والباب المضاء

والشارع المهجور والقتلى واقبية المياه

والريح والدم والمداخن والهوام

من سطوة الارهاب تزحف في الوحول

محمومة عمياء تزحف في الوحول

اما في (الطريد)([82]) فتبدو الذئاب رمزاً للموت ، والموت رمزا للغربة :

في وطن بعيد

تتبعني الذئاب

عبر البراري السود والهضاب

حلمت

والفراق يا حبيبتي عذاب

اني بلا وطن

اموت في مدينة مجهولة

اموت

يا حبيبتي

وحدي بلا وطن

اما في (مراثي نادية)([83]) فتختصر المسافة الواقعة بين الرمز ودلالته ليتحد الاثنان في الدلالة والتركيب معاً :

من ذا ، إلهي

كان يدعوني؟

وماذا قال؟

ذئب رأيت دمها بنابه

الموت ذئب

يا الهي افترس الطبيعة الحسناء

ويقترن الذئب بالموت في قصيدة (العراء)([84]) مع رموز اخرى خاضعة للموت :

يعوي في داخله ذئب ، مفجوعاً بأفول النجم القطبي وموت

الفجر على ارصفة المدن الارضية يطعن عينيه الضوء الخابي في

نافذة ، يسمع وقع خطاها راحلة ، تذرو الريح كرات الثلج

النارية في عري الشارع.

الموت رمـزاً :

وردت كلمة (الموت) ومشتقاته مرارا، مبكرة في شعره , وبعد بواكيره قليلا  ، وقد دارت حول دلالات مختلفة يقع معظمها في معنى الانقطاع عن الحياة الكريمة ، التي تحقق وجود الانسان ، وغالباً ما وردت مشتقات لفظ “الموت” بصيغة الجمع. لتدل على جمهور راسع ، وهو الشعب ، او طبقة منه مغلوبة على امرها ، وفي اغلب الاحوال يتراجع المعنى المادي للموت ، او يختفي ، ليظهر المعنى الرمزي الذي يريد الشاعر ابرازه.

في قصيدة (المحرقة)([85]) يقع التقابل بين كلمتي (التافهون) و (الموتى) ليظهر نمطين من الناس كلاهما في حكم الاموات :

وفتحت ابوابي

للنور والظلمات ابوابي

والتافهون وراء حائطنا

يرنون للموتى باعجاب

وكلابهم تعوي وعالمنا

يصحو على اصوات حطاب :

(يا ارض ميدي بالقبور فقد

اطعمت للفيران اعشابي)

فالموتى هم هؤلاء الذين تحركت فيهم روح الثورة فتحركوا من قبورهم ، والتافهون هم الذين مازالوا مستسلمين لموتهم من دون حراك :

اما الذين وراء حائطنا

يرنون للموتى باعجاب

فقلوبهم جيف معطرة

للبيع في حانوت قصاب

ناموا على اعتاب قاتلهم

يتثاءبون طوال احقاب

يتضح مزيد من صفات هؤلاء في (صخرة الاموات)([86]) حيث الانقطاع التام عن الحياة :

صمّ على الدنيا بلون الخوف

كانوا ، والرغام

عاشوا على الاوهام

كالديدان تنهش مع الرمام

احياؤهم موتى

وموتاهم خفافيش الظلام

لم يعرفوا نور السماء

ولا تباريح الغرام

اما نساؤهم

فجرذان تعيش على الهوام

ليس هذا هجاء حسب ، انما هو تعمق في صفات طبقة اجتماعية – سياسية كانت لها السلطة تقابلها طبقة اخرى مضطهدة تظهر في (ريح الجنوب)([87]) وينتمي اليها ، السجين المضحي من اجلها :

كلماتك ستدك جدران السجون

وتضيء للموتى منازلهم وتكتسح الطغاة

بحروفها المتوهجات

يظهر السجين([88]) مرة اخرى ليعبر عن الموت الذي يغمره في السجن وفي خارج السجن :

عبر باب السجن عبر الظلمات

كوخنا يلمع في السهل ، وموتي ، والنجوم

وقبور القرية البيضاء([89]) والسور القديم

وقيودي وهواها

وطواحين الهواء

وبطاقات البريد

يكون هذا النمط من الموت المستسلم لقدره موضع رفض عنيف كما في قصيدة (موعد مع الربيع)([90]) وبحث عن حياة بديلة :

وصرخت : (لا)

في وجه موتي : (لا أريد)

وبصقت : (لا)

في وجه موتي : (لا اريد)

الباب يفتح ، والضياء يمس نفسي من جديد

وكأنما بيض تكسر عن نسور

نفسي – التي كانوا أماتوها – تكسر عن نسور

طارت الى افق البكاء

يفضي رفض الموت الحاد هذا الى التعلق بالحياة التي تقترن بالعذاب الازلي ، لكن هذا لا يمنع من التمسك بها ، فثمة امل ينقذ ، تمثل في ضمير التأثيث :

(لو لم تمت!)

وشرعت اعدو في الطريق

عبد الحياة ، انا الرقيق

عبد الحياة يعود ، يحمل من جيد

جذلان ، صخرته ، الى السفح البليد

وسخرت من نفسي : (تعود؟)

هي والربيع غداً تعود

افضى هذا كذلك ، الى طريقين في عرض قضية الموت : الاول هو الدعوة الى الحياة وتغليبها على الموت ، والثاني هو البحث عن معانٍ نبيلة للموت ، ترتقي به عن التفاهة والهوان بجعل الموت غاية نبيلة تتمثل في الثورة والاستشهاد ، تضحية من اجل حياة بني الانسان ، ومن الطريق الاول قصيدة : (الموت في الخريف)([91]) التي تظهر فيها الدعوة الى الحياة ، بعد ان بدت دلائل الموت فيها :

يا صامتاً والسنديان الشاحب المغ