سعدي يوسف يقتفي أثر ابن بطوطة

طباعة البريد الإلكترونى

خليل صويلح

الأخبار اللبنانية

آخر تحديث السبت, 14 ماي/آيار 2016 16:01

بعدما غادر بلاده في السبعينيات هرباً من الجحيم، وجد الشاعر العراقي نفسه جوّالاً رغماً عنه. حيث ليس للمنفي جغرافيا راسخة، بدأ بتدوين أسفاره من طنجة مسقط رأس أشهر الرّحالة العرب، لتخرج في كتابه الجديد “لدروب الذهب” (دار الجمل). بين القرن الثامن والرحلات المعاصرة، تتجاور مقاطع الرحالين في عملية تناص مبتكرة، عن حلب ودمشق والفيليبين وعمان وغرناطة واليمن

 

ارتأى سعدي يوسف أن يبدأ تدوين أسفاره من طنجة، مسقط رأس ابن بطوطة، أحد أشهر الرحّالة العرب، مقتفياً أثر صاحب «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، في عملية تناص مبتكرة. مقاطع مما كتبه ابن بطوطة عن المدن التي زارها، يليها ما كتبه شاعرنا عن الأمكنة نفسها، أو ما جاورها، من موقع المشّاء أو جوّاب المدن.

 

الشاعر الذي غادر بلاده العراق في سبعينيات القرن المنصرم هارباً من الجحيم، وجد نفسه جوّالاً رغماً عنه، فليس للمنفي جغرافيا راسخة. وفيما كان ابن بطوطة قد بدأ رحلته في القرن الثامن، بقصد الحج وزيارة الأماكن المقدّسة، إلا أن سعدي يوسف في ترحاله المعاصر كانت لديه مشاغل أخرى، حيث المدن لا تكتمل إلا بزيارة حاناتها ومقاهيها وفنادقها وقلاعها. كان ابن بطوطة يعتني بالجغرافيا أولاً، وبأسماء الحكّام والقضاة وأئمة المساجد، والأضرحة، وتدوين الحوادث الكبرى، فيما ينشغل شاعرنا بتدوين التاريخ الشخصي للأزقة والبشر المهمشين، وذكرياته في المطارات، ورائحة الملاءات في الفنادق. هكذا يأتي كتاب «لدروب الذهب» (دار الجمل) كارتطام بلاغي بنصٍّ قديم وإعادة رسم خرائطه على نحوٍ آخر، أكثر ملموسية. إذ ينشغل أبو عبدالله محمد بن عبدالله الطنجي بذكر أبواب الإسكندرية ومرساها ومنارتها مثلاً، فإن رحّالتنا المعاصر يكتب عن «منزل كافافي» الشاعر الإغريقي الذي عاش في هذه المدينة كإحدى علاماتها المضيئة. أما القاهرة التي يسميها ابن بطوطة أمّ البلاد، ومؤنسة الغرباء، فيخصّها الشاعر بسبع حركات شعرية في قراءة موشورية تضيء ليل المدينة وحاناتها ونيلها. هكذا تحضر «حانة ستيلا»، و»مقهى البستان»، و»النادي اليوناني» كمحطات أساسية في تجوال الشاعر: «ونأتي القاهرة/ مثل ما نأتي إلى جدتنا بعد طواف خائبٍ/ أيتها الجدّة: كم أرهقنا العالم». سننتبه إلى النبرة الشعرية لدى ابن بطوطة في كتابة أسفاره، ربما لتجاورها مع نصوص الشاعر، ذلك أن «الأخضر بن يوسف» لم يختر هذا النص التراثي عبثاً، أو لحمولته الجغرافية فقط، وإنما للنتوءات الشعرية المبثوثة في تضاريس النص، ولتشابه أمكنة العيش. يقول ابن بطوطة في وصف حلب «فيا عجباً لبلاد تبقى ويذهب ملاكها، ويهلكون ولا يقضي هلاكها»، ويقول في دمشق التي سئمت أرضها كثرة الماء «اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب». دمشق بالنسبة لشاعرنا ليست مكاناً عابراً، فقد كانت إحدى محطات حياته الأساسية، ما بين عبور واستقرار وحنين: «أنت تسكن مُسبقةَ الصُّنعِ/ بين مساكن برزة/ وابن النفيس/ وقد تتمشى من البيت، صبحاً، لكي تبلغ «المرجة»، الصبح يعبق بالياسمين… المدينة تستيقظ».

ينشغل بتدوين التاريخ الشخصي للأزقّة والمهمّشين

أثناء وجوده في البصرة خلال خطبة صلاة الجمعة في المسجد، يستغرب ابن بطوطة من أخطاء الخطيب في النحو، وحين يبدي عجبه للقاضي حجة الدين يجيبه «إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئاً من علم النحو. وهذه عبرة لمن تفكّر فيها». سيعود الشاعر إلى مسقط رأسه في البصرة (أبو الخصيب) بعد سنواتٍ طويلة من الغياب القسري عنها، ليجد مدينة أخرى تخفق فيها الرايات السود، والرايات البيض، وريح الاحتلال، وإذا بـ»الشيوعي الأخير» لا يجد مكاناً لرايته الحمراء، رغم إصراره على حملها متجاهلاً خيبة اللحظة الراهنة «يا حيف «شط العرب»… يا خيبة الملّاح». يقارن الرحّالة القديم مدينة شيراز بمدينة دمشق لجهة حسن أسواقها وبساتينها وأنهارها، ويروي حكايات عن كرامات الأولياء، ولا يختلف معه الشاعر الجوّال في الوصف «حيث شيراز المدينة سوف تُمسي جنّة البستان»، كما سيعرّج على ذكر شاعرها حافظ الشيرازي وأشعاره المغنّاة. وسوف يرثي بغداد والكوفة «ها نحن أولاء نغادرها مشنوقين على ماسورات مدافع دبّابات». ولكن ماذا يفعل ابن بطوطة في الفيليبين؟ يقول «ثم وصلنا إلى بلاد طواليسي… ورفضت أن أهبط من السفينة وآكل غذاء الكفّار الوثنيين». من جهته، سيكتب شاعرنا مرثية لابنه حيدر الذي مات في تلك البلاد البعيدة. تذهب الدهشة إلى أقصاها في وصف بلاد الصين، لكثرة الصنائع فيها وغرابة أعرافها، وأمان الطريق للمسافر، وكثرة الأعاجيب فيها. سوف تتاح لصاحب «بعيداً عن السماء الأولى» زيارة الصين بدعوة من صديقٍ قديمٍ له، بعد ترجمة مختارات من أشعاره إلى اللغة الصينية، بالإضافة إلى السحر الغامض لبلاد بعيدة، وسيكتب انطباعاته عن هذه البلاد بسورها العظيم ومدينتها المحرّمة، بدهشة مشابهة لسلفه «كم تبدو الحياة جديرة بأن تُعاشَ هكذا». يكمل ابن بطوطه أسفاره بصحبة الشاعر إلى «بلاد بلغار»، واليمن، وعُمان، لتنتهي الرحلة في غرناطة «قاعدة بلاد الأندلس، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا». في غرناطة، يستحضر سعدي يوسف روح شاعرها لوركا وعازفي القيثارات، وغجر الحانات، وجنون الرقص في الساحات، وقطاف الزيتون «يا أيها السرُّ الذي أودعته أرصفة الميناء/ قُبّعتي طارت مع الريح/ ودارت زهرة في الماء».