آمال موسى :أنثى الماء شعرية البوح والتمرد

الشاعرة آمال موسى مديرة لمهرجان قرطاج الدولي

1 يناير,2000، مجلة نزوى، 

ديوان الشاعرة آمال موسى “أنثى الماء” تنتظم قصائده في أربع حركات , هي : الحركة الأول في “ملكوت الذات ” . وتحاول الشاعرة عبر قصائد هذه الحركة أن تبوح بمكنون ذاتها, بشفافية وخصوصية عالية أكدت أنه بالامكان شعريا أن نكتب الجسد بفنية ترقى به عن مجرد كونه عددا من الأعضاء أو سطحا من الجلد. وصولا الى أعمق وأدق تفاصيل الجسد باعتباره جزءا لا ينفصل عن ذاكرة الشخص وأحد أهم مميزاته النوعية . لذلك فإن الذات الأنثوية الخاصة هي مركز الحركة الأول ، فمن الجسد الفاتن ينبع الشعر واليه يعود.

الحركة الثانية : “في حانة القصيدة » ، وفي هذه الحركة تعبر أمال موسى عن هواجسها ورؤاها فيما يتعلق بالشعر، والشاعر ، والقصيدة ، وهي في رؤيتها للشعر تراه “حكيما» ينبغي أن يهتم بشيء أن يحمل معنى . وقد يعضد ذلك اختيارها “المتنبي” لتقدم ديوانها بأربعة أبيات من شعره ، وقد كررت أمال استخدام أبيات للمتنبي في مدخل كل حركة من الحركات الأربع للديوان ، منتقية أبياتا منه تتواءم وأفق كل حركة في دلالتها الكلية .

الحركة الثالثة : “بيوت من ماء .. بيوت من طين ” فيها يكون المكان متجليا من زاوية كونه النسب الحي للانسان . وفي هذه الحركة المحتفية بالمكان تماما ، تظهر “بداوة » ما، طازجة وأليفة في مواجهة “المدنية » وتقاليدها المغربة ، فيما يبدو انسجاما ذاتيا مع الفطرة في مواجهة النمط .

الحركة الرابعة : “العاجزة من لا تستبد” ، وهي الحركة التي تعود الى الأنوثة مفتتح الديوان في الحركة الأولى ، فيما يشبه بنية دائرية أخيرة لجميع قصائد الديوان . ففي هذه الحركة الرابعة تغلب على القصائد روح التمرد الأنثوي العارم والحميم ، في انتصار الأنثى لنوعها ، وهو ما يتلاقى مع تمرد سابق في أول الديوان تعلن فيه الشاعرة زهوها بأنوثتها وروعة خصوصيتها الجسدية والروحية التي تدفعها الى التمرد ضد الانسحاق ، حيث يبقى “المثول ” ذا معنى مختلف تماما.

وبالنظر الى العنوان “أنثى الماء” يحيلك الى ما يتواءم دلاليا داخل المتن من قصائد ، فأنفس الماء هي “فرس النهر” أو “عروس البحر” الفريدة الزاهية ، التي تحمل معنى أسطوريا أيضا فيها وحولها، ناهيك عن التمازج فيما بين الأنوثة والماء من معنى الصفاء والطراوة والري وتقلب الأحوال . ولا نبتعد كثيرا بهذا التفسير، فقصائد الديوان تشير الى روح الأسطورة . التي تلعب دروا في نسيج مادة عدد من القصائد. كذلك فمن صفات الماء التحول والسيرورة ، فيما يتشابه فعليا من صفات الأنثى، وما أشبه لحظة سكون جزيئات الماء في جسد الرمال بلحظة سكون الشوق بعد ارتوائه . ولا يعني ذلك حديثا عن شعر المرأة مقابل شعر آخر للرجل ، فذلك تقسيم مضر بالتجارب وينطوي على نظرة عنصرية للفن ، ويضيق زاوية الرؤيا. لكنني احتفظ لنفسي بتأكيد خصوصية الأنوثة وتجلياتها الفنية العديدة داخل الديوان فيما يمثل محور التجربة فقد أمكن عبر الشعر البوح بأسرار رحلة طويلة داخل الماء / الأنثى. وهناك سمة مهمة في الديوان بشكل عام ، وهي الجمع بين التقابلات النوعية ، الرجل ونقيضه الأنثى، المدن ونقيضها البداوة الرضوخ ونقيضه الاستبداد ، إنه حب النقيض الذي يؤكد الخصوصية ، فالأبيض يؤكد الأسود ويظهره والعكس صحيح . وجدالية التناقضات والثنائيات المتقابلة تضع دلالات  عديدة للتجربة ، تعمقها وتدشنها، فهي مثلا تكسر المفاهيم المتعارف عليها حول طبيعة الأشيا0، وكذلك المنطق الذي يحكم طبيعة تحاور هذه الأشياء.

اللغة في الديوان لغة عادية غير أنها تتراوح بين الالتهاب والتوتر وبين الهدوء والتأمل تبعا لحرارة البوح والشحنات الذاتية الخاصة التي تدفع باللغة لأن تكون “غنائية ” في بعض القصائد، مثل “أعشقني” و “كاهنة الموت ” و” أنثى الصيف ” و”عصية الطي”. وربما كانت البداوة هي التبرير الموازي لكراهية المدينة والاغتراب عن نمطية حياتها، وتكمن في مفردة “الفجر» دلالة خاصة على نوع من البداوة ليس متكررا ، فالغجر لهم منطق وعادات وتقاليد تخصهم وحدهم في الحياة وفي المعاملات :

 أسكنت الغجر شعري

بسطت لهم كفي

ليخطوا ما ذهب من الأتي فنهبوا السواد

أفرغوا الجدائل .

إنها لا تناقش قوانين البيئة من خارجها إنما تستخدم إحالات على روح هذه البيئة ، مثل قراءة الكف ، والنظر أو التكهن بالمستقبل المنقضي سلفا ، أي حال السليم الكامل ، ومع ذلك تكون النتيجة الغدر. فيما يمثل إدانة للحياة المشروطة التي تضع الأنثى في “إطار» لا ينبغي لها الخروج عنه . ورغم أن القصائد منذ البداية تحمل روح أنثى متمردة إلا أنه التمرد الحذر الذي يجنح كثيرا لا الى طرق التابوهات تماما وانما فقط ، هو يناوشها، أو يستبدل هجرها ورفضها التام بعتابها أو اللوم عليها. ولا يمنع ذلك من إقرار أن الشاعرة استطاعت في هذا السياق أن تبوح في أحيان كثيرة بأقصى ما يمكن أن تبوح به أنثى في تمردها.

إن البوح الفني في الديوان ينطوي على معنى الكتمان في وجه منه ، حيث إنه يأتي وفق أعراف ورؤية ناضجة ، لا تجعل من البوح معادلا للكشف ، أو الفضح ، فالبوح له معنى التسري والشكاية والحلم والأسى أيضا، والعزة المهدرة في أحيان كثيرة . وهو ما يجعل الجسد يشبه السجل الحميمي الذي يحوي أدق تواريخ إنسانه ومخزن أسراره : كيف تقيم الأنثى في الأنثى

دون

أن يـ طا يـ ر شعاع الأرض .

بعيدا عن التقسيم البصري لمفردة “يتطاير” ودلالة ذلك على روح الفعل في تشظي وانشطار الشيء الذي يتطاير ، يبقى سؤال حول دلالة “إقامة الأنثى في الأنثى” ، خاصة وأن مفردة “الأنثى” الأخيرة بالبنط الأسود للتمييز البصري، وذلك يحيل الى دلالات عد مدة منها أن احتمال الأنثى لأنوثتها العالية شيء يهز الأرض ويجعل شعاعها يتطاير ، خاصة حين تكون تلك الأنوثة غير مشبعة أو متحققة إنسانيا.

ومن ثم ينجرد هنا معنى “الاقامة ” الى دلالة القهر والسجن داخل الذات “الأنثى داخل الأنثى”.. هذا تأويل من تأويلات عديدة استوقفتني أمام هذه الجملة ، خاصة وقد أشرت الى أن الشاعرة لا تستطيع أحيانا أن تخرق التابو بشكل كامل ، فالواقع الثقافي والأعراف الاجتماعية لا تزال تحاكم الفن والشعر دون النظر الى ضرورة اختلافه وتطوره .

لا شك أن هناك معنى قصيا عميق الدلالة ، يشير الى جوهر انساني مدفوع بجنون لأن يتذوق صاحبه كل ما في شجرة الحياة من ثمار حتى البغيضة منها، وهو ما يؤكد اختلاف الذات الشعرية هنا وعدم جريها على التقليد أو الاتباع :

طفلة الجنون أنا

هوايتي

ابتكار قنديل لنهاري

ابتكار وهم

يحدق في عين الحقيقة .

أما في قصيدة «لوحة لا يتحملها الجدار” فاللوحة هي الأنوثة التي اكتملت صفاتها في امرأة ترى أن العالم “الجدار» لا يستطيع أن يتحمل جميع محاسنها دفعة واحدة ، وربما كان أقرب للدلالة إطلاق لفظ “جدار” دون تعريف ليدل على غير محدد، أي نكرة ، وهو ما قد يحيل الى الرجل رمزيا في اتساع المعنى:

الشعر ثوبي الملوكي

الكتفان واكران : واحد لليمامة

 وآخر للصقر الناعس

النهدان خميرة أسراري

الخصر كوكب يدور حول غزالة

 الساقان مدن ضاقت بمواعيد العشاق .

 يجدر بهذه النافذة أن تحتمل هذا اللهيب الأنثوي، وهو يطل منها، في حين لا يحتمل اللوحة أي جدار في العالم . الأمر الذي يذكرني بولادة بنت المستكفي ، الخليفة ، عاشقة ابن زيدون ، حين يأخذها الزهو وهي نرجسية لفتنتها وبهاء حسنها ، فتقول :

أنا والله أصلح للمعالي

أمشي مشيتي وأتيه تيها

 أمكن عاشقي من صحن خدي

وأمنح قبلتي من يشتهيها

وقيل إنها ، لم تكن تقول ذلك فحسب ، بل خطته مطرزا على ثوبها غير أن الأنوثة في ديوان “أنثى الماء” عصية رغم اتاحتها ، طقوسية ، مجنونة لا قيود من خارجها ، فهي التي تقيد ذاتها ، وتكبح جماحها وقتما شاءت ، فهي سيدة القصر، شعرها الطويل الليلكي ثوب يكسو نهار الجسد، هي الملكة والجواري أيضا.. أي جسد الماء، رغم فداحة بوحه بمكنون لهيبه ونعيم جناته إلا أنه ليس سائغا للشاربين . لا تتبع أمال موسى في هذا الديوان مدرسة شعرية ما في الكتابة ، فالقصائد متنوعة ، فيها تجريب في اللغة والتخييل ، تمتاح قدحا من معين الأساطير والجنون وتعب من مياه الآباء الرومانسيين أقداحا، وتصفو تارة أخرى لرؤاها الخاصة عبر نثرية رقيقة دافقة ، حين تتخلص القصيدة من ادعاء الحكمة والتلويح بعرافة ما، فتبتعد بذلك عن التبشيرية والنبوءة التي ليست ابنة الشعرية الحديثة أبدا، هنا فقط تسكن اللغة الخطابية ويهتاج الشعر بالداخل ، وتنضح القصيدة بحكمة طبيعية عمادها الصدق الفني الأكثر قدرة على الاضاءة أكثر من ألف عراف زاعق لا يكف عن إعلان معرفته بالغيب الى الدرجة التي تفسد مصداقية قدرته على الكشف أو الاضاءة في حين ترجو القصيدة عكس ذلك .

ومثال للهدوء والتأمل اللذين يفجران طاقة شعرية في روح الكتابة ، قصيدة بعنوان ” قصيدة عمودية ” وفيها تنجرد الدلالة النصية على “القديم » بمعناه الحياتي (الماضي) والمفاهيمي (التقليد) آخذة من تكرار “في البيت القديم » تكئة فنية تتكرر بين المقاطع لتسمح بتدفق الدلالة وتجددها:

في البيت القديم

أين تتكيء الجرة

لينساب الماء ممزوجا بالتسابيح

في البيت القديم

أنى دوت صرختي الأولى

أسوي تربة السلالة

لننام

أرواحا تتاخم أرواحا.
 
حسن خضر (كاتب من مصر)