أندريه بروتون في سيرته «الموضوعية» ومصادفاتها
حتى اليوم، ما زالت السيرة التقليدية تتنافس مع السيرة الروائية. في الأولى، تتعاقب طُرَفٌ وتفاصيلٌ مثيرة ضمن ترتيب زمني لا يبيّن ما هو نافر وفريد في الحياة المسرودة. في الثانية، يسعى واضعُها قبل أي شيء إلى خلب قارئه، فيضع فنّه السردي في خدمة سيكولوجيا الشخص الذي يخطّ له بورتريه، منمّقاً إياه إلى ما لا نهاية، من دون أن يبلغ النواة المشعّة لهذا الشخص. ولكن ماذا عن علاقة هذا الأخير بالزمن؟
في حالة الشاعر والناقد الفرنسي أندريه بروتون، تنقلب الأُطُر الزمنية وتتشابك، سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو تاريخية، ولا عجب في ذلك، فمؤسس الحركة السورّيالية لعب مع الزمن وتلاعب به، وحياته وكتاباته تفيض عن حدود كينونته التاريخية، بينما تهزأ المفاهيم التي ابتكرها وتقاسمها مع رفاقه، كالصدفة الموضوعية والزمن الذي لا خيط له والذكرى المتأتية من المستقبل، من التسلسل الزمني وفلسفة التاريخ. من هنا ضرورة إعادة كتابة سيرته على ضوء هذه الحقيقة. مهمة شاقّة ومثيرة اضطلع اخيراً بها الكاتب والفيلسوف الفرنسي بيار صبّاغ وكانت نتيجتها كتاباً رائعاً صدر حديثاً عن دار «جان ميشال بلاس» الباريسية تحت عنوان «أندريه بروتون، 1713 ـ 1966، قرونٌ من كريات ثلج».
أهمية هذه السيرة تكمن أولاً في حبكتها التي لا تحترم أي تسلسل زمني، وبالتالي في تشكيلها محاولة جريئة لفهم طريقة سير فكر بروتون إنطلاقاً من صُدَف حياته ولقاءاته. ولذلك، نراها تتّبع منهجاً جديداً يسمح بكشف «التدفّق الداخلي الثابت» للشعر بالمعنى الذي منحه هذا العبقري له. منهجٌ يقوم على تعاقُب مشاهد أو لقطات متعدّدة وفقاً لزمنية لا خيط موجّهاً لها، وتروي على أفضل وجه مغامراته الملحمية والشعرية والإيروسية والفلسفية، وأيضاً أحداثاً تاريخية تسبق حياته أو تليها، ولعب أبطالها دوراً مركزياً في إثراء هذه الحياة وإنضاج ثمارها.
الفصل الأول من الكتاب يعود بنا إلى مدينة نانت عام 1915 لكشف كم كان حاسماً وجوهرياً لقاء بروتون بالكاتب الغندور جاك فاشيه في هذه المدينة. لقـــاء شكّل الشـــرارة الأولــى التي أشعلت داخله حريق السورّيالية الذي لن ينطفئ، وجعلته يحدس به قبل حدوثه ويحاور مسبّبه طوال حياته، على رغم وضع فاشيه حدّاً لحياته عام 1919.
في الفصل الثاني، يصوّر صبّاغ العلاقة الفريدة التي جمعت بروتون بجورج باتاي منذ عام 1928، علاقة لم تحُل الاضرابات والمعارك الكثيرة التي تخلّلتها من دون اعتراف كل واحد منهما بالاحترام العميق الذي يكّنه للآخر، كما يتجلى ذلك خصوصاً في أفعال وتصريحات كلّ منهما في نهاية حياته. ولأنه لا يمكن كتابة سيرة صاحب «الحبّ المجنون» من دون التوقّف عند الثنائي الذي شكّله مع لويس أراغون، يستحضر صبّاغ في الفصل الثالث طبيعة هذه العلاقة المعقّدة التي يصفها بالحب من طرفٍ واحد، طرف أراغون الذي عشق بروتون إلى حد الولع، كاشفاً في هذا السياق غيرته من مكانة فاشيه في حياة صديقه وتفكيره، ولكن أيضاً طبيعة تواطؤهما الخصب الذي أنجب السورّيالية وثماراً لا تحصى داخل إطار هذه الحركة وخارجه. علاقة بقي أراغون وفيّاً لنكهتها وذكرياتها حتى النهاية واعتبر انتهائها عام 1932 «مأساة حياتي الكبرى».
وفي الفصل الرابع، يبيّن صبّاغ مدى تأثُّر بروتون بالشاعر لوتريامون، وتحديداً بـ «تيار البراءة» الذي يعبر قصائد هذا الأخير التي كتبها بعد «أناشيد مالدورور»، وبـ «الحقيقة الملائكية» للأفكار المسقَطة فيها على شكل أقوال مأثورة أو حِكَم أو «أفوريزم» تهزأ من الفكر التحليلي أو التوليفي أو الجدلي، وتقاوم ببداهة إشراقاتها أي اعتراض عليها. طريقة كتابة تبنّاها بروتون كلياً سواء في نصوصه الإبداعية أو النقدية.
وبعد فصلٍ حول الكتابة الآلية وعملية انبثاقها من المغامرة الكتابية التي خاضها بروتون وفيليب سوبو في كتاب «الحقول المغناطيسية» (1919)، يقفز صبّاغ بنا إلى عام 1940 الذي كتب بروتون فيه قصيدته الشهيرة «فاتا مورغانا» التي انزلق فيها تحت جلد الفيلسوف نيتشه والملك شارل السادس (المجنون)، وخلط عناصر من الحاضر بأشباح من الماضي من منطلق أن التاريخ محكوم بتكرار نفسه، وشخصياته محكومة بالعودة إلى ما لا نهاية.
ومن هذا المنطلق بالذات نفهم استحضار صبّاغ تاريخ 1713 في عنوان كتابه كما لو أنه تاريخ ولادة بروتون، في حين أنه تاريخ ولادة الفيلسوف الفرنسي ديدرو. فصاحب «الأواني المستطرَقة» لطالما عثر في هذا التاريخ على الحرفين الأولين من اسمه (17ndré 13reton)، وكلّما وقّع نصاً بهذين الحرفين، سعى إلى التدليل على خروجه من زمنه وولوجه زمناً آخر. ولفهم محرّك تنقّله داخل الزمن، لا بد من العودة إلى الصفحة الأولى من «مدخل إلى الخطاب حول هزالة الواقع» (1924) التي كتب بروتون فيها: «أبحث عن ذهب الزمن»، أي عمّا هو جوهري وثمين داخل كل حقبة زمنية مهما كان تاريخها.
لكن ما نعثر عليه سلفاً في هذا الكتاب من تحليلات وتأمّلات يبقى بذاته مثيراً وجديداً، سواء تعلّق الأمر بأهمية الدعابة السوداء في لغة بروتون وفكره وسلوكه وأهوائه، أو بقصّة المنحوتة الرومانية «غراديفا» ودورها في بلورته مفهوم المصادفة الموضعية وتفجيره مفهوم الزمن الخطوطي، أو بدور الحلم في تصوّره للفن السوريّالي، أو بـ «الحب المجنون» الذي اختبره مراراً وألهمه الكتاب الذي يحمل هذا العنوان وأجمل قصائده، وبالتالي بالنساء التي لعبت دوراً مهماً في إحدى مراحل حياته وتركت أثرها داخل نصوصه، مثل نادجا وجاكلين لامبا وخصوصاً سوزان موزار.
وفي هذا السياق، نشير إلى أن الصفحات التي رصدها صبّاغ للأحداث التي وقعت بين السابع والعاشر من كانون الثاني (يناير) 1925، حين كان بروتون يعمل على نصّ «مدخل إلى الخطاب حول هزالة الواقع»، أو لتلك التي تزامنت مع انتهائه من كتابة «نادجا عام 1927، كدخول الشابة نادجا إلى المصحّ العقلي، وقَطْعِ اندريه بروتون علاقته بزوجته ليز، ثم فراره مع عشيقته سوزان إلى مدينة تولون، هي من أفضل وأعمق ما كُتِب حول طبيعة شخصيته وقناعاته وطريقة تفكيره.
باختصار، كتاب يقترح علينا رؤيةً جديدة وغير مألوفة لبروتون الفنان، ومساراً مربكاً لبروتون الفارس والعاشق، وقراءةً مختلفة وثاقبة لبروتون الشاعر والمفكّر. كتابٌ نلهث داخله في تتبّع حيوات هذا العملاق التي لا تحصى، وفي القفز داخل الزمن للتعرّف إلى شخصيات وأحداث ونصوص تنير مسيرته العمودية وإنجازاته الفذّة.