هل فضيلة الشعر مقصورة علينا؟
فكرة راجت حتى يومنا هذا، تقول إن فن الشعر، موهبةً وصناعةً واكتسابًا، للعرب فقط وحدهم، وباقي القوميات ليس لهم حظ ولا نصيب فيه. إنها فكرة مبتسرة وتشي بعقلية متقوقعة التفكير ضيقة الأفق. وهي لا تدل إلا على جهالة وضحالة بثقافة الشعر وتاريخه. في كتاب الحيوان يقول الجاحظ: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب…» والحقيقة أنه ليس العرب وحدهم مطبوعين بالشعر. وفضيلة صناعته والإبداع فيه ليست مقتصرة عليهم، بل إن الأمم الأخرى كاليونانيين والسومريين والصينيين والمصريين والفرس والهنود أبدعوا نتاجات شعرية قبل العرب بقرون. فهوميروس على سبيل المثال لا الحصر كتب ملحمتين شعريتين خالدتين هما «الألياذة» و «الأوديسا» في القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد، بينما أقدم ما وصل إلينا من الشعر العربي (الشعر الجاهلي) يعود إلى القرن الخامس الميلادي في أبعد الاحتمالات. وفي حين لم تُترجم الملحمتان إلى اللغة العربية من اللغة الفرنسية إلا في القرن العشرين على يد سليمان البستاني؛ ما يعني أن غياب المعرفة بآفاق الشعر والأدب عند الآخر غير العربي ضاربة جذوره إلى حدّ يتعذر فهم حدود نتائجه على مستويي الوعي واللاوعي. وهذا ما قد يفسر جزءٍا ضئيلاً عن درجة قابلية الانفتاح على الآخر، شعريًا وثقافيًا، عبر الترجمة وتلاقح اللغات.
ينبغي علينا أن نكون منصفين اتجاه مسألة الشعر. أيُّ المجتمعات أكثر فهمًا واحترامًا وتقديرًا للشعر؟ هل نحن أعظم أمة في الشاعرية حقّا؟ أأعظمها في شعرنة الحياة والإنسان؟ فلننظر ما وصل إليه الآخرون، ولنلاحظ أنه ليس الأوروبيون وحدهم من تعززت ثقافة الشعر في حياتهم بصفته حركة اتجاه المستقبل، دورًا وفهمًا وترجمة وقراءة وذائقة، فهناك اليابان والصين والهند ودول أميركا اللاتينية وروسيا… الخ. وبؤرة التركيز هنا على مفهوم الشعر عندنا، ودوره، وعلاقته بالأنساق الثقافية والسياسية – الاجتماعية. لا يغرنا كثرة الشعراء عن تأمل المعوّقات المتصلبة والموانع الجوهرية التي تشوب الحركة الشعرية العربية هنا وهناك في الاتجاه نحو المستقبل. وثمة من يطلق عليه تخلفًا شعريًا رابطًا بينه وبين التخلف العام الذي يتخلل حركة الحياة عند العرب.
التضخُّم الكمِّي
ظاهرة التضخم الكمي للشعراء التي تملأ الفضاء العام على مختلف تجلياته ومستوياته الواقعية والافتراضية، في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والمحافل الإعلامية المتنوعة من فضائيات تلفزيونية وصحف مضافًا إليها المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، ليست بالضرورة دليل تقدم دور الشعر ومحوريته في راهن المجتمع العربي وأفراده. والنظرية السائدة القائلة بأن الزيادة في مستوى الكم تفرز مستوى نوعيًا، جذرها يشير، أغلب الظن، إلى سلوان وطمأنة اللاوعي الجماعي، والمتجذر بدوره في لاوعي الفرد العربي. آلاف الشعراء (هل نحن بحاجة إلى إحصائية دقيقة في هذا المجال؟) متناثرون في كل قطر عربي، وفي المهاجر الأوروبية وسواها. نسميهم شعراء دون أن نجد لهم ممارسة شعرية حقيقية باتجاه المستقبل لا الماضي. ثم إننا غالبًا لا نجد عند الشعوب الأخرى هذه العشوائية في الصحافة الثقافية والدوريات الأدبية، حيث تُنشر نصوص موغلة في التقليدية بجانب نصوص إبداعية حديثة. وهكذا ينتشر النشاز الخفي والظاهر في مفاصل أي نشاط ثقافي عربي، ويكفيك أن تنظر إلى برامج وأنشطة تلك المؤسسات، لتجد على سبيل المثال لا الحصر، محاضرة عن «شعر النثر» تليها في الأسبوع نفسه أمسية لشاعر يكتب وفق النمط التقليدي المتقعر والجاف جدًا. وما أكثر الأمسيات التي تنظم ويشارك بها من يلقي قصيدة مناسبات أو مدحيات مهلهلة اللغة ملأى بالتبجحات والمفاخرات الخاوية والتافهة، وبجانبهم شعراء حديثون في اللغة والرؤية الشعريتين. على رغم ضرورة الفصل والتفريق ما بين الحداثة وبين الإبداعية، كما يقول أدونيس: «لا يُقيّم الشعر بحداثته، بل بإبداعيته. إذ ليست كل حداثة إبداعًا. أمّا الإبداع، فهو أبديًّا، حديث». (راجع «بيان الحداثة» في كتاب أدونيس، فاتحة لنهاية القرن، ص340). لا بد من القول إن النشاز والارتجال والتخليط والتخبط في الحياة الثقافية فاحش ومستشر دون أي تنغيص أو تشويش من أي أحد، كما لو أننا واثقون أن ما من أحد في الحشد سيعترض. من هنا يختلط عندنا الشعري واللاشعري المتمظهر في الدين والسياسية والاقتصاد والاجتماع. والتحدي الماثل أمام الشاعر أن يميز بين الطريق الحقيقي للشعر وبين الطريق المزيف المزيّن بما تعضده الحشود وفقًا لميولها التي صاغتها المؤسسة، دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية، والتي توظف كل شيء، بما فيه الشعر، في سبيل ترسيخ سلطتها الأبدية، بالطريقة التي تراه هي فقط.
مفهوم الشعر
مفهوم الشعر ودوره عند غالبية هذه المؤسسات، جوهريًا، ينحصر في مسألة التوظيف له وجعله آلة في جبروت التحشيد والدعاية وطلب التأييد. بينما الشاعر بصفته ذاتًا متمايزة يعارض هذا التوظيف. يُعرّيه ويفضحه. المفهوم والدور هنا متمايزان ومختلفان كما هو حال هاته الذات الكاتبة. كل موهوب/ مشتغل بالشعر من حقه أن يخلق مفهومه الخاص، وتبعا لذلك تتحدد طبيعة الدور، شريطة أن لا يقع الشعر في هاوية تزويق الاستعباد ومداهنته، وبالتالي يصير نقيضًا لفعلَيْ التحرر والتحرير اللذين ينشبكان به. ثمة من يعتبر أن «الشعر تعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية، ويمكن لهذا المفهوم أن ينفع في معجم أو في كتاب تعليمي، أما نحن فيبدو لنا قليل الإقناع. فهناك شيء أكثر أهمية بكثير… شيء لا يشجعنا فقط على مواصلة تجريب الشعر، وإنما الاستمتاع به كذلك والإحساس بأننا نعرف كل شيء عنه». (راجع كتاب «صنعة الشعر»، بورخيس، ترجمة صالح علماني، ص31)، لأن اللغة الشعرية ليست تعبيرًا فقط، وإنما لغة خلق تعيد صياغة الواقع على نحو يتخطى أفق التوقعات وحاجزيْ الممكن والمستحيل. ومن هو قادر أن يخلق هذه اللغة غير الشاعر العاشق لها؟ يقول أنسي الحاج: «اللغة… إنه في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها. لغة الشاعر تجهل الاستقرار لأن عالمه كتلة طليعية. أجل. في كل شاعر مخترِعُ لغة…» (راجع مقدمة ديوان «لن» لأنسي الحاج، ص14).
فأين نجد مؤسسة عربية تهيئ الأرضية الخصبة لصنع اللغة المتجددة؟ على الأرجح لا يوجد. إننا مولعون فقط في البهارج والمسميات المفخمة، غير أنه لا شيء في العمق سوى الخواء. ندعي أننا أعظم أمة في كل شيء، وخاصة في الشعر. ولكن، هل يوجد لهذه الفكرة أسس نظرية وشواهد عملية، في التاريخ وفي الحاضر؟
لقراءة المقال من مصدره في موقع جريدة الوسط البحرينية:
http://www.alwasatnews.com/news/1238129.html