أُمراء من دون إمارة

عبدالله زهير – شاعر وكاتب بحريني

الوسط البحرينية

27 فبراير 2017-

 
 
 
 

قبل الخوض في آراء شعراء طليعيين بشأن هذا الموضوع، أحاول أن أتجنبَ التحامل في زعمي أن برنامج «أمير الشعراء» يشوه القيمة العميقة للشعر، ناهيك عن أنه يعطي مفهوماً تقليدياً مشوهاً للشعر بدل أن يساعد في تحديث المفهوم لدى الأجيال الطالعة في المجتمع العربي. هل معقول التعامل مع الشعر بهذه الطريقة الاستعراضية التي تحتذي برامج «الواقع» الاستهلاكية المنتشرة في الغرب كظاهرة مدموغة بالبُنية الرأسمالية الغالبة عليه. نحن لم نفعل أي شيء سوى نسخ هذه الظاهرة على أكثر من ميدان. وهي بلا شك نسخة أسوأ من الأصل. لم نكتف بهذا، بل نقلنا أجواء هذه الظاهرة المستغرقة في دفع الأفراد والمجتمعات نحو طلب الاشتهار والمجد الزائفَين إلى ميدان الثقافة عموماً، وإلى ميدان الشعر خصوصاً.

أسأل: هل هذا سيخدم الشعر أم هو على العكس سيُفسد أكثر مما سيُصلح ويطوّر؟ لستُ سلبياً في إبداء الرأي كيفما اتفق تجاه أي مشروع ثقافي هنا أو هناك. إلى درجة أنني لا أستعجل تقدير قيمة شيء ما أو التقليل من شأنه. أحلل الظواهر والأشياء على مهل وببطء شديد. لكن، هل البرنامج المذكور مشروع ذو رؤية ثقافية صافية، مجردة عن أيديولوجيات المصالح والامتيازات، بشتى تصانيفها الصريحة والمتوارية، التجارية والسياسية؟

لا أشكّك في النوايا، ولا أقلّل من شأن القائمين على هذا البرنامج، وخاصة الأساتذة النقاد في لجنة التحكيم المكرّرة في كل سنة، وفيهم من له دور مشهود في المساهمة النقدية والفكرية في تدعيم أسس مفاهيم الحداثة الشعرية العربية منذ منتصف القرن العشرين. في المقابل، من حقنا، شعراء ومثقفين، أن نجاهر بهواجسنا إزاء وضعية الشعر العربي ومآلاته، حاضراً ومستقبلاً. ذلك السحر الذي طالما كان شاغل العرب ومستقراً في المحل الأعلى من سلّم أولوياتهم، لا يمكن التعاطي معه بهذه الشكل المعولم الخاضع لموازين العرض والطلب والسوق الإعلامية المضادة أساساً لقيم الشعر الكبرى.

وقد يسألونك: من أنت لتقول ذلك؟ أنا الحدس والشعور والحقائق المعضودة بمواقف شعراء من رواد الحداثة الشعرية البارزين، فضلاً عن آراء شعراء موهوبين شاركوا في برنامج المسابقة. أليس من الحصافة أن نصغي لمن كانت حياتهم منذورة لهموم الشعر وأسئلته. وماذا يكون الشاعر إن لم يكن يهمه هذا العبث الجاري تعميمه على مجمل أوضاع الثقافة ووضع الشعر تحديداً؟ لا بد للشاعر أن يقتحم المناطق التي طال السكوت عنها (ضرورة تمزيق أستار المسكوت عنه في الشعر تتطلب الجرأة في فضح الاستغلال النفعي الظاهر والمبطن من الشعر)، وهذا يقع في صلب مهامه المعرفية.

وأنا أقرأ لائحة الشروط والأحكام المنظمة للاشتراك في مسابقة «أمير الشعراء»، تساءلتُ: هل هذه الشروط تتفق وما تطمح الحركة الشعرية العربية الحديثة للوصول إليه؟ وماذا بقي للشاعر من قول إذا كان لا يحق له أن يدلي بأي تصريح دون إذن مسبق من الجهة المنظمة؟ مسابقة للشعر العربي في القرن الواحد والعشرين لا تقبل قصيدة النثر؟ كيف يمكن ذلك، ولماذا؟ ما علاقته بالشعر ولغته مَن يضع هذه الشروط والأساليب المقيدة لحرية الشاعر التي هو الشرط الأساسي للذات الكاتبة؟ دُلّني على أمة تُهين أهم موروث حضاري لديها (تسمية «ديوان العرب» لها دلالة العمق الثقافي الذي يحمله الشعر بصفته محركاً نهضوياً لا غنى عنه لتحقيق الإنسان العربي لتطلعاته الكونية) كما نفعل نحن. أقل ما يقال عن هذه الشروط أنها شروط لا شعرية، ولا تشي بفهم حديث وجوهري لماهية الشعر؛ وبالتالي فهي مضادة له، كهذا الزمن الراهن المناقض في أغلب تفاصيله للزمن الشعري على حد وصف الشاعر والناقد محمد بنيس. وأقل ما يوصف به الفائزون في هكذا مسابقات أنهم أمراء بلا إمارة.

 

إمارة الشعر لا تتحقق باجتياز اختبارات ترتكز على مقاييس الصورة والتصويت المعتمَد من أشخاص معدودين أو من جمهور عريض لا يتوافر على الحد الأدنى من الثقافة الشعرية. وهذه المسابقة ليست الوحيدة التي تعتمد معايير من خارج الشعر. أغلب المسابقات في العالم العربي ذات معايير مرتبطة بالمؤسسة المنظمة لها، والتي بدورها تندغم ببُنيات نظام ثقافي اجتماعي-سياسي معين يضع المعوقات والحدود والقيود المنافية لكل انطلاقة طبيعية في فضاء القصيدة الفسيح. وكأن الأسيجة والمتعاليات والكوابح المتربصة بذات الشاعر في كل مكان ليست كافية، بل ثمة من يريد مضاعفتها على الحالة الإبداعية حتى في المشاريع الثقافية. قبل سنوات أتذكر أنني تأملتُ طويلاً في موقف أدونيس حين أبدى استياءه من البرنامج، بل دعا إلى مقاطعته كاملاً. وتساءلتُ ما الذي جعل شخصية كهذه (وهي من الشخصيات المؤثرة في مجال تحديث الحساسية الشعرية) تتخذ موقفاً متصلباً إزاء مشروع يبدو في ظاهره محفزاً لحضور وعي جمالي إزاء الشعر داخل تفاصيل الحياة العربية.

المشروع بطبيعة الحال يستخدم الهالة الرمزية التي أضْفُيتْ على الحفل الشهير لمبايعة الشاعر أحمد شوقي أميراً للشعراء (العام 1927)، وبالتالي فالبرنامج من خلال الاسم يدخل في إطار التقليد لهذا التنصيب الاحتفالي (الإمارة)، على رغم أن حفل الإمارة في تلك الفترة لم يكن تقليداً عربياً، بل هو يحمل طابعاً فرنسياً على الأرجح. إذن، التقليد هنا مُضاعف مرتين. ناهيك عن أن إمارة شوقي لم تكن ذات دلالة جذرية في الوعي النقدي، بقدر ما كانت تتخذ منحى تمجيدياً نجده منشبكاً بالخطاب الثقافي العربي في مجمله حتى هذه اللحظة. التتويج، هنا وهناك، وبلا أي مشروع لوعي جديد، لا يشكل تغييراً في النسق التقليدي الماضوي الذي يحاصرنا حتى في أمكنة يمكن أن نبدع في مناخاتها نتاجاً يُعتد به لو لم تكن هذه الأنساق حاضرة. ولا أدل على ذلك، أنه على رغم مرور تسعة أعوام على المسابقة، لا شاعر من الفائزين بالمراكز الأولى يكتب شعراً مؤثراً، بمعنى إنجاز فتوحات جديدة في لغة-بنية التعبير والرؤية الشعرية، لا مجرد ملء القوالب بسطور ميتة الوهج تنتهي بتقفيات مضجرة، إلى درجة أنْ أصبحت هذه الظاهرة تبعث على الأسى والإشفاق أكثر مما تثير الإعجاب والزهو.

ويمكن اعتبار غالبية التجارب هنا ظواهر إعلامية، لا ظواهر أدبية. ولربما مؤسسة المسابقة نفسها تتغيّا أن تكون ظاهرة إعلامية، أكثر مما تطمح إلى تحديث للوعي الشعري ولمصيره. لذا، فالمنصبّون هنا، أمراء بلا إمارة. الوصول إلى إمارة الشعر طريقه طويل يحتاج إلى ملكة طبيعية ومكتسبة في آن، تعضدها المعرفة العميقة والخبرة الطويلة في هندسة الشعر وبنائه. وهنا يأتي سؤال حول مدى تأثير لوثة «جنون-هوس الجوائز» في دفع أجيال من الشعراء نحو هاوية ما يريد الآخرون (جمهوراً ومؤسسات)، بدل أن يصعدوا إلى الذروة، ذروة ما يريد كل شاعر على حدة، بصفته ذاتاً منفردة مستقلة تكتب وجودَها وتطلعاتها بحرية كاملة، بعد أن تقرأ العوالم الشعرية، العربية والأجنبية، القديمة والحديثة، بغزارة وبانفتاح غير محدود.