التجريب لا يعني الكتابة باستسهال
العرب اللندنية زكي الصدير [نُشر في 2017/02/27، العدد: 10556، ص(15)]
- يقف التاريخ دائما إلى صف صائدي النصوص ومستلهمي الحكايات الذين يقتنصون المدى الهائل في صناعة تجربتهم الإبداعية. والشاعر البحريني عبدالله زهير واحد من أصحاب هذه التجارب الشعرية، التي اتكأت في اشتغالاتها على تكثيف ملحمي مجازي، مستعينة بالإرث التاريخي الكبير، خصوصا ذلك التاريخ المتصل بتشكّلات الواقع اليومي. “العرب” توقفت مع الشاعر في حوار حول تجربته الشعرية وحول بعض القضايا الأخرى.
أمام الشاعر مهمة صعبة (لوحة للفنان أنس سلامة)
أصدر الشاعر البحريني عبدالله زهير مؤخراً مجموعته الشعرية الثانية “الخروج من مدائن القيامة” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حاملة بين دفتيها نصوصا بعدّة مناخات شعرية مسكونة بهمّ اللحظة الوجودية التي قد تمرّ من بين أصابع الوقت دون أن يتنبّه لها سوى شاعر يتقن رصد الحالة الشعرية واصطيادها. وتأتي هذه المجموعة بعد مجموعته “قمر يتخلّق من مجهول” الصادرة في 2012.
تدوير المشهد
يؤمن زهير بأنه إذا كان اهتمام المبدع بالقراءة أضعاف اهتمامه بالكتابة فإن كتابته ستأتي جديدةً مكتنزةً بالتأمل المتأني وحصيلةَ ارتواء وشغف بالنص الإبداعي، عربياً وعالمياً. لهذا فهو مهتم بالدرجة الأولى بالقراءة بأشكالها المتنوعة، والانشغال بالشعر وبما يطور من مساحات الرؤية الشعرية وكذلك بما يُخصب فضاءات الورقة النصية والبصرية.
يلاحظ قارئ زهير مدى حضور السؤال الكوني الكبير من خلال عدة مشاهد يرسمها على مسرح الحياة، حيث يجمّد المشهد ويدوّره بين يديه، ثم يكتبه مجددا وفق ما يراه متخذا من المرأة رمزا أثناء بناء قصائده التي تذكرنا بيوميات الشاعر الألماني نوفاليس في أشعاره الشهيرة التي قالها مفجوعاً برحيل خطيبته المتوفاة مبكرا عن عمر خمسة عشر ربيعاً.
يقول ضيفنا عن مناخات “الخروج من مدائن القيامة” إنه “عمل شعري مرتكز على قصيدة طويلة داخله تحاول من خلال لغة الشعر والمخيلة والحلم أن تستكشف وتُسائل وتحاور الجذور العميقة للتراجيديا العبثية، بخاصة في الوقت الحاضر. بمعنى أنها تحاول أن تستبطن الأحداث الجارية على مسرح البلدان العربية، بطريقة كيانية وجودية تجريبية، تتجاوز البديهيات والهالات المقدسة والأطر الكلاسيكية السائدة”.
ويضيف الشاعر “القصيدة لا تعبر عن موقف نفسي أحادي أفقي، وإنما تخترق المشكلات عمودياً بالمعنى الفلسفي والفكري، وتتخذ مادتها من التجربة الحية والكلية، بالامتزاج بروح الطبيعة والعالم وروح الإنسانية على حد سواء. ولذا اجتهدت قدر ما استطعت في أن تتشكل الصورة الشعرية في بُنية النص بوصفها حصيلة للكثافة الشعورية، لا حصيلة للعلاقة بين الكلمات وتجاور بعضها لبعض. ولعلّي هنا أذكر في هذا المجال ما أشار له الفيلسوف سقراط ضمنياً، مرتكزاً على خبرته العملية، إذ رأى أن المتلقي للأشعار هو الأقدر على التحدث عنها من الشعراء أنفسهم”.
عبدالله زهير: لا بد للشاعر العربي اليوم أن يعمل على الاستفادة من تجارب الشعر في العالم
في مجموعته الأولى “قمر يتخلّق من مجهول” جرّب زهير أنماطا مختلفة من الكتابة الشعرية مختبرا شعره في قصيدة العمود والتفعيلة والنثر. بينما في المجموعة الثانية “الخروج من مدائن القيامة” اختار أن تكون تجربته نثرية بالكامل، وأستثني هنا نصين، وهما “مرايا الخراب” و”شقشقات”، المندرجان ضمن دائرة قصيدة التفعيلة. هذه الاشتغالات دفعتنا إلى سؤال زهير عن المنطقة التي اختارها، وهل مازالت مرحلة التجريب والاختبار قائمة في نصه، أم أن نمط الكتابة الشعرية قد تجاوزها.
علاقات جديدة
يقول الشاعر “مسألة التجريب ضرورية في الأجناس الأدبية بشتى أنواعها، ناهيك عن أن نظرية امّحاء الحدود بين هذه الأجناس جزء من آفاق التجريب التي يقترحها علينا الأدب الحديث. لكن على الجانب الآخر، التجريب لا يعني الكتابة باستسهال ساذج وبلا خبرة حياتية وقرائية، وبلا معرفة شعرية ولغوية بأسرار اللغة وتقنياتها المدهشة. أما بالنسبة إلى الجدلية المعروفة والسائدة حول أنماط الكتابة الشعرية من حيث النثر أو التفعيلة، فأعتقد أنه علينا تجاوزها، لأنها من جهة لم تعد ذات أهمية كبرى إلا في الكتابات النقدية بأشكالها المتعددة، وأحياناً قد أستغرب أننا لا نزال منذ أكثر من خمسين عاماً ندور في الدوامة المفرغة نفسها، ومن جهة ثانية، فإن أفق الكتابة هو أرحب من أن نسجن تجاربنا الوليدة في قفص السجال حول أيهما الأصلح؛ قصيدة النثر أم النص التفعيلي؟”.
في نصه الطويل المعنون بـ”الخروج من مدائن القيامة” نعانق الشاعر المخنوق الذي أراد أن يعلن نصه الوجودي الأخير قبل أن يغادر الخراب إلى مساحة جديدة من السلام. وكأن الشعر ناصية ليس لترميم العالم فحسب بل لترميم اللغة أيضاً. يعلّق شاعرنا “هو نص مفتوح على لانهائية الوجود، وليس نصاً أخيراً، إذ ‘ليس في الشعر ما هو نهائيّ‘ كما يقول أنسي الحاج. لا أعتقد أن من مهام النص الشعري أن يرمم ما يحتاج إلى جرف وإعادة بناء وصياغة. الشعر يحدس ويَعِد ويبني ويخلق علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء، بين الذات والآخر، بين الذات والكون. وهو بهذا المعنى يعيد خلق اللغة والعالم بشكل أبهى وأجمل”.
مناخات شعرية مسكونة بهمّ اللحظة الوجودية
يرى ضيفنا بأنه “لا بد للشاعر العربي اليوم أن يعمل على الاستفادة من تجارب الشعر في العالم، قديماً وحديثاً، وهي كثيرة وغنية ومتنوعة، ومن ضمنها القصيدة الملحمية الطويلة النفس والمتعددة الأصوات، المشبكة البنية والإيقاعات، ناهيك عن لزوم الاستفادة من ثورات الإنترنت والمعلومات التي تتقدم بصيرورة متسارعة، مما يدفعه إلى الذهاب أبعد وأبعد. من هنا، لا نستطيع أن نثبت قدرة الشعر ما لم نثبتْ قدرة الشعراء على توظيف كل هذه الإمكانات والطاقات المتاحة في صنع ثورتهم في الإيقاع واللغة والمضمون وسواها”.
ويتابع في ذات الشأن “إذن، الشعراء عليهم مسؤولية ثقيلة جدا إزاء المشهد الشعري الراهن، الذي هو جزء من المشهد الثقافي بوجه عام. لا يكفي أن نقول إن الشعر لا مقروئية له. من المفترض بالشاعرالحقيقي أن يبدأ بنفسه ويقرأ بشكل عميق وشغوف أكثر مما ينظّر ويكتب، بمعزل عن إشكالية العلاقة التواصلية بين القصيدة الجديدة وبين الجمهور؛ فهي تحتاج إلى دراسات وتمحيص وتفكيك من قبل النقاد والشعراء”. نتوقف مع عبدالله زهير بصفته عضواً في أسرة الأدباء والكتّاب البحرينيين التي عادت مؤخراً بدماء أدبية ثقافية جديدة.
يقول زهير “الأسرة كمؤسسة ثقافية أدبية ذات تاريخ متوهج منذ تأسيسها (سنة 1969) على يد البعض من المثقفين أغلبهم من الشعراء الذين ساهموا في تنشيط الحداثة الشعرية آنذاك، إبداعياً ونقدياً كقاسم حداد وعلوي الهاشمي وسواهما، حققت الأسرة تميّزاً ملحوظاً في الاشتغال على النصوص بروح دؤوبة عاشقة من خلال مشاريعها الأدبية الطموحة، وكانت مجلة ‘كلمات’ واحدة من المعطيات العميقة والجادة في هذا الشأن.
ومن الطبيعي أن يعتري عملها بين مرحلة وأخرى الكثير من الشروخ والمعوقات، ما يجعل أعضاءها منقسمين ومشتتين. غير أن السؤال الأهم: هل بإمكان هذه المؤسسة أن تؤدي دورها الأدبي والثقافي بنجاح، مركزةً اهتمامها على الجودة الفنية للكتابات الإبداعية بشتى المشاريع والأنشطة؟ بالتالي فإن دورها في لملمة شتات الشعراء والأدباء سيكون مندرجاً ضمن سياق دورها الأدبي في احتضان المبدعين وكتاباتهم، أياً تكن مواقفهم وانتماءاتهم”.