هاشم شفيق…عائداً إلى عراق السبعينات
كان من المفترض أن تشهد حقبة ما بعد 2003، عام الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط الدكتاتور في البلاد، عودة جماعية للمثقفين العراقيين المنفيين، عودة توازي تلك الغربة الكبرى وجغرافيا الشتات المتوزعة عبر عقود من المنفى وأجيال من الهاربين أو الباحثين عن وطن بديلٍ أو مستعار. لكنَّ الالتباس الذي وقع فيه أمر العراق بين هذه الثنائية: الاحتلال/ الدكتاتورية قلَّص إلى حدٍّ بعيد من زخم تلك العودة. فانحسرت العودة، بمعنى الإقامة، وامتدَّت الغربة على خريطة أخرى، ودخل المنفى في طور جديدٍ من أطواره.
وبين تعقيدات هذا الواقع الجديد، صرنا نلمس في السنوات اللاحقة لذلك التاريخ نوعاً جديداً، في المضمون، من الكتابة، ينطوي على بنية الخيبة والأسى والخذلان، بما يمكن أن نسمَّيها: كوابيس غلغامش العائد، فالباحث عن الخلود في مكان آخر في الملحمة الرافدينية القديمة، عاد أدراجه إلى المكان الأول خائباً، مُتقيناً أنَّ الحياة ينبغي أن تعاش كما هي، بين البيت والعائلة والشعر والحانة! بينما تبقى الكتابة عن تلك الرحلة، هي المجاز الوحيد الممكن للخلود، وليست تلك العشبة التي سرقتها الأفعى في الطريق خارج المدينة.
وهكذا ظهرت بعد ذلك التاريخ إرهاصات لكتابات من هذا النوع في الأدب العراقي، على شكل النثر بخاصة، تتجسد في سرديات استعادة، في امتناع العودة، بمعنى أنها تتواصل مع تلك الأجواء والمناخات المتغيرة، والأمكنة المندثرة، والشخوص الغائبين، عبر الكتابة الاستذكارية الاستعادية، بعد أن امتنعت العودة النهائية للمكان الأول، بل أنها غدت نوعاً من الغربة الداخلية المضافة. ومن هذه الكتب كتاب الشاعر العراقي هاشم شفيق «بغداد السبعينات/الشعر والمقاهي والحانات – دار المدى 2014»
في مدخل كأنه استهلال لسرد سيرة ذاتية واعترافات غير مسبوقة، يبدأ هاشم كتابه، من تلك اللحظة الشعرية الأولى التي تُوصف عادة بأنها برقٌ سماوي يحلُّ في كيان المولود الجديد، ليغدو معها شاعراً، وهي اللحظة التي أسهب الشعراء في الحديث عنها، بمشهدية لا تخلو من تمثيلات للعرفانيَّات الصوفية ممزوجة بتصور زائد الحد عن الذات عادة، أما هاشم فيتحدَّث عن ذلك البرق، في ولادة من نوع آخر. فذاكرته تبدو طبيعية ومعقولة في هذا المجال، فهي تبدأ من سنِّ المراهقة، وليس من اللحظة المنسية غير المعقولة أو غير المتذكرة في الولادة الرحمية.
«ثمة شيء مسَّني كشهاب صاعق وأنا في الرابعة عشرة، شيء هو خليط من التهويم والحلم، من السحر البدائي الشبيه بالفطرة، وأغاني الطفولة، حين مسَّني هذا الشيء الفتَّان، استسلمت له دون أن أعي سرَّه، أو أسبر غوره، هذا الشيء الذي خلخل كياني الغضَّ وأنا في الرابعة عشرة…». من هذا البرق السماويِّ العاصف، وهذه اللوثة، والمسِّ الميتافيزيقي، يولد الشاعر هاشم شفيق، ليمضي في تدوين ذكرياته عن الأمكنة والشعراء، والأصدقاء في «سيرة أدبية» تجتمع فيها لغة السارد وحياة الشاعر، يحاكي فيها التكوينات الأولى للوعي الشعري الشخصي، شعراء من شتى العصور، ساهموا بتكثيف هذا البرق الخاطف وإدامته في كيانه، فاستدرجه لحانات ومقاهٍ، مدن وأرصفة شتى، مسارح ودور سينما ومعارض، كتب ومجلات، في مدن قادته إليها بوصلة ذلك البرق، بهداية مَرةً، وبتيه وضلالٍ مرةً أُخرى.
وهكذا يدون ليالي بغداد في سبعيناتها المضيئة، قبل أن يحتدم الصراع بين البعثيين والشيوعيين، وصعود الدكتاتورية بما أفرزته من رعب وتضييق وتخفٍ، انتهى برحلة هروب لا تتوقف وكوابيس متصلة، تتغير الأسرَّة في العواصم المختلفة، ويبقى الكابوس يدور في ذلك المكان الأول. فهل كان فردوساً مفقوداً حقاً؟
من محلَّة «بغداد الجديدة» التي لم تعد كذلك! يبدأ فردوسه المفقود، فيتعرف أولاً على شاعرين أحدهما من أبناء الجيران والثاني من الزقاق الآخر في الحيّ: زاهر الجيزاني وخليل الأسدي. ثم تتسع الدائرة لتشمل شعراء آخرين، يثيرون الصخب في شوارع بغداد في الأعياد، وهم يرتدون الأقنعة ويعزفون القيثارات والنايات والطبول، ويعلِّقون في رقبة كلٍّ منهم لافتة تحمل كلمة: «poet» وسط استغراب المارَّة الذين لا يعرفون معنى تلك الكلمة المكتوبة بالإنكليزية، هكذا كانت بداية الرحلة، لينطلق مشوار الصداقات والتجوال بصيغة أخرى لا تعروها خلافات كثيرة، مع غالبية الشعراء العراقيين والعرب.
وفي ميل واضح نحو التوثيق باسترسال سلس وبسيط في السرد يطغى على التزويق والبلاغة، يروي جوانبَ من سيرته الأدبية بإطناب مفيد، وإن خرج أحياناً للإسهاب في مسارب أخرى، سيرة يختلط فيها السياسي بالشعري، والشخصي بالعام في سياق متصل زمنياً تارة، ومتداخل موضوعياً تارة أخرى.
وكمثل شعره بعنايته المعهودة بالتفاصيل، يأتي أطنابه في هذا الكتاب، ليقع على توضيحات وتفاصيل دقيقة، كأنَّ الذاكرة وهي تُستفز بفعل الهوة الزمنية بين لحظة الكتابة، والواقع العابر بسرعة تهدِّده بالاندثار. تحتجُّ بالتنقيب عن نثار الذهب، في عواصف الأيام، وترميم حطام الضوء في ركام الخراب، ومن هنا يخلق تلك البرهة ويستغرق فيها مستمتعاً شخصياً وممتعاً لقارئه الباحث عن تلك التفاصيل الدقيقة لزمن ندرت الشهادات والتدوينات بصدده.
واللافت في تدوينات تلك الذاكرة، تركيزها على حياة ما قبل المنفى، رغم أن الشاعر عاش النصف الأكبر من حياته خارج البلاد، ولعل في هذا التركيز، ما يعزز ما أشرتُ إليه من «استعادة» للماضي و«استعارته» في عودة مجازية بعدما أصبحت العودة الواقعية إليه غير متاحة.
تحولات الأمكنة، فناء معالمها القديمة، وتشكل معالم جديدة، دفعت بالشاعر إلى محاولة تأبيدها، أو أرشفتها في مشهد أو صورة بانورامية متحركة لتلك الأمكنة: الحانات والمقاهي، والشوارع، وكأنها فردوس مفقود، إنها كتابة تقترب من الإرث الطللي في الأدب العربي والشعر تحديداً، لأنها تستعيد تلك الأمكنة في الكتابة، بينما تقوضت جدرانها، وانفضَّ ندمانها وترحَّل سكانها، في غيابات شتى.
أنها سيرة أليفة مثل عنوان ديوانه الأول: «قصائد أليفة» يسردها بنكهة أقرب للشفاهية، أو في جلسة في مقهى أو حانة، بما يتناسب مع عنوان الكتاب، خالية من التزويقات البلاغية، والعبارات الفخمة، والحِكَم الْمُرسَلة! كما أنها لا تنطوي على نبرة الاعتراف، أو نزعة التهتَّك والفضائحية التي نصادفها في كتب السِيَر في الآداب الأجنبية في شكل خاص. لذلك قد تبدو الوقائع التي يتحدث عنها برَّانية ونمطية في شكل عام، وحياتية يومية معتادة للشعراء، لتواريخ عامة. فهي شهادة و«سيرة أدبية» تؤرِّخ للجماعة والمكان، أكثر من كونها تاريخاً للذات، «كانت بغداد تقول لنا: اقرأوا جيداً كي تعرفوني جيِّداً» ولذا تبدو الذات في مجمل فصول الكتاب هي الشاهد، وليس المشهد الذي يحتاج إلى محاورة داخلية، ومكاشفة جريئة.
حين يصف هاشم شفيق اللحظات الأخيرة لمغادرته البلاد، صحبة شاعر عراقي من جيل سابق «فوزي كريم» عبر المطار وبلا صعوبات واضحة، في سياق هجرة جماعية للمثقفين العراقيين، يُعلن عن فرحه بالخلاص، حالما يشعر أنَّ الطَّائرة تجتاز الأجواء العراقية نحو سماءً أخرى، فقد أصبح بعيداً عن قبضة الاستخبارات، والملاحقات المرعبة!