حسن نجمي: الشعر هبة حقيقية لمن يجد إِليه سبيلاً

349-1

2 أغسطس 2016

العربي الجديد

يحوز الشاعر المغربي حسن نجمي رتبة عالية في المشهد الشعري العربي. وتبدو قصائده على الدوام كما لو أنها مشرّعة، ومفتوحة صوب حديقة سحرية وسرية، نظرًا إلى كثافة الشغل فيها، وتلك البراعة في إخفاء حواملها ومصادرها، التي تمتح من ثقافة واسعة، ومن شغف بكل ما يمت للشعر من صلة. قصيدة نجمي بؤرة موسيقية، ملء العواطف والدأب.

* أرى أن في قصيدتك نوعاً من المصالحة، إن جاز التعبير، بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، فأنت تكتب قصيدة نثرية رقيقة غير متذمرة غير صارخة ومشغولة إلى أقصى حد.

مصالحة؟ ما من مصالحة، إِذ ليس هناك أي توتر أَصلاً في أفقي وفي جسدي. أكتب قصيدة نثر أَتطلع إِلى أن أحقق فيها قدراً من الصفاء والهدوء والنبرة الخافتة، وإِنِ استطعت أن أصل إلى درجة من التكثيف والتركيب. وشأن عددٍ من شعراء قصيدة النثر العربية الجدد الجيدين، وأفكر في سركون بولص الذي حضرتني صورته الآن، لا أكتب قصيدة نثر كرد فعلٍ على قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية. بالنسبة لسركون، ليست قصيدة النثر العربية مجرد كتابة تسعى إِلى تحقيق شعريتها عبْر التخفف من أعباء العروض أو نظام التفعيلة. هي ليست نوعاً من التعارض الوزني بل هي تعبير شعري جمالي، مختلف تماماً، عن حالة عميقة من مواجهتنا الكاملة مع عصرنا.

والواقع أن خياري الجمالي واضح. أنا مع قصيدة النثر وبداخلها تماماً، لكنني أَتعلم من الأشكال الشعرية كلها، ومن التعبيرات الفنية والجمالية والإِبداعية كلها. وأؤمن بأن قصيدة النثر العربية تمثل حالة ثقافية بل واقعة سوسيوثقافية ممتدة في الزمن وفي المكان، في النفوس وفي المخيلة العربية الجديدة.
صحيح، يحدث أن نتأَثر بالتجارب التفعيلية المرجعية التي نقرؤها ونصاحبها يومياً مثلما تتأثر هذه المرجعيات الشعرية الكبرى بشعراء قصيدة النثر في الساحة العربية والراحل محمود درويش لم يكن يخفي تفاعله المتبادل مع الشعراء الشباب. إِن الشاعر الكبير الحقيقي، لا يمكنه أن ينأى بنفسه عن التطورات الهائلة التي أنجزتها الأجيال الشعرية الجديدة، وإِلا سيتحجر وينطفئ ويتوقف ماؤه عن الجريان.

* تعتني إلى حد كبير بجمال الأصوات وتناغم الحروف واستعمال المفردات بطريقة دقيقة (كدأب شعراء التفعيلة) ولعل الوزن يحتم ذلك عليهم. لكن، لا نجد ذلك في قصيدة النثر “تعالي المعي كدمعة” أو “شجر سامق يتعانق كالعشاق”.

ذلك لأَنني أكتب وأنا أسمع أذني أَصوات كلماتي. ثم إِنني أحب الغناء ولي شغف عميق بالموسيقات الكونية. لا أثق كثيراً في الكلمات الميتة الخامدة التي تملأ المعاجم العربية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وإِنما أجد نفسي في الكلمة البسيطة العادية التي يمكنها أن تغير شيئاً ما في داخلي، أو تخلق لدي حالة موسيقية. عموماً، أكتب جل قصائدي عبر امتداد شذري ومحاولات متفرقة من التشظي، وذلك في شكل صور وجمل صغيرة، وأحياناً كلمات وحيدة عزلاء تتحول لاحقاً – حين أجلس لأجمع الأَشلاء والشذرات والشظايا – إِلى أركان لا محيد عنها في البناء والتركيب. وعندما تبقى بعض هذه الكلمات خارج هذه القصيدة أو تلك، أَشعر بحزنها وعزلتها، وأظل محتفظاً بها في أوراقي إِلى أَن تجد لنفسها مخرجاً أو أفقاً. وأذكر أن أمراً كهذا تحدث عنه يانيس ريتسوس في قصيدته الشذرية الطويلة “فوق حبل”. كما كتب سركون بولص مرة: “أَكتب كلمة واحدة في دفتري، وأغلقه. حركة تكفي لكي تتغير الدنيا”.

بهذه الصيغة في الكتابة، أصبحت أكتب ببطء أكثر. لم أعد أملك القدرة التي كانت لدي – عندما كنت صحافياً في صحيفة يسارية متوترة المناخ والأفق واللغة والخيارات – على كتابة حثيثة السير. في تلك الأيام، كنت أذهب للبحث عن القصائد وعن السبل الممكنة لاختراع قصائدي. اليوم، أصبح أمري غريباً، إِذ أكتب القليل وأؤمن مع يان سكاسل بأن الشعراء لا يخترعون القصائد وإِنما هي في كل مكان، عليهم فحسب الكشف عنها. كأنه أصبح علي أن أرفع حجراً وأخرج النبتة المطمورة. وبعد ذلك، يبدأ العمل الحقيقي على تلك اللقيات في ورشة الكتابة الشخصية. أكتب وأعيد، أكتب وأعدل، أكتب وأمحو، أكتب وأغير مواقع الأسطر الشعرية والكلمات. وبالتالي، لتكتمل قصيدة تتحصل لدي خرائط ملونة من الكلمات والجمل والمقاطع والتشطيبات، كأنها خطاطات فنان تشكيلي يرسم ويصور لا شاعراً يكتب ويلعب في حدائق التلفظ السرية.

أصبحت أحب هذه الخطاطات، خصوصاً حين تنبثق عنها قصائد تبدو لي جيدة. كأنها استعارة عن حالة الشاعر (في إحدى قصائد أبولينير، إن لم تخني ذاكرتي) الذي يعود في المساء إلى البيت، فتتوزع أَطرافه على الغرف، ساق هنا وساق هناك، وذراع في هذه الغرفة وأخرى في غرفة مجاورة، والجذع والرأس وكل جارحة من جسده تتفرق، وفي الصباح تلتئم الأَطراف والجوارح من جديد فينهض الرجل ويمضي إلى عمله.

* أنت من الشعراء المغاربة الذين لهم اهتمام وعناية خاصان بالنساء في القصيدة، لكأنك ما يشبه نزار قباني المغربي، إذ ثمة غزل وقصائد حب وأيضاً ثمة قصائد على لسان المرأة.

عندما لا أستطيع استدعاء المرأة إِلى القصيدة بطريقة غيرية، لسبب تقني أو جمالي، يتماهى صوتانا معاً، صوتها وصوتي، فأتحدث باسمها وأدعها تمثلني. أحس في هذه الحالة كأنني أقلد صوت المرأة بدون أن أزيفها.
يصعب القول إِنني قريب من الأفق الواسع المتخصص الذي رسمه الشاعر العربي الكبير نزار قباني للمرأة العربية وهي تواجه داخل قصيدته، الحالة البطريركية السائبة التي سادت طويلاً ولعلها تنحسر الآن إِلى حد ما في بعض أقطارنا العربية. لكن الأَمر يتعلق في قصيدتي بحالة شعرية من قبيل “ما لا يؤَنث لا يعول عليه”، وهي حالة تأتي وتمضي حسب كيمياء وسياقات الكتابة والمزاج، وحسب تيمات النصوص أَيضاً.

أظن أن الشاعر، عندما تعوزه الحالة الغيرية التي توفرها الكتابة السردية للقاص والروائي والسينمائي والمسرحي، يبدأ مساراً من الدوران حول نفسه فيحتاج إِلى استعمال للأصوات الأخرى، وإِلى تقنية الأقنعة التي سادت لدى عدد وافر من الشعراء العرب مثل أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش مثلًا، وخصوصاً لدى شعراء جيل السبعينيات في القصيدة العربية المعاصرة في المغرب الذين استعملوا أقنعة الاحتجاج السياسي (المهدي بن بركة، عبد الكريم الخطابي، عمر بن جلون، وأنجيلا ديفيس، تشي غيفارا..)

علي أن أضيف أيضاً بأن هناك دائماً امرأة ما تهمس في أذني لأحرر صوتها. وفي كل مرة، أحاول تدوين هذا الصوت المنفلت ولا أدركه، فأعاود الكرة من جديد دونما توقف. صوت المرأة لا يستنفد أَبداً. وقد سئل إِدواردو غاليانو، كاتب الأوروغواي الكبير الذي غادرنا مؤخراً، عما قالته عنه الروائية ساندرا سيسنيروس من أنه “يكتب كامرأة”، فقال إِنه حين قرأ ذلك، لم يضحك أو يبتسم أو ما إِلى ذلك بل اعتبر ذلك مديحاً.

إِنها شعرية الأَنا، وإِن شئتِ “الأنا الذكورية”، حين تشعر بنقصها الخاص فتتحرك في اتجاه شعرية الآخر، آخرها الناعم الأَنيق الجميل العميق المؤثر. وكما لاحظتِ ربما فإِن قصائد الحب هذه، خصوصاً في مجموعاتي الشعرية “المستحمات”، “على انفراد” و”أذىً كالحب” ليست قصائد غزل، بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي تجربة كتابة إِيروتيكية بالمعنى العميق للإيروتيكا، أي باعتبارها لعباً واحتفاء بالجسد الأنثوي في حالات عريه المندس في الظل، الإِيروتيكا بوصفها تعبيراً عن جرح عاطفي، عن توقف أو انقطاع في المجاسدة.

مؤخراً ترجمت عن الفرنسية كتاباً صغيراً للكاتب الفرنسي إِيمانويل هوكار “تأملات فوتوغرافية في فكرة العري البسيطة”، وازددت اقتناعاً بأَن العري لا يحيل بالضرورة على الحالة الجنسية أو البورنوغرافية (كما يمكن أن نلمس ذلك لدى نزار قباني مثلاً وهو ما يرفضه بعض نقاده)، وإِنما هو عري بَدَهي، لا يكاد يعلن عن نفسه، لا يقول شيئاً ولا ينْقَال بل ويبدو غريباً عن اللغة. عري عابر كغمامة أو كفراغ، لحظي بلا بداية ولا نهاية، تقريباً لازَمَني. عري لا موضوع له، ولا يندرج ضمن تاريخ ما، وهو من قبل ومن بعد عري مؤنث.
بهذا المعنى، فإِن هذا العري في القصيدة يبقى عرياً فوتوغرافياً يمنح نفسه للنظر فحسب، لا يلمس، لا يخترق جنسياً، وبالتالي لا يُسترخص معه الوضع الاعتباري للمرأة ولا كرامة المؤنث. من ثم، فإِن هذا العري، كما يؤكد هوكار، اختبار للعزلة، والانفعال الذي يوقظه أبدي. كما أَنه لا يحيل إِلا على نفسه، تماماً كما لا تحيل القصيدة إِلا على ذاتها.

بهذا المعنى أيضاً، فإِن قصيدتي عارية ونساؤها عاريات على الدوام. لكنهن لا يمنحن جسومهن لغرباء، لأن عريهن لا مرئي، ولأن نرسيس (وهنا عمق السؤال الذي طرحتِهِ) لكي يرى نفسه، كان في حاجة إِلى انعكاس صورة وجهه في الماء فأرجعه الماء إِليه.

* أنت أيضاً شاعر تستعمل باستمرار تقنية، هي وجود المخاطب، لدينا مخاطب؛ لكأنه قرين، شاعر، صورة أخرى، “ند”. أريد فهم هذه الحالة، ومنها أريد أن أعرف كيف تنظر أنت كشاعر إلى نفسك؟ لعلها أيضاً “التجربة التي تتحدث عن الذات فيما هي تتحدث عن الآخرين”.

بخصوص صيغة المخَاطَب في كتابتي الشعرية فهي في نظري متعددة الأبعاد والإِمكانيات. هناك طبعاً ما أَشَرْتِ إِليه من أنني أَتحدث عن الذات فيما أَتحدث عن الآخر الذي أخاطبه حين أعثر فيه على نفسي وأجد لديه ما يُمثِّلني. ولكنَّ هناك أبعاداً أخرى بالطبع، تشيرين إِلى بعضها في السؤال على كل حال، ولهذا، أريد أن أعرض حالاتي كاملة بهذا الخصوص، على الأَقل كما أَفهم الأمر.

هناك مخاطب غير حقيقي توظف القصيدة تقنية “الأنتَ الأسلوبي” (le tu stylistique) حيث أنتَ لا تعني أنتَ بالضرورة كما نجد أمثلة عن ذلك في الكثير من قصائد رونيه شار وفرنسيس بونج وهنري ميشو، وإنما (الأنت) هنا تتحدث عن الذات، الشاعر يخاطب نفسه ولا يخاطب أحداً آخر. هذه صيغة مطروقة وشائعة في الشعر العربي القديم وفي الشعر الإنساني. ثم هناك المخاطَب الذي يحضر في القصيدة عند اللحظة التي يرفض فيها الشاعر الذات، فيقوم بإِخراجها ليتحدث معها كآخر. كأنني أُخرج من داخلي الشخص الذي كنته وأصبحت أرفضه في سياق جديد مختلف، لأدخل معه في حوار فيما يشبه حواراً عبر المرآة المعلقة على الجدار في غرفة القصيدة. وفي ذلك ربما تعبير واضح عن نقد ذاتي لتجربتي السياسية المصابة بالعطب والمثقلة بالخيبات، نقد للانتساب الحزبي عندما يكون رديئا في الساحة العربية، وللخيارات المترددة التي خضتها بدون حسم أو بدون وعي نقدي كاف أو ما شابه ذلك.

وهناك هذا الجانب الرائع في صيغة المخاطَب، غير المؤلمة إِن شئتِ، وهو إِمكانية التخفف من الرقابة الذاتية في نوع من الحصول على إِذْن شعري، جمالي ولغوي، لأتحدث في الآن نفسه بضمير مستتر أو بضمير المخاطب مستمتعاً بحالة عجيبة من التلذذ توفرها المسافة مع الذات أو توفرها مضاعفة الذات أَيضاً، بل وتوفرها حالة المحو أحياناً التي تطول الأَنا فلا تبقى إِلاَّ (الأَنْت Le Tu) وحدها كأنك تخرج (ها أنا أستعمل المخاطب تلقائياً، الآن) من جسدك وتدعه وحده فوق خشبة المسرح يواصل دوره.

للأسف، لا أتوفر دائماً على القدرة الخلاقة على محو نفسي تماماً لكي لا تبقى سوى الكتابة البيضاء وحدها التي تحدث عنها رولان بارت في “الدرجة الصفر”. يحتاج هذا المحو إِلى طاقة تحمل هائلة، إِلى خزان من العدم الباطني المحجوب الذي يتوفر عليه كل شاعر حقيقي. ينبغي أن نرتقي إِلى درجة عالية جداً من السمو والصفاء والتقلل من الذات مثل ذلك الذي حققه شعراء وكتاب كبار من أمثال صمويل بيكيتْ وريلكه، وبالأخص فرناندو بيسوا الشاعر الوحيد في العالم الذي لم يقم فقط بمحو ذاته متنازلاً لمخاطَب واحد يمثله في مقابلة المرآة، بل كان الشاعر الوحيد في العالم الذي لم يُوجد أبداً. أعني أنه تخلى عن وجوده، وحتى عن نصوصه لأشخاص آخرين اختلقهم، وشيد لهم هويات، ومنحهم أسماء (ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألفادوري كامبوس)، وميزهم بصفات وميزات، وخص كل واحد منهم بأسلوب خاص به، ومنحه توقيعاً لا يشبه توقيع الشاعر ولا توقيعات الأنداد الآخرين. بمعنى، أن بيسوا تخطى مجرد التنازل لمخاطب أو مخاطبين بل وفر لنفسه حيوات متعددة، حيوات أخرى رآها ممكنة فعاشها متخليًا عن نفسه. ومن ثم خلق أسطورته وعاشها قبل أن يجعلنا نعيشها بعد انصرافه.

* قصيدتك قصيدة عين بالدرجة الأولى، أنت شغوف بالمشهد والمكان، حاسة البصر هي الأقوى في قصيدتك، قصيدتك بصرية.

هذه ملاحظة صحيحة، فقد دأبت دائماً على عد العين حاسة المعرفة الشعرية والجمالية بامتياز. قلت ذلك مراراً، وكتبته مراراً، ولي اقتناع جوهري بأهمية الاشتغال على العناصر البصرية والتقلل من اللغة ما أمكن، أَقصد أن على الشاعر، خصوصاً الشاعر الذي يكتب ما يسمى بقصيدة النثر – وهي تسمية قاصرة ورديئة -، أن يتخفف من ترهل اللغة وتورمها بالأحرى.
لقد نجح صمويل بيكيت مثلاً في تحقيق نتائج أدبية باهرة باختزال اللغة إلى أَبعد مدى ممكن، بل اعتمد الحد الأدنى الضروري من العناصر البصرية. مضى بعيداً وعميقاً إلى درجة أصبح معها يكتب بحبر سري نادر اسمه الصمت. بمعنى ما، هذا نموذج من نماذج كونية يمكننا تمثلها وتعلمها في كتابة القصيدة العربية الجديدة. أظن أن هناك شعراء عرباً حققوا قدْراً كبيراً من هذا الرهان الصعب، وأفكر هنا مثلاً في بعض الأعمال الشعرية لسركون بولص، ووديع سعادة، وصلاح فائق، وبسام حجار، وعقل العويط، وبول شاوول، وغيرهم الكثير على سبيل التمثيل فحسب لا الحصر. هنا إِذن، في هذا الغور البعيد، في هذا المرتَقَى من الصمت يمكن للقصيدة العربية ولقصيدة النثر العربية تحديداً أن تعثر على إيقاعها الخاص وموسيقيتها البديلة.

أهتم كثيراً بالمكان والمشهد الحضري والمنظر الطبيعي، وبالطبيعة الصامتة كما يسميها التشكيليون، أي بالفضاء على العموم، وإِن بدأ التقدم في السن يعيدني إلى سؤال الزمن وأفق الموت. وقد دافعت دائماً عن أهمية تخاطُب الشعري والتشكيلي، خصوصاً في التجربة الشعرية المغربية المعاصرة – ولست وحدي في ذلك على كل حال-. والرهان هنا على الصورة، وإِيقاع الصورة أَساساً: كيف يتخيل الشاعر صوره بصرياً، سواء من خلال ما يراه مباشرة أو يراه ممثلاً أَمامه أو يظن أنه يراه أو يحلم به أو يتذكره أو يُحكى له؟ كيف يمكن استثمار البعد البصري الذي يسبق كتابة القصيدة أو يكون متزامنًا معها (وهذه حالتي في عدد وافر من قصائدي. هل بكتابة الصورة البصرية عبر استرجاعها كحالة إيڤ بونفوا في الشعرية الفرنسية مثلاً؟ أو من خلال وصفها مباشرة مثل حالة الشاعر الفرنسي غيللفيك والكاتب الشاعر جورج بيريك مثلاً عبر التدوين الفوري للمشاهدات.

إِنها عملية مزدوجة تحدث عنها مطولاً إِيتالو كالڤينو في محاضرته الرابعة عن الرؤية ضمن كتاب محاضراته (الدروس الأمريكية: ست مقترحات للألفية المقبلة Lezioni Americane)، أي أن تنطلق من الكلمة للوصول إلى الصورة البصرية أو تأتي من الصورة البصرية إِلى التعبير بالكلمة. “سينما العقل”، كما سماها كالڤينو، التي توجد في داخلنا، وتحتاج بدورها إِلى كتابة وإِخراج ومونتاج.

* الشعر والسفر عالمان متناغمان، سواءٌ أكان السفر واقعاً أم مجازاً. هل أثّرت أسفارك في قصيدتك؟

بالتأكيد، عندما تكتب قصيدة نثر ولا تجد في يدك عكازة العروض أو التفعيلة التي تخليتَ عنها، فإنك تحتاج إلى محفزات أخرى بديلة كأن تشاهد كثيراً من الأمكنة والمدن والجغرافيات المدهشة، وتسمع كثيراً من الموسيقى، وتتأمل الكثير من اللوحات وأعمال النحت والحفر والمعمار والفوتوغرافيا، وتغسل عينيك بالمشاهد والمناظر والوجوه والأَجساد المنحوتة الحية وكل مشتقات (الله) الفاتنة. السفر هنا يوفر للشعر سعة رحبة من الإِمكانيات. إنه هبة حقيقية لمن يجد إِليه سبيلاً.

أذكر دائماً وصية ثمينة للأسف لم أعمل بها. فحين هيأت مجموعتي الشعرية الأولى وأَرسلتها إلى الشاعر الأستاذ محمد بنيس، وكنت ما أزال تلميذاً في الصف الثانوي، لاحظ إِصراري على نشرها رغم إبداء تحفظ ناعم كاتم الصوت من جانبه، فبعث إلي رسالة كريمة اقترح فيها أَنْ يساعدني على النشر. ومما قاله لي بالخصوص، آنذاك، “نشر مجموعتك يتطلب حوالي أربعة آلاف وخمسمائة درهم (450 دولار تقريباً) وأنا مستعد للتوسط لدى المطبعي الذي ينشر مجلة “الثقافة الجديدة”. ولكن، لماذا لا تؤجل موضوع النشر؟ ثم تحاول تقسيم هذا المبلغ إلى ثلاثة أجزاء: جزء إِشتر به دواوين شعرية عربية قديمة، وجزء خصصه لاقتناء دواوين شعرية فرنسية، والجزء الثالث والأخير سافر به”. وأضاف ناصحاً: “لقد قلت هذا الكلام لصديقنا الشاعر (فلان) – وذكر الإسم –، لكنه لم يسمعني ونشر كتابه، فمن قرأه؟”.

إِنها نصيحة صدوق حقاً كانت تتغيّا فتح عيني الشاعر الناشئ الذي كنتُه على أهمية تأصيل لغتي الشعرية بالعربية وإِضاءة الجذور، والانفتاح على جغرافيات شعرية مختلفة من خلال توسط لغوي مغاير، والخروج من القوقعة المحلية إِلى العالم لأرى وأكتشف وأغسل نظرتي قليلاً. واكتفيت بغير قليل من الادعاء الطفولي بأنني أريد أن أنشر ديواني الشعري “لأضع قطيعة مع مرحلة وأنتقل إلى أخرى” كما لو أن “القطائع” سهلة ومطروحة في الطريق العام.

* كيف اهتديت إلى لغتك الشعرية؟ واهتديت إلى جماليات “البصري” فيها؟

في الواقع، لقد وجدتُ نفسي دائماً أمام خيارين في علاقتي بلغة الكتابة الشعرية: من جهة، فضفاضة نوعاً ما، أدرك أن الشعر أساساً اشتغال على اللغة وإِبداع باللغة. وبالتالي. فإِن اللغة تمثل النواة المركزية في كل عملية شعرية. فبدون لغة ليس هناك شعر. ومن جهة أخرى، سعيتُ دائماً إلى أن أحمل إلى القصيدة ما أعثر عليه من صور خارج اللغة، في ما أشاهده وأسمعه وألمسه وأتذوقه. وأثناء هذه الحركة الحسية والحدْسية من خارج القصيدة إلى داخلها، من مادتها الأولى (الخام) التي ألتقطها وأتصيدها جسدياً إلى مصفاة اللغة، أحرص بوعي وحساسية كامنين على استبعاد كل كلمة ميتة أو متورمة، وكل تعبير جاهز مسكوك، وكل مصطلح لا يقبل به منطق الشعر. كما أن لي عادة تجنب بعض الكلمات التي لها حمولة دينية أو تقليدية أو ابتُذلت من كثرة الاستعمال. فمثلًا بدلاً من كلمة “نور” أستعمل دائماً كلمة “ضوء”.

في الاتجاه نفسه، أحرص دائماً على نوع من الاختزال أو التكثيف اللغوي الذي تعلمته من شعراء كبار أمثال الفرنسيين فرنسيس بونج ويوجين غيللفيك، والشاعر الإيطالي جيوزيبي أونغاريتي، واليوناني يانيس ريتسوس، ومن قصيدة الهايكو، وطبعاً اهتممت في الشعرية العربية المعاصرة بتقشف سعدي يوسف أو ما يسميه هو نفسه باللغة المادية. لا أعرف لماذا أتهيب من اللغة التي تأخذني إلى الميتافيزيقا الشعرية، ولا لماذا يظل الحضور النصي بالنسبة إلي، حضوراً في الفضاء اليومي ومن خلاله. وفي كل الأحوال، أنا شاعر أعيش في المدينة لا في صحراء، فالأَثر الذي أراه يومياً حضري بامتياز وليس رسماً على رمل ساخن.

ما يهمني أساساً في اللغة هو أن تسمي الأشياء والأفعال في الإنجاز النصي. ورغم إِدراكي العميق أن كل فعل لغوي في القصيدة لا بد أن يصدر عن نسب معرفي معين وعن خلفية فكرية، فإِنني أكتب قصائدي بالكلمات الصديقة التي أحس بها وأحبها وأَثق في ذاكرتها وفي مجهولها. لم أشعر بالحاجة إلى العروج بلغتي إِلى مناطق تعال أو سمو ما، وفي الآن نفسه أحرص أَلا تنجر بالمعنى الشعري إِلى منحدرات المعنى التداولي الذي تحفل به لغات الإِعلام والسياسة والممارسات والتعبيرات النفعية جميعاً.

* لا يُسأل الروائي عن آبائه الروائيين، لكننا نسأل الشاعر باستمرار عن آبائه الشعريين، من آباؤك الشعريون؟

ولم لا؟ حتى الروائي يسأل عن آبائه الروائيين. خلف غارسيا ماركيز مثلاً هناك فوكنر وهيمنغواي، وخلف بول أوستير هناك بورخيس، وهكذا. اليوم، كلما قرأت روائياً عربياً جديداً عثرت على ظلال لروائيين عالميين. لا أريد أن أسمي أحداً، لكن هناك من وراءه كافكا، ومن وراءه سڤيڤو، ومن وراءه ميوزل أو بروست أو جويس. وبورخيس يسكننا جميعاً شاعراً وسارداً، لأن المتاهة تسكننا، والمكتبة تجتاح أجسادنا.
شخصياً، قضيت وقتاً طويلاً كي أمتلك صوتي الخاص. ولكن لا أستطيع التخلص من لغات الآخرين في لغتي، أي من المرجعيات الكبرى. الشاعر، أي شاعر، أو الروائي حين يكتب عملاً، يكتبه داخل تاريخ كوني للكتابة. وعليه أن يسعى دائماً إلى تأكيد صوته ولغته الخاصين. لا ينبغي أن يكرر الآخرين، لكن من حقه أنْ يكونهم – بمعنى أو بآخر – عندما يكونون معالم كبرى في مسار الأدب الإِنساني. عندما تجعل الرواة متعددين في روايتك، يتذكر القراء الكبار فولكنر. وعندما تكتب رواية كاملة كمونولوغ ممتد، سيتذكرون جويس. وعندما نكتب شعراً أو سرداً باستثمار استعارة الإنسان – المتاهة، بسرعة يتذكر قراؤنا النبهاءُ بورخيس وبيسوا وكافكا وسڤيڤو وميوزل.

يمكن العثور في ذاكرة كتاباتي على ظلال وآثار من غيللڤيك وريتسوس وسيفريس ونيرودا وإيڤان بلاتني ووالاس ستيفنس وأونغاريتي وفليب جاكوتي وأنا أخماتوڤا وبورخيس وسعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش.. وآخرين. ربما، ليس الشعر غير هذا التعدد في الأَنوات داخل أنا الشاعر. إِن العالم ثري بدرجة لا تستطيع صيغة واحدة للكتابة أو للحياة أن تستوعبه. العالم بعيد أَيضاً أبعد مما قد نتصور من حيث لا يمكن لنظرة واحدة أن تراه أو تحيط به. وبالتالي، فالذين نحبهم لا يمكننا أن نضعهم طوال الوقت بين هلالين. ومفهوم التناص رسم الحدود، وشرعن آليات الامتصاص والتضمين والاستشهاد والحوار.

* قلت مرة إنك تريد أن “تجعل من الدهشة صيغة للعبور نحو الآخر”، وهذا صحيح، قصيدتك مفاجئة ومدهشة وطازجة. ما التقنيات التي تتوسلها لذلك، هل الصدق إحداها؟

كل التقنيات الممكنة التي قد تسعفني على خلق لحظة شعرية مدهشة. قصيدة النثر في حاجة دائمة إلى عنصر المفاجأة والإِدهاش، خصوصاً عندما ننجح في التدرج بالعناصر إلى أن نصل لحظة الذروة فنخبط بقبضة اليد على الطاولة. وهذا يقتضي نوعاً من التمرين على ترتيب الكلمات، والجمل، والأسطر الشعرية لتحقيق بناء معين يجعلني –أنا نفسي- أتلذذ وأندهش قبل أن يتلذذ القارئ ويندهش. وهذا ما يجعل ميلاد قصيدة قصيرة يعبر مساراً من المسودات والمحاولات. وفرنسيس بونج نموذج يحتذى في هذا الإطار، خصوصاً في استعماله للأشياء العادية في حياة الناس كالصابون والحجر الأملس، في ديوانه الشعري “الانحياز إلى الأشياء” (Le parti pris des choses). الشيء نفسه لدى غيللفيك في علائقه مع الأشياء والموجودات في المدينة وفي الطبيعة. وكلاهما نجحا في فرض لغة خاصة بالأشياء وحشدها بالنفَس الإِنساني. غيللفيك بدوره كتب عن الصابون، وملابس الموتى، والخزانة، والجدار، وحنفية الماء، والنَّمْل، والنَّحل، والشجرة، والمسمار الأعزل في صندوق الخضار.

التقنيات هي هذه في النهاية، خصوصاً الحرص على عدم تجريد اللغة وجعل اللاشيء جوهراً نهائياً للعالم. فمثل هذه الاستراتيجية تحتاج إِلى شاعر بحجم وعبقرية مالارميه، وهو غير قابل للاستنساخ، وبالأخص في الساحة الشعرية العربية.

* ثمة ما يشبه القاعدة التي تقول إن بدايات الشعر عاطفية، كشعر الحب بصورة عامة، وهو يأتي مبكراً إلا أنك بدأت من “الالتزام” والإيديولوجيا، فهل فعلاً ديوانك “لك الإمارة أيتها الخزامى، 1982” هو ديوانك الأول؟ ثمة تصنع وقصدية في الخيار: “تدفئة زنزانات البلاد”.

لقد كان ديوان “لكِ الإِمارة أيتها الخزامى” (الدار البيضاء، 1982) عملاً شعرياً كتبه التلميذ الصغير الذي كنته في سن الثامنة والتاسعة عشرة. كان عملاً سيئ الحظ، أبعدت عنه قصائد الحب وكرسته لأبجدية التزامي السياسي. لا شيء كان متصنعاً فيه بل على العكس كان مثقلاً بالصدق النضالي والأَخلاقي. لكن وعيه الشعري والجمالي كان فيه الكثير من التبسيط. لست نادماً على نشره، فهو إِن لم يصلح شعرياً، يظل وثيقة على حضور معين لشخص معين في مكان وزمان معينين. ومن ثم فهو يعني بالنسبة إِلي، وربما بالنسبة لبعض قرائه، معنى خاصاً يحرك المشاعر والانفعالات.

* ثم حدث تحول فعلاً في المشهد، اليوم الشعر المباشر السياسي أقرب إلى المنبوذ والمستهجن مع أن العالم العربي لا يخلو على الإطلاق من الكوارث والقمع. لكنك كتبت عن العراق في “الرياح البنية”، كيف تنظر الآن إلى “الالتزام” في الشعر؟

ربما بفضل تحولات المشهد الشعري بل بفضل التحولات السوسيو- ثقافية العميقة في الساحة العربية، حصل هذا التطور النوعي في الكتابة والإبداع، وفك الشعر ارتباطه مع الروح التبشيرية والتمجيدية التي سادت منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين. أصبح “الالتزام” بالمعنى السارتري ذكرى قديمة، لكن انخراط الشاعر في القضايا والأحداث العادلة لم ينقطع ولا ينبغي أن ينقطع، لأن القصيدة بنت التاريخ، ولا يمكنها أن تنعزل عن مجريات الواقع.
وظني أن هذا التحول لم يكن مجانياً، وإِنما صاغته النظريات الأدبية واللغوية والجمالية الجديدة، خصوصاً على مستوى الصلة بين اللغة والعالم، والصورة والعالم، والقصيدة والعالم. كما ظهرت خطابات جديدة حول شعرية القصيدة التي ليست لها قصدية وظيفية، ولا إحالة لها إِلا على نفسها، ولا رسالة لها إلا إِلى نفسها (دو سوسير، ياكوبسون). ثم أصبحنا نتحدث عن مفهوم البُعْد أو الانزياح (l’écart) مع جان كوهين الذي تحققه القصيدة… إلخ. وبالتالي، غدت القصيدة متحررة بالقوة وبالفعل من أي التزام اجتماعي أو سياسي مباشر من دون أن يعني ذلك فك الارتباط مع التاريخ. ففيما تتكلم القصيدة عن ذاتها، تتكلم في الآن نفسه عن أشياء أخرى. وحتى حين لا أتكلم سوى عن وردة في قصيدتي أو جدار أو ورقة عزلاء سقطت من شجرة أو حجر وحيد يغسله الماء في نهر أو بحيرة، فإِنني أحيل بالضرورة على ما هو عام.

حين كرست مجموعتي الشعرية “الرياح البُنية” للحرب على العراق، لم أتكلم عن البعد السياسي أو العسكري لتلك المواجهة، وإِنما اشتغلت على العراق كأمكنة ومدن وجسور وتماثيل وجداريات ومتاحف، أي كحضارة عريقة تعرضت لعدوان مدمر. كانت الفكرة أساساً حواراً بيني وبين محمد القاسمي، بين الفنان التشكيلي والشاعر اللذين يعرفان العراق ورأسماله الرمزي والثقافي والحضاري والإنساني، فاستحضرنا شهرزاد وذاكرتها الجريحة، وتحاورنا عبر رسائل متبادلة حول معنى اشتغال الفنان أو الشاعر على حدث مهول كالحرب، ومعنى أن تصبح السماء سقفًا من حديد تحلق فيها الطائرات بدلاً من الطيور.

*هل الشعر مهنة؟ كيف تكتب قصيدتك مشغولة بين الهواية والمهنة؟

الشعر مهنة حياة، مهنة لا تشبه المهن. والشاعر الحقيقي لا يغادر محترفه، وإنما يذهب كل يوم إِلى معمله الشعري، إِلى ما يشبه الوظيفة ليكتب، ويعيد الكتابة، ويبحث، ويدقق، ويرتب، ويدون، ويمحو، ويعدل، ويصحح، وينهِض الكلمات من مرابضها من أجل ما تجمّع لديه، في جسده أو في مفكرته، من صور وأفكار صغيرة وشذرات وجمل، وينبّش عن العبارات التي تليق بالأَشياء.
أذكر أن محمود درويش كان قد حدثني عن نمط علاقته بمهنته كشاعر، فقد كان يهيّئ قهوته ويرتدي بدلته كما لو كان ذاهباً إلى مكتبه في إِدارة أو مؤسسة، ويجلس ليكتب قصائده. لم يكن يستطيع الكتابة وهو يرتدي البيجاما مثلاً. وأعرف أن لأدونيس مكتبه في باريس، يغادر البيت –إِذا لم يكن خارج باريس- ويتوجه بانتظام ومواظبة إلى العمل كشاعر، لا ليكتب بالضرورة قصيدة كل يوم، وإِنما ليقرأ ويكتب شعْراً أو نصوصاً أو مقالات أو مراسلات. وكان مرة قد أوقفني ونحن نتمشى في شوارع الدار البيضاء لينبهني إلى أهمية التفرغ الكامل للعمل الإبداعي وعدم التفريط في هذا الالتزام وفي هدر الوقت في الأشياء عديمة القيمة. كما أبدى أمامي ندمه عما أضاعه من وقت ثمين. وحين قلت له إِنه مع ذلك أنجز أعمالاً عظيمة، أجابني بأنه لو عرف كيف يستثمر كامل وقته، لكان قد كتب أكثر وأفضل وأعمق.

بهذا المعنى، يمكنني أن أتحدث عن الشعر كمهنة، وهي مهنة تفقر جيب صاحبها، لكنها تثري روحه وروح العالم. واليوم، يمكننا أن نتذكر شعراء العالم منذ هوميروس والمتنبي أو شكسبير ودانتي وصولاً إِلى ويتمان ورامبو بودلير وبيسوا وبيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وجان دمو وعقيل علي، لكننا لا نتذكر أصحاب المهن الأخرى. والجميل أننا نتذكر كثيراً من كبار شعراء العالم، من مختلف القارات واللغات والأزمنة، بل ونتذكر الأنبياء والمصلحين والثوريين والشهداء، ولا نستطيع أن نتذكر الملوك والوزراء والنبلاء والولاة الذين عاصروهم.

أذكر الشاعر المغربي الكبير بالفرنسية الراحل محمد خير الدين، وقد كنا جلوساً في بيت الفنان المغربي الساخر أحمد السنوسي (بْزيزْ) بالدار البيضاء، وكيف كان يزهو أمامي بمكانته كشاعر وبصداقاته مع سارتر وسيمون دوبوڤوار وليوبولد سيدار سنغور وغيرهم من كبار الشعراء الفرنسيين. وفي لحظة، نهض إلى مكتبة البيت وحمل إلي قاموس الأعلام باللغة الفرنسية وقال لي: “أنظر إلى اسمي، لقد خصصوا لي ثلاثة عشر سطراً (Khaireddine) بينما خصصوا للملك خالد (Khalid) العاهل السعودي سَطْرَيْن ونصف سطر فقط.

* أنت تميل إلى الشعراء الذين يكتبون “شعر التجربة” أكثر من الشعراء الذين تغمرهم كيمياء اللغة”؟ إلا أن قصيدتك منمقة ومشغولة، وساحرة لغوياً. ألا يمكن الجمع بين المذهبين: شعر التجربة + اللغة (مرجعيتها في ذاتها)؟

في الحقيقة، الشاعر ينتصر لما يعتبره فقط قوة في عمله الشعري بل ويحتفي به حتى لدى شعراء آخرين. ولا يعني ذلك بالضرورة أن خياره هو الأفضل وأن الخيارات الجمالية والتقنية الأخرى أقل قيمة. بالطبع يمكن حشد كل الإمكانات لبناء القصيدة وإثراء جماليتها. لكن الشاعر الواحد لا يمكنه أن يكون دفعة واحدة شاعراً يراهن على الشيء وضده في الآن نفسه.

عندما يكون خيار اللغة استراتيجية نصية، يتعذر أَن تجعل من شعرِ التجربة هويةً ثانية لقصيدتك. فأنت تكون مطالباً ببناء الصورة الشعرية من قدرتك على اللعب باللغة (لا بَحْرَ في هذا البَحْر إلاَّ البَحْر!) والحفر فيها وفي آلياتها المعجمية والعروضية والبلاغية. وهو غير الحفر في الأمكنة أو في الحلم أو في عمق العالم عَبْر دينامية الخروج إِلى الفضاء الخارجي حيث يلتقي الشاعر بالموجودات وبالآخرين، وحتى بغيريته الخاصة والحميمة وبوعيِه ولا وعْيِهِ… إلخ.

وأما إذا توفرت للشاعر هذه الهبة، أن يتصرف مثل جراحٍ بأَنواع وأحجام مختلفة من المقَصات، فلمَ لا ينجز عملياته الجراحية؟ لا مانع، لكن خبرتي المتواضعة علمتني أن ما اجتمع في شاعر تفعيلي من قوةٍ لا يمكنه أن يجتمع في شاعر يعتنق عقيدة النثر. كل طائر مشَّاء له مشيته المخصوصة، والشاعر الذي يتكلم في قصيدته ليس هو الشاعر الذي يدعُ العالم يتكلم في قصيدته.

* من الرائج أيضاً اليوم شعرياً كتابة الذات، وتالياً الاهتمام باليومي والتفاصيل والعابر إلخ. لكن شعرية اليومي والتفاصيل تحتاج سياقاً يلمّها، الأمر ليس بالتفاصيل بل بنظرة الشاعر إليها، ما رأيك بذلك؟

ما معنى أن نكتب ذاتنا شعرياً إِن لم نكتبها في تعالق مع الأشياء والأصوات والروائح والمشاهدات؟ لا أؤمن بكتابة عن الذات بدون أن أجعلها تحط على الحيطان وأسلاك الكهرباء مثل عصفورة زاهية أو شاردة أو خائفة أو هاربة.
التفاصيل كانت دائماً حاضرةً في الشعر الإنساني، ولكننا نتحدث عنها اليوم بالمعنى الذي يجعلها تفاصيل خبرة إنسانية يومية، خبرة جسدية ملموسة في واقع ملموس يتم تحويلها إلى عملية استراتيجية في الكتابة الشعرية والارتقاء بها إلى مستوى أسطوري (ولا فرق لدي هل الأسطرة هنا بالمعنى الذي نعثر عليه في قصائد كفافيس أو ريتسوس أو سيفريس أو إيليتيس أو تلك التي بلورها رولان بارت في كتابه “ميثولوجيات” مثلاً). أما أن نطبل ونزمر لقصيدة التفاصيل دونما خلفية معرفية وفلسفية تؤصلها، فإن ذلك يبقى من قبيل ما هو عَرَضي، وهو ما يهاجمه أدونيس باستمرار في نقده للعقل الشعري العربي الجديد، ولعله على حقّ.

تذكّري قصيدة ريتسوس التي تطرز فيها الأم اليونانية كساء من صوف فتتدحرج كبة الخيط وتتسلل خارج الغرفة، ومن الغرفة إلى التاريخ وإلى الأسطورة. تذَكّري أَيضاً ما حدث للشاعر مارك ستراند حين كان يجثو أمام بحيرة فاقترب منه جوادان وورَدا، وتبادلا معه النظرات وصهلا قليلاً، ثم انصرفا. كان هذا هو المشهد كما حدث فعلياً، لكن الشاعر في القصيدة صهل هو أيضاً كي يتواصل مع الحصانيْن، فقد خطر له أنهما ربما كانا يتعرفانه في حياةٍ أخرى، كما قال، “في الحياة التي كنت فيها شاعراً”. هناك، في ذلك الماضي حيث كانت الشهيات مفتوحة، وكانت الناس تبدل أشكالها عدةَ مرات في السنة! كما تضيف القصيدة.
بهذه الرؤية، أراهن على التفاصيل الحية التي تفيض بها تجربة الشاعر والتجربة الإنسانية ككل. وهذه قوة التغيير التي يوفرها الشعر، هذا الكائن اللغوي الهش، لواقعنا وأفقنا. وثمة تعبير أنيق وعميق للشاعر الصديق محمد الأشعري عن أن الشعر يستطيع كل شيء حتى عندما لا يستطيع شيئاً.

* قال درويش مرة “من فرط ما هو العالم غير شعري، هناك ضرورة للشعر”. أكيد ثمة ضرورة للشعر. ما رأيك أنت؟

ذلك لأن محمود درويش كائن شعري حقيقي عاش الحياة كمسكن شعري ولغوي، وكانت له لمسة النحات الذي ينظر إلى الوجوه والأَجساد والأَشكال الكامنة في الصخر والأحجار. محمود كانت له دائماً رفعة الشاعر الكبير الذي يدرك معنى هشاشة العالم، ومعنى حاجة العالم إِلى شعر وإِلى شعراء. إِنها حاجة جدية، ليس فقط إِلى الشعر كإِيماءة كتابة، وإِنما إِلى الشعر كمعنى وكخطاب وكرؤية.

لا أعرف لماذا فكرتُ في محمود درويش حين قرأت ما قاله الشاعر الإِيطالي بييرو بيغونجاري (Piero Bigongiari) عن صديقه الشاعر ساندرو بينا (Sandro Penna) من أنه زهرة بلا ساق ظاهرة وتظهر لنا كزهرة طافية على الماء.
نظر محمود دائماً إِلى القصيدة كإِيماءة كلمات، وإِلى الحياة كاستعارة. التحم جسدياً وكيانيّاً باللغة وباللغة العربية تحديداً فأَخرج منها ومن جسده وكيانه، مثل ساحر حاذق مدهش، أجمل الصور وأعمق المعاني التي استقرت في المتخيل العربي العام وفي وجدانات الناس والمناضلين والعشاق. وكان له الدور الأَعمق والأبرز في ترسيخ الوعي بالقضية الفلسطينية كقضية إِنسانية. كان صانع حياة في عالم استحوذت عليه صناعة الموت. وكان خلاقاً للجمال في عالم تلطخ ضميره بالقذارة والدم والدخان. وكان شاعراً حقيقياً أدرك قيمة الكلمات وإِيماءات الكلمات، وظلال الكلمات في إِعادة ترميم الذات وإِعادة بناء العالم على أساس من الحب والطفولة. أدرك، إنْ شئنا القول، أن القصيدة الجديدة حين تُكتب، فإنه العالم الذي ينكتب من جديد. وأبداً، لم ينظر إلى الشعر كتَرَف بل كضرورة إنسانية ضد الهمجية وضد سلالات الهمج.

* هل لديك رأي أو نظرة إلى وضع الشعر العربي الحديث اليوم؟

للأسف، هناك حالة شائعة اليوم في الساحة العربية من انعدام اليقين بالشعر وضرورته. وهي حالة مستجدة لا تفسرها فقط هذه الهجرة الجماعية إلى السرد وكتابة الرواية ونشرها. طبعاً، لا ينبغي أن ننظر إلى الرواية كما لو كانت خصماً للشعر، فالهويات النصية للأجناس الأدبية شقائق، والكتابة الأدبية من أي نوع هي بالأساس احتفال ولقاء وممارسة للعزلة.

حين نكتب قصيدة، فنحن نحتفي بذواتنا فيما نحن نلوح للعالم. وأظن أن العرب، أمة الشعر، ضاقوا بهذا المكوث الطويل في مخبأ الشعر وعزلته وصمته، وأصبحوا في حاجة إِلى مكبرات صوت. مع ذلك، ما زال هناك شعراء كبار في العربية المعاصرة، وهناك أشعار جميلة يكتبها شعراء عرب من مختلف الأجيال، ومختلف لغات الكتابة والبحث والتجريب. والمجاميع الشعرية الجديدة تنشر بالمئات كل سنة، ودور النشر التي تهتم بنشر الشعر لم تغلق أبوابها، ومهرجانات الشعر تواصل نشاطها، والمجلات ما زالت تنشر المزيد من الشعر، والشعراء العرب لا يتأخرون عن المشاركة في المهرجانات الشعرية العالمية من ميدلين في كولومبيا إلى سيت الفرنسية إلى شفشاون المغربية، وذلك إِلى حد يمكنني معه القول إن العرب ليسوا شيئاً آخر غير أمة شعرية تنتج الأزمات، وتزدهر في الأَزمات. ولكن المقَص نفسه، كما يقول ساراماغو في رواية “الكهف”، يأكل شيئاً من القماش الذي يقصه.

  • مشاركة
  • 6128
  • Google +
  • 1
  • 0
  • print