الشعر المغربي.. شغفٌ لغوي؟

349

16 ديسمبر 2014

العربي الجديد
ليس سهلًا الدخول إلى المغرب شعرًا، ذلك أن النقد والفكر والروايات، كلّها تزاحمه في ساحة المشهد الثقافي. ولو نحينا جانبًا الرواية – المتميّزة فعلًا -، لوجدنا أن تأثير “الذهني” و”العقلاني” في الثقافة المغربية طاغٍ، بل ويتجاوز حدود ذلك البلد الواقع في أقصى دنيا العرب، هناك على كتفِ الأطلسي، جار الأندلس القديمة وسليلها الأوفى.

إذ إن النقّاد والمفكّرين المغاربة، نجحوا في مدّ جسور التواصل مع المشرق العربي. كتاباتٌ شتّى، وكتّاب عديدون، يمكنُ للمرء أن يعدّهم، يؤلّفون مثالًا ناجحًا عن الحوار النقدي والفكري كتبادلٍ ناجحٍ بين المكانين؛ المشرق والمغرب.

حال الشّعر المغربي مختلفة، وإذ تؤكّد دراسات التأريخ النقدي مروره كغيره من الشعر العربي بأطوار شتّى: من الرومانسية إلى الإيديولوجية وصولًا إلى كتابة الذات، مع كلّ ما نعرفه من تنويعاتٍ على التصوّف أوالغموض أو غيرها من السمّات التي طبعت الشعر العربي الحديث عامّة، إلا أن الشعر المغربي، يؤلّف مثالًا عن تناثر الخيارات الفنيّة.

ذلك لأنّ الشعر العربي المولود في المشرق لم يمرّ بهذه الأطوار المرصوفة أعلاه، كشعارات واقتباسات من الآخرين. بل حفّت به أسئلة كبرى تساءل خيار الوزن واللاوزن، وطبعه غبّ بداياته موضوعان كبيران: الالتزام والأسطورة. فضلًا عن أن الريادة المشرقية شعرًا، أفرزت أصواتًا مؤثّرة، أدّت مع مرور الزمن إلى خلق تيّارات متبانية داخل متن الشعر العربي الحديث.

الأمور المغربية شعرًا، تبدو للوهلة الأولى منثورةً، آخذةً بما استقرّ عليه المشرقيون من اختيارات. مع ذلك ثمّة سمات محدّدة يُمكن أن تؤلّف “خصوصية” للشعر المغربي. لعلّ من أهمّها العناية الفائقة التي يوليها الشعراء المغاربة للغة العربية، على نحوٍ تبدو فيه القصائد عامّةً مطرزّةً من العقل لا من القلب. ولا يمكن في حال من الأحوال، الركون فقط إلى تفسيرٍ يقول بقوّة الفكر المغربي وحضوره، إذ ثمّة قطبة مخفيّة تميّز المغاربة؛ ذلك أنّ عددًا كبيرًا من الشعراء، أتوا إلى القصيدة من الأكاديمية.

فالجامعة باعتبارها محلًا للعلم والبحث غير منقطعة الصلة عن الثقافة في المغرب؛ كثيرٌ من الشعراء المغاربة يحملون دواوينهم في يد، وكتبهم النقديّة والفكرية في اليد الثانية، ولهذا الأمر تأثيرٌ كبيرٌ على ذاك الكائن الهشّ: الشعر. إذ إن الشغف بالتنظير والتقنيات، يخفّف ماء القصيدة وعفويتها.

وفضلًا عن هذا، فإن انفتاح المغاربة الكبير على الثقافات الغربية، لا يظهر فقط في تأثّر قصائدهم بالشعر الغربي مثلًا، بل يظهر بصورته الصحيحة؛ إذ هم من المترجمين الكبار. للقصائد المغربية طابعٌ معرفي، قليلًا ما يبدو الشاعر أدنى إلى التلقائية، خاصّة تلك التي نعرفها من الشعر المشرقي، حيثُ تكفّل “الطرب” إن جازَ التعبير، بمدّها بما يلزمها من ماءٍ شفيفٍ، لتغدو طليةً.

لكن لا بدّ من القول إن بعض القصائد تنجو من التصنيف أعلاه؛ تلك التي تتميّز بحنينها إلى الأندلس، وإن لم تكن كثيرة، وتلك التي تميلُ صوب الحبّ. فهذان الموضوعان، يتيحان للشاعر المغربي التفلّت من إسار التركيب والذهنية الطاغيين على الشعر المغربي.

لكن هذا كلّه لا يمنع البتة، وعلى الإطلاق، من وجود قصائد مغربية جميلة، وتلك القصائد تحديدًا هي التي تفصح عن الخيارات “الصحيحة” إن جاز التعبير. إذ يبدو أن المشهد الشعري المغربي، يكشف إلى حدّ كبيرٍ مشاكلَ القصيدة العربية الحديثة، لكنّه في الآن نفسه يمدّها باقتراحات جمالية، تبدو في غالبيتها من نصيب الجيل السابق لا الجيل الجديد: فمحمّد بن طلحة، ومحمّد بنيس، وحسن نجمي ومحمّد الأشعري، وغيرهم ، كتبوا قصائد محكمة البناء، ولا ينقصها الجمال ولا الطلاوة. 

ثمّة ذاك المقطع من قصيدة جميلة لمحمّد الأشعري: “عندما انتابنا الخوف/ قلنا إنه ليس خوفنا/ … عندما رأينا دمنا يمشي/ قلنا ليس دمنا/… وجلسنا تحت سقوفٍ ثقيلةٍ/ نتأمّل مطراً يرقص فوق الماء/ قبل أن نستديرَ نحو بعضنا/ ونسأل/ في لحظةٍ واحدة/ من أنت؟”. إذ من شأنِ قصيدةٍ مماثلةٍ أن تشيرَ إلى مزاج ناجح في قول الشّعر، بعيدًا من مصطلحيّ “الجيل” والحساسية اللذين طبعا نقد الشعر المغربي. فهذا المقطع يرفعه الصدق في القول، ورهافة الإحساس، من دون الغرق في عاطفية زائدة، ومن دون أي انقطاع عن الواقع، أو تناوله بشكلٍ مباشر. ثمّة تجربة تشفّ من وراء الكلمات، ولعلّ التجربة هي الفيصل في الشعر لا التقنيات ولا المهارات. إذ ربما يشيرُ مزاجٌ مماثلٌ إلى دربٍ جديدٍ للقصيدة لا المغربية فحسب، بل العربية أيضًا.