كاظم جهاد حين ترجم آرتور رامبو
كاتب بحريني
الآثار الشعرية للشاعر الفرنسي العبقريّ«آرثر رامبو“ (1854-1891)، مترجمةً بكاملها للمرة الأولى إلى اللغة العربية. كان هذا الإنجار المتفرد جهد فرد، أعطته الرغبة الملحة والصادقة فرصة أن يجوب آفاقاً لم تكن سانحة قبلاً. هناك الكثير مما يمكن قوله عن ذلك الشاعر الرائع، مالئ الدنيا صيتاً وسيرةً وتأثيراً أدبياً، وشاغل النقاد والمفكرين والشعراء، في أرجاء الكون(ولايزال يشغلهم)، على رغم زمن حياته القصير(37 سنة فقط!)؛ ناهيك عن ضآلة المدة الزمنية التي كان يمارس خلالها كتاباته؛ إذ لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة حين أنجز آخر أعماله الشعرية (فصل في الجحيم؛ إشراقات). بالتأكيد، لم تكن مهمة نقل هاتيك الطاقة المتفجرة بالشعر والعميقة الغور سهلة؛ بخاصة إذا عرفنا أن الطبعة التي نُشرتْ عن دار الجمل (2007) جاءت منقحة ومزيدة (كما يشير المترجم نفسه) «على أنقاض طبعة سابقة صدرت في العام 1996 عن ”منشورات اليونسكو“ بالتعاون مع إحدى دور النشر العربية. وقد جاءت الطبعة السابقة حافلة بالأخطاء الطباعية واختلط بعض حواشيها، ومن حسن الحظ أنها لم توزع إلا على نطاق محدود…». الطبعة الجديدة، إذاً، أعاد كاظم جهاد النظر في إيقاعها وصياغتها سطراً سطراً؛ مما يلغي قيمة الطبعة السابقة، فنيّاً وأدبيّاً، طباعة ونشراً. وقد افتتحتْ (طبعة دار الجمل) بأربع مقدمات، اثنتين لشاعريْن فرنسَيين معنيّيْن بالشأن ”الرامبويّ“ (هما:”ألان جوفروا“ الذي رحل في العام 2015؛ وألان بورير، الشاعر والروائي والمختص بحياة وأعمال رامبو ”ألان بورير“)، وثالثة للشاعر عباس بيضون، بينما الرابعة للمترجم نفسه.
هكذا تتجسد لنا شخصية مؤثرة بحجم ”رامبو“ في لغتنا، سيرة وإبداعاً، على شاكلة جديدة وشاملة. وثمة من تحدث عن تيار رامبويّ ساد فترة في الشعر الفرنسي بخاصة، والشعر الأوروبي بعامة. والحقيقة أنه يوجد أكثر من صورة لرامبو. فأيّ واحدة يا تُرى كان من الممكن اقتفاء أثرها أو محاكاتها؟!. وميزة ترجمة كاظم جهاد أنها تعطي صورة متعددة الوجوه ومتداخلة ومشتبكة مع بعضها (لئلا أقول شاملة) لرامبو وحياته. تحللها وتستكشفها من وجهة نظر أناس، قريبين من أدب رامبو وشعره، وباحثين عن التباس سيرة الرجل في شطرَيْها، ومفككين لشفراتها ورموزها؛ بعيداً عن التصور الثنائي الخادع (خصوصاً بشأن حياته) الذي تورط فيه ”بروتون“ وسواه متسرعين. ولقد عدّ بعض النقاد تأثيره على حركة الشعر الفرنسي مشابهاً لما قام به أبو نؤاس في حركية الشعر العربي، وذلك من ناحية «هجران الأشكال القديمة» وتحفيز «ظهور الأشكال الجديدة». لكنَّ المسألة الأكثر أهمية (وكثيرون مثلي يرون فيها أهمية قصوى) هي ما أُثير من لغط وروايات متضاربة بشأن صمته الشعري، وبعدها انتشار ما يشبه ”الرواية الرسمية“ الشائعة عن سبب توقفه الكامل عن كتابة الشعر. في مقدمته عن الترجمة، كاظم جهاد يكتب مفككًا هذه السردية المنتشرة حتى بين أوساط المثقفين أنفسهم: «وبالفعل، يا لها من رواية شائعة تضافرت على صنعها أقلام وأصوات تنسب للشاعر أشياء عجيبة، بعضها يرى فيه استثناءً عبقريّاً لم يفهم نفسَه، والبعض الآخر يرفعه إلى مصاف مسيح جديد. وكما كتب باتريس لورو، فلقد آن الأوان لتجاوز عبادة رامبو المراهق هذه…». بمعنى آخر، ينبغي فهم سبب الصمت بالنظر إلى مخاضات الألم والمعاناة والعذابات التي قاساها في طفولته ومراهقته (وهو ليس وحده؛ بل ثمة ملايين الناس عانتْ ولاتزال تعاني)، وبعدئذٍ في مرحلة شبابه حين قرر أن يرحل إلى المنافي بمحض اختياره دون أن يخبر أحداً. وما نتوهمه ذاتية فجّة في أشعاره وحياته، لا يعبر إلا عن نظرة ضيقة تفتقر إلى العمق والدقة. والصحيح أن رامبو أخذ يسْتكْنهُ آلام البشرية ومشكلاتها التي ستطفح على السطح وتبقع جسد الأرض كما تنبأ في كتاباته؛ إذ هولم ينقطع أبداً عن الكتابة – باستثاء الشعر -؛ حين نراه يسخر من قصائده واصفاً إياها بأقذع العبارات. الانقطاع والصمت، إذاً، يشبهان إلى حدّ بعيد احتجاجاً مبطنًا عميقاً على الواقع الذي يرفض أن يوفر أبسط الحقوق الحياتية له، بصفته إنساناً، وبصفته مبدعاً قادراً على أن يُحدث الفارق. ولنا أن ندرك كم هي فادحة وفاضحة خساراتنا حين يُهان الشعراءُ من قبل الجميع؛ ولحظتئذٍ لا يجدون إلا الصمت جحيماً نبيلاً يدارون به الجحيم الآخر الماثل في هذا العالم!
العدد 5122 – الخميس 15 سبتمبر 2016م الموافق 13 ذي الحجة 1437هـ
نشر المقال في جريدة الوسط البحرينية