المهدي أخريف شاعر المراثي الذاتيّة
الديوانان الصادران في وقت واحد للشاعر المغربي المهدي أخريف، وهما «محض قناع» و «تمتع بالمحو» (دار توبقال – الدار البيضاء)، هما من متعلقات الموت. تجمع بينهما «تيمة» التلاشي، بل ما هو أشد من التلاشي، بل ما هو أشد من المحو: المحق. والفرق بين المحو والمحق كجناس لفظي ناقص بين مفردتين في اللغة، هو أن المحق أشد قسوة من المحو. ولعلّه ينطوي على عقوبة ما، غالباً ما هي ميثولوجية أو ثيولوجية حتى ولو كانت من ظواهر الطبيعة. فالظواهر الطبيعية العنيفة من صاعقة أو طوفان أو زلزال، لم تكن في الذاكرة القديمة (التي لا تزال تمتد في أسافل اللاوعي البشري) منفصلة عن عواطف أو نزوات آلهة وآلهات، مسماة بأسمائها: أريس إله الحرب والانتقام، زوس كبير الآلهة وحاكمها وإله الرعد والبرق، أريبوس إله الظلام…).
ثمة أمر تدور عليه النصوص في الديوانين، هو التفتت والزوال. وهذا التعلّق لا يأتي بالمجرد الشعري أو بالافتراض، الذي غالباً ما هو عام أو لا متعين، إنما يأتي من خلال كلام الشاعر في الديوانين. عن شخص بعينه، موصوف ومعروف بالاسم والأثر والسمة وكان على علاقة به. الأول في ديوان «تمتع بالمحو» مذكور مباشرة تحت العنوان «شعر من وحي أعمال خليل الغريب»، والثاني من ديوان «محض قناع» مذكور في عنوان القصيدة الأولى «في حضرة غياب حسن باقر عبد الرب»، ما يحيل القصائد في المحو إلى مراث للأعمال الفنية للرسام والنحات المغربي المعروف خليل الغريب الذي ما زال حيّاً ويعمل. والمقاطع في «محض قناع» إلى مراث للشاعر العماني المجهول حسن باقر عبد الرب، المقيم ردحاً من الزمن في أصيلة والمتوفي فيها آخر آب (أغسطس) 2006.
ما يجمع بين الديوانين أيضاً، أن أعمال هذا وذاك (الرسام والشاعر) أعمال مشتتة، متلاشية، وشذر. وأن كلاً منهما: الأصيل والغريب والقادم من عمان عبد الرب الى «أصيلة» في المغرب، حاضنة الفنون وصاحبة المهرجان المعروف. لكنّ المفارقة أن كلا الرسام والشاعر متوار عن مشهد المهرجان. فهما شخصان للمحو وليس للظهور تماماً. المحو هو الاسم الآخر للموت.
سلحفاة الشعر
كان حسن باقر عبد الرب، كما يصفه المهدي أخريف، أقرب ما يكون إلى سلحفاة شعر. يخرج رأسه بين فترات متباعدة من تحت جلده السميك ليقول شيئاً أو يكتب شيئاً. وحين مات (أو شرب قطرة العدم) ترك صدى صداقات طيبة، وعلبة تلوين لابنة أخريف الصغيرة ودفتراً متآكلا أصفر الأوراق، عليه مقاطع أو مطالع قصائد له ولسواه من شعراء من محيطه أو من العالم (ريلكه، بيسوا، مارك ستراند، ديريك والكوت…) كتبها كما يقول «بخطوط النمل على دفتر منفانا» (ص 75/ قناع)، وكلّها قصائد من الموت.
من هو هذا العبد الرب، وما هي شذراته؟ يجيب المهدي أخريف: «هو الكاتب المتكتم المعسر المقل. – و ماذا بقي منه؟ بعض الشذرات أكلت ثلاثة أرباعها الرطوبة. شذرات نصوص بعبارات وحتى أنصاف عبارات مكتوبة غامضة أحياناً تبدأ من أسفل إلى أعلى بالعربية تارة مطعمة باللهجة العمانية والزيلاشية وبالأوردو في حالتين: الشذرة 9 و14» (ص 84). مهما كانت حال عبد الرب، فهو في النتيجة حالة «إخريفية» (نسبة الى المهدي إخريف). ذلك أن الشعر يعترف بأنه أجرى على متروكات عبد الرب التالفة المهترئة «تدخلات جراحية». ما يذكرني بشاعر من الاسكندرية انتحر شاباً، وترك بعض كتابات، استلمها إدوارد الخراط وصنع منها شاعراً. كتبت في حينه أن رمزي هو اختراع الخراط. يسمي أليخاندرو روخاس (من سنتياغو/ شيلي) عمل المهدي إخريف «ميتافيزيقيا الصفحة الخاوية» (مجلة «شعر جديد» – عدد 47 تموز/ يوليو 2008، سنتياغو، ترجمة مزوار الإدريسي).
رسام المحو
الأشد وقعاً، ديوان «تمتع بالمحو». فهو مؤسس على حالة «خليل الغريب». وهو، أي خليل الغريب، رسام ومنسق مواد من مهملات الطبيعة (غالباً) وملون قليل التدخل في ما يجمعه من مواد قابلة للاهتراء. إنه من طنجة في المغرب، لكنه أينع عمله الفني المعبر في أصيلة، و كان له ما يشبه (الملتقى – المحترف) فيها حيث يعمل ويجتمع إليه فنانون وشعراء وفلاسفة وصعاليك وهواة فن، بما يشكل ما أسميه «خلية». سأضيف أن «الخلية هذه» وفي المغرب بالذات، أرض المجاذيب والطرق الصوفية، تكاد تكون موصوفة بالراوية. تجتمع فيها وخارجها جماعة ممن ذكرنا، وهم مسمون بأسمائهم، ويسميهم الكاتب «العلماء»، أي جماعة من عارفين صوفيين غريبي الأطوار: «وها هم: العظم، مصطفى، جالوخ، المهند الأول، خشيبا الثاني، ناحوم، سابليتا، بنيتي» (ص 105). «وجوههم تزداد شحوباً. ذهبت عقولهم وهم ذاهلون. حاضرون في المكان حضوراً يضاهي الغياب» (ص 104). وهو لم يضف إليهم أحمد الناشود عمداً «الذي كان زاهداً في الدنيا والدين على السواء»، لأن الناشود هذا هو في حقيقة أمره ناشودان متشابهان تماماً. ولا يعرف أي ناشود منهما يضيف. لمسة طقوسية صوفية تسيطر على الكتابة، يقول: «من لزمته الحيرة/ بي من الحضرة/ كان جديراً بالوقفة/ ومن ضم إلى الحيرة إدمان الغربة/ كوفئ بالقرب» (ص 125/ المحو).
الطقوسية هذه لمحيط الغريب ولإنجازاته الفنية، يسميها الغريب نفسه «طقوسية الإنجاز» ويصفها بحصول «كثافة روحية عالية متوترة تتمتع بالإنتاج الوافر نوعياً قياساً بالزمن القليل. يحصل توقف بعده يعقبه استئناف، وقد يعقبه انهيار بدني حاد. المنتج الفني يخزن في أماكن رطبة وتجري عليه عملية التخثر والتحلل والتأكسد والانهيار فالسقوط التام على شكل أتربة وغبار، كحصيلة لتفاعلات كيمياوية للحشرات والكائنات العضوية . وهذا التلاشي هو غاية العمل الفني» (مختصر حديث مع خليل الغريب حول أعماله الفنية/ نزوى عدد 14 – 1998).
خليل الغريب إذاً فنان خاص. لوحاته من مرميات البحر أو مهملات الطبيعة: طحالب، جذع شجرة مهمل، حجر مهمل، ألواح خشب يجمعها ويجري عليها تعديلات فنية قليلة، ربما وضعها على عارضة أو صندوق، ثم يتركها لتتحول ألوانها بفعل الزمن، لتبهت أو تهترئ وتموت. أعماله مفتونة بالفناء. «إن شغفي بالموت يكاد يكون ضرباً من الهوس» (كما يقول). يصنع خليل الغريب أعماله الفنية من رسوم وملصقات ومشخصات ليأكلها الزمن، لتكون طعمة التآكل. من هنا سمى زاويته أو محترفه «المصرية»، وشغفه بالمومياءات البرديات قوي جداً. أعماله شبيهة بأقدام على شاطئ لا يثبت على الرمل فيها شيء. كل شيء خطر على الشاطئ، الموج يمحو. من أعمال خليل الغريب مثلاً، كتلة حجرية سماها «مواد مختلفة مربوطة بحبل». أخذ هذا الستيني النحيل من أصيلة كتلة من طين فخاري وربطها برباطبن، طولي وعرضي. لعلها من صخر غرافيتي وتظهر وهي موضوعة على المنصة كأنها حيوان صغير وغريب متحجر. ترك الألوان الأولى للحجر على حالها تقريباً، كما تركها لفعل الزمن والتآكل. مرسمه في أصيلة (المصرية) مآله للتعفن – ولا هو يتدخل ولا يترك أحداً يتدخل. وهي فلسفة أو وجهة نظر أكثر مما هو فن.
إن إدمون، المذكور هنا، هو المفكر والفيلسوف المغربي إدمون عمران المليح. وهو صديق خليل الغريب ومن جلسائه والمتأملين في لوحاته وأعماله. وقد كانت له يد في إشهار الغريب الميال الى الكمون وحياة المحو التي هي الموت. كتب المليح في أعمال الغريب بالفرنسية كتاباً بعوان «العين واليد»، كشف فيه عن أسرار صبغة الغريب الفنية، أساسها، ألوانها، فلسفتها المتعلقة بالتلاشي، على الورق المدبوغ أو بواسطة أحجار متفاوتة لمنع أي تشخيصية. وبالأزرق النيلي المهيمن غالباً، لسماء وازنة، وثقل الأرض، وبخطوط منحنية وتظليلات، يستعمل خليل الغريب التطريس «كتابة فوق كتابة»: «اللامادة، الإفراط في كتابة ملغزة، والإحجام عن كل محاولة للبحث عن معنى أو دلالة».