إشراقات الأبد’ لكمال أخلاقي العبور بما هو مكابدة لتجربة ميتافيزيقية تتم داخل الذات وخارجها

نبيل منصر
5/11/2010

منذ أكثر مِن عقد، كشفَ الشاعر كمال أخلاقي عن اسمه كواحد مِن الأسماء الجديدة التي وعدَتْ بإثراء المشهد الشعري المغربي. وقد انصرف الشاعر، منذ البداية، نحو توقيع نصه الشعري بصمتٍ مُعزز باطلاع على سؤال التحديث الشعري في المغرب والعالم العربي. لذلك أطلتْ قصيدته على المشهد، من موقع الوعي بالمُنجز الشعري العربي، فاتجهتْ نحو الانتساب إلى سلالة شعر النثر، معَ الحِرص على تطويعها لتتسع لهواجس الذات ولإيقاعها الشخصي في الكتابة، دون أن يَمنعَ ذلك القصيدةَ مِنْ تلمُّس طريقها نحو الشعر بالتعثر والرعشة الضروريين، الملازمين لكل انتساب جاد لهذا الفن النبيل.
يأتي ديوان ‘إشراقات الأبد’ (توبقال / 2009)، ليعزز أكثر خطوات الشاعر في هذا الاتجاه، مُفسِحا لبذرة شعرية هولدرلينية إمكانية التفتق في داخل بعض النصوص، لتجنح بها جهة مكابدة مُطلقة يجمعُ بين حسِّ الانتشاء وهاجس السقوط المعذِّب، الذي يَحُول دون معانقة الذات لأشواقها، فيما هي تعبر دروب الليل والنهار، مُستعذِبة المشي، مقيمة في حدِّ الهلاك، مستكشفة فضاءات ينتسبُ الشاعر إلى ما يُقيمُ في تخومها من معان وجودية، ملازمة للإشراقات الأخرى للكائن، الذي اهتدى للغة فاستأمنها على مصيره في الحاضر كما في المُستقبل.
يتقدَّم ديوان ‘إشراقات الأبد’ في نصوص مُتعدّدة، يستقل كل واحد منها بعتبته العنوانية الخاصة (18 قصيدة)، لكنه تعدد لم يَحُل دون انتشار متخيل شعري ينزع نحو وحدة في البناء والصوغ الاستعاري والهواجس الوجودية والميتافيزيقية. إنها قصائد توقع استمرارية وتنبثق بينها وشائج الكتاب الشعري الصادر عن وحدة التجربة. وبذلك تكون عتبات العناوين عتبات وصل أكثر منها حدودا فاصلة، تمنع تدفق الماء بين مجموع القصائد، في ديوان مأخوذة بـ ‘فتنة العبور’ وأهواله: ‘كأنِّي أعبر إلى سماءٍ بعيدةٍ / يغسلني غبارٌ فأضيء طريقي/ ممرٌّ صاخبٌ بالخوف كالإغماءْ / فصولٌ تميلُ نائمةً / وأخرى تجرحُ عُزلَتي بصباحاتها / أمشي بِمحاذاة أشجار وماءْ/ وكُلَّما أعلنتُ عطشي/ جفَّتْ آبار في الحلق / أمشي إلى ظلال أشدَّ زرقةً / لعلِّي أشارفُ إشراقاً / به أهتدي/ يدي غمامات ٌ تسيلُ/ إشاراتٍ لما قدْ يحدثُ من خرابٍ/ لن ينتبه إليه أحدٌ سوايْ’ (ص12/ 13). إن فعل المشي مُعبَّأ هنا بالعبور إلى ‘سماء’ المُطلق، مع ما يستدعيه ذلك من مكابدة الاستحالة، التي تجعل الشاعر يُخَوِّض في الغبار، مُلتمِسا زرقة إشراقٍ تمنعُه قلة الزاد وأهوال الطريق من استشرافه.
وحتى عندما تُعلن الذات عن فعل الوصول، فإنها تبقى أسيرة استيهامات الشك والانتظار والخوف، على نحو يُفرغ الفعل من دلالته: ‘ها قد وصلتُ / لا شيء يدلّ عليّ / غير هذا الانتظار الطويلْ / أخافُ أن أرى أمامي/ هذا الحارس الذي يُشبهني/ ما الطريق إليَّ؟ / يسألني/ أيها المنكوب بالصلصال والضوء/ أعرني صورتك كي أتهجَّى/ هذا الموت قليلا/ رأفة بي وبالقادمينَ إلى هذا الحج اللاهِب/ رأفة بالصعاليك ورواة الندم/ والواقفين على الأبواب/ في حضرة الأقدار المحبوكة / بضربات اليأس'(ص14/ 15). ولعل دوال: الحارس/ السؤال/ الوقوف/ الأبواب/ الأقدار/ اليأس، تتجه كُلها لتجعل من فعل الوصول استيهاما حُلميا، لا يوقف حُلم العبور كفاعلية بانية للاستعارة ومُحفِّزة لطاقة الخلق، في كتابة شعرية تجعلُ إحدى وجهات هذا العبور المرغوب فيه، مُتجَسِّدة في القصيدة نفسها، مُقيمة في مكان ناء ومجهول.
لا يتجه فعل العبور فقط نحو معانقة سماء المطلق، وإنما يرتبط كذلك بالخوض في المياه العميقة. إنه عبور نحو الأعلى ونحو الأعمق في آن واحد. تعال ٍ وهبوط. اتجاهان تستحضرُ عبرهما الذات عناصر الطبيعة، لأن فعل العبور يخترقها، فيكون المشي مشيا على التراب وعلى الماء، باتجاه الأعلى والأسفل. عبور إشراق ورؤيا عمودية: ‘لا وقت للأسف الآن/ أقدامنا الصلبةُ تضرب في قاع النهر يئنُّ الماءُ / نبكي كي نتصالح مع الماء/ نجري/ نركض/ نُهَرِّب الملحَ في العيون الوفية لِبياضها / نجتاز رهبة الرحيلْ / وهو من سنين يطاردُنا / نرى الوضوحَ الآن/ نرى الشعوبَ تدور في فَلك / نرى الأفكار والحصونَ والأبارجْ / نرى الأعلام، تواريخَ الخديعة، نايات النصْر…/ لا وقتَ للألم الآن / مُتصالحون نحن مع الماءْ / مع حراس الأبدية وهم يلهون بزبد المحيطاتْ / ورياح الصحارى'(ص20 /21).
إن كيان الجماعة الذي تختبئ خلفه الذات، على مستوى بنية التلفظ، لا ينفي الصفة المتفردة لفعل عبورٍ، لا تنخرط فيه الذات إلا صحبة مَن يقاسمها شرط المكابدة والاستعداد لمواجهة أهوال الطريق. ولعل عبورا مِن هذا النوع، لا يُعوَّل فيه إلا على ذوات مفردة. لذلك لا تني الذات تتأمل أعماقها في نوع من الاستبطان، الذي يجعل فعل العبور يتحقق أيضا في الذات ومن خلالها: ‘ بالأمسِ شَربتُ كأسا ووقفتُ طويلا أمام المِرآةْ / لم أرَ شيئا. بالكاد سمعتُ أنينا في الداخل/ أخرجني أيها الجسدُ النحيلُ منِّي/ أنتَ لم تَعُد أنا. أنا لم أعد أنتَ / والسماءُ التي ظللتنا لم تَعُد كذلكْ’ (ص17). ولا ينفصل هذا الاستبطان عن تَعرُّفٍ يستشرف الشاعر من خلاله مفهوما آخر للذات. إن كل تعرف هو تجاوز للذات نفسها وللعالم الذي تفعل فيه. تجاوز يكتملُ مع فعل اكتشاف متعدد تشارف فيه الذات ملامسة حدود العدم: ‘أي خراب أجملُ من هذا الخراب؟ قلتُ: أستطيع أن ألوذ بغيمةٍ / بسماءٍ تؤوي عصافيرَ مأهولةً بالضوءِ/ أستطيعُ أن أروِّض جسدَ هذا الليلِ/ كيْ ينحني قليلا / مثل غيمة شرَّدتْها الصحراءُ / أستطيع أن أنهب ريحه/ بلطف أشدَّ / كي تجرفني صرخة الحواسِّ بعيدا / إلى نهر الشقاء العظيم/ حيث الغريبُ يوقظُ أزهاره البيضاءَ / في بركة العدمْ / مثل جبل مضاءٍ بثلوجِه / يخلُد للنسيان'(ص27).
يكشفُ كمال أخلاقي، في هذا الديوان، عن أشواق كبيرة، تجلتْ بعضُ أبعادها في تجربة العبور، بما هي مكابدة لتجربة ميتافيزيقية، تتم داخل الذات وخارجها، في العالم ووراء جهاته المعروفة. عبور نحو الأسفل والأعلى، لطلب ما تتجاوز به الذات ذاتها، وما يحقق تعاليها. من هنا كان الشعرُ ذاته جهةً من جهات هذا العبور المتعدد، الذي ينشدُ المُطلق، مفصحا بذلك عن بذرة هولدرلينية، نستدل عليها بمثل ما جاء في هذا المقطع من قصيدة ‘قلب الحكمة’: ‘في صحارى القلب / تعوي آلامُ النبع الصافي/ لكنها دائما تتدفّقُ / إلى نهر السؤال الأبدي/ النهر الذي يقصده الأنبياءُ / في مواسم الإنشاد وقطف الزهور/ وفي أيام العطاء العظيم’ (ص30).