شربل داغر يسافر في المجهول شعراً
لا تصحّ العبارة الأدونيسية الشهيرة «مفرد بصيغة الجمع» على أحد من الكتاب والمشتغلين بالثقافة كما تصح على شربل داغر. فهو نموذج معاصر عن المثقف الموسوعي الذي استطاع في زمن التخصص النقدي والالتزام بناحية واحدة من نواحي الأدب، أن يعير قلبه وسمعه لغير صوت من أصوات الإبداع والبحث والتنقيب المعرفي. صحيح أن داغر، الذي ربطتني به زمالة الدراسة في كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية قبل عقود، قد انتابته أعراض الشعر ووساوسه في حقبة مبكرة من حياته، لكن الصحيح أيضاً أن صاحب «حاطب ليل» ذهب في حياته مذاهب شتى، بحيث أن شغفه بالنقد والدراسات الفنية والجمالية، إضافة الى عمله في الصحافة والتدريس، لم يترك للشعر ما يتطلبه من مساحة زمنية ملائمة ومن انقطاع شبه كامل الى حرائقه وكشوفه.
ومن بين الأربعين كتاباً التي ألفها داغر خلال مسيرته الأدبية، سنعثر على عناوين مختلفة تتوزع بين الشعر والرواية والترجمة والنقد الأدبي والبحوث المتّصلة بفنون التشكيل والخط والجماليات.
على أن ذلك كله لا يمنعنا من الملاحظة بأن الشاعر الذي في داخل داغر لا يتردد في إظهار نفسه، سواء في مقارباته البحثية أو في مقارباته لفنون التشكيل البصري، وأنّ الشاعر إياه هو الذي يُبعد دراساته النظرية من الجفاف والبرودة الأكاديمية ويمدّها بأسباب العمق والنظر الثاقب ورهافة المشاعر والأحاسيس.
مجموعة شربل داغر الأخيرة «دمى فاجرة» هي العاشرة له بعد إصدارات شعرية عدة، بدأت مع «فتات البياض» الصادرة في مطالع الثمانينات من القرن الماضي، واستمرت في شكل متقطع مع «رشم» و«إعراباً لشكل» و«لا تبحث عن شيء لعله يلقاك» وغيرها. على أن الفارق الزمني بين مجموعتي الشاعر الأولى والثانية، والبالغ تسعة عشر عاماً، يكشف عن أمرين اثنين يتّصل أولهما بانصراف الشاعر الى شؤون ثقافية وإبداعية مختلفة، فيما يتّصل ثانيهما بصدق الشاعر مع نفسه وبعدم رغبته في تكديس إصدارات وأعمال لا تضيف شيئاً يُذكر الى عمله الأول، والى المنجز العام المتعلق بقصيدة النثر العربية. وقد يكون حرص الشاعر على إرفاق قصائده الأخيرة بمجموعة من المقالات المتعلّقة بماهية الشعر وطبيعته وبالفوارق الشاسعة بين لغة النقد والإعلام وبين لغة الشعر، ناجماً عن رغبة داغر الملحة بتمييز لغة الشعر عن سواها من اللغات وبإعلاء هذا الفن عن غيره من فنون القول وضروب التعبير. من هنا، نفهم قول الشاعر في إحدى مقالاته «أخالني في الكتابة أعمل في خدمة شربل داغر مثل مرتزق أو كاتب مأجور… أما في الشعر فلم أكلف نفسي بمهمة ولم ينتدبني أحد لواجب بعينه، وإنما سعيت الى ما يقع خلفي أو أمامي أو الى جانبي، بمنأى عني. هذا ما جعل الشعر عندي يرتبط بالرغبة، بما تحيل إليه وتميل إليه. القصيدة مثل شهوة، أي ما يُشتهى. القصيدة مثل جسدي الآخر».
تكاد قصائد «دمى فاجرة» أن تكون محصورة بمعاناة الكتابة ومتعتها، وبالعلاقة الملتبسة بين الشاعر وقصيدته، عدا بعض الاستثناءات القليلة التي لا تبتعد بدورها من الموضوع الأساس، كالحديث عن العلاقة بالكتب والشجر والشغف بالقراءة.
وقد تكون قصيدة «حبي الكريه» التي تستهل المجموعة هي الانحراف شبه الوحيد عن المناخ العام للنصوص. ذلك أن الشاعر يسلّط الضوء على العلاقة المركبة وغير السوية بين الأنا والآخر، حيث تتصادم الإرادات وشهوات الامتلاك، وحيث الضغينة تندفع «فوق أنفاس الصامتين/ ممن خبروا الموت قبل أن يموتوا/ ممن حصدوا سنابل الوقيعة قبل موسم الأحقاد/ ممن بكوا من دون أن ينفكوا عن مواعدة خصومهم/ في ليل يتبينون فيه وحدهم – من دون غيرهم – دروب القتل/ على أنها درب الخلاص». على أن داغر سرعان ما يعود الى موضوعه الأثير والأقرب الى نفسه، حين تصبح الكتابة في حد ذاتها محلاً للمكاشفة مع النفس ولتتبع أحوالها وتقلباتها وهي تبحث عن اللقى المخبوءة في لججها الغامضة.
والكتابة عند الشاعر هي أولاً وأخيراً عناق حميم مع الوجود وتعبير رمزي ساطع عن رغبة المرء في الاتحاد بالعالم. وهي كائن ودود على رغم أنها تهوى المناوشات «حتى أنها تتدبر خصماً لها/ قد يصرعها ويعيدها الى حيث أتت».
وحيث لا نعثر بين النصوص على قصائد حب متعلقة بالمرأة، يبادر داغر الى تبرير ذلك، كمن يرد على سؤال افتراضي، بكون الكتابة هي أبهى تجليات الحب وأسمى درجاته. إنها الوحشة الآسرة التي يصرف لكل حرف فيها ما لا تصرفه شاكيرا على طلتها، على ما يقول الشاعر.
وتبدو العلاقة بين صاحب «القصيدة لمن يشتهيها» وبين اللغة أقرب الى الانصهار والتماهي الكامل مع كل ما يتّصل بالكتب والمصنفات المختلفة. لهذا، يخصص جزءاً غير قليل من ديوانه لامتداح الكتب ومرافقتها في رحلة التحول التدريجي، بدءاً من أصولها الشجرية ووصولاً الى حضورها الخلاب فوق رفوف المكتبات العامة والخاصة. فالشجرة التي يجلس في فيئها هي نفسها التي بتحوّلها الى كتاب تتيح له سبل التحليق في الفضاءات الأكثر رحابة للمعرفة الإنسانية.
ليس الشعر عند شربل داغر مرادفاً للعاطفة السيالة أو الترسل الغنائي بمقدار ما هو «صناعة» للمعنى عبر حذف الزوائد التي تفيض عن حاجته، وتأليف حاذق لما لا يأتلف على أرض الدلالات الأصلية للكلمات.
وهو في بعض وجوهه سفر في المجهول وإعادة تعريف بالأشياء وتسمية جديدة لها. لذلك، سنعثر أثناء القراءة على الكثير من الجمل الاسمية ذات النزوع «الحكمي» كما في قوله «الزمن يغسل/ لكنه لا يكوي ما جفّ تحت شمس الخيبات والانتظارات»، أو «ما يضيرها محطة الوصول إن استقبلت ركاب محطة الرحيل». والشاعر الذي وضع النقد في أعلى سلم أولوياته، لن يتخلى عن هذه الميزة في شعره، فيذهب حيناً الى المقارنة بين التأليف الشعري وفن الطبخ حيث «للقصيدة طابخ واحد/ خادم وحيد/ وساهرون لا يطيقون الأكل في الصحن مرتين».
ويذهب حيناً آخر الى التمييز بين طبقات الشعراء لا وفق مواهبهم الفطرية فحسب، بل وفق علاقتهم باللغة وغاياتهم من كتابتها. فبعضهم يتوجّه إليها «بثقة الموظف»، وبعضهم يفكر عند الكتابة بعبدالحليم حافظ «ويصغي لدبيب النغمات في الأذنين»، وبعضهم يقبل عليها «كمن يعتلي منبراً أمام حفل أو قبيلة».