سيرة الموت فـي «بطاقة لشخصين» لعباس بيضون
«كثيرة هي الأسباب التي تدفع للكتابة. أهمها، فيما يبدو لي، تلك الأكثر غموضا. خصوصا الأسباب التي يمكن لها حماية شيء ما من الموت»
أندري جيد.
يشكل الموت في «بطاقة لشخصين»(1) تيمة مهيمنة في كل قصائد الديوان مما يمنحه وحدة متكاملة للتعبير عنه، ذلك أن الكتابة الشعرية عند عباس بيضون تتخذ أشكالا فنية تتوزع بين التصوير الشعري، والتفكير التأملي، والقالب السردي؛ بحيث تتداخل هذه الأشكال الثلاثة، وتتضافر فيما بينها لتؤسس لشعرية لافتة، تعالج موضوعة الموت برؤى ووسائل مختلفة، تجعل من الأبعاد الأسلوبية، والبلاغية، والتأملية، والسردية حصان طروادة. ويضيء- في كل مرة- شكل الصورة، والتفكير، والسرد- بوصفه جانبا من الجوانب المتعددة للموت، ليميط اللثام عن قوته المدمرة، ويصور ذلك الصراع الأبدي القائم بين الوجود والعدم. ويمكننا القول إن عباس بيضون يكتب سيرة الموت بوعي شقي بوصفه وعيا جريحا، وممزقا، ومتألما؛ لأنه وعي منشطر ومنقسم مشدود بين الماضي الجميل والحاضر الحزين، بين حياته هو وموت الصديق (بسام حجار)، بين الحضور والغياب، بين المعلوم والمجهول، بين الهُنا وهناك.
ماذا على الشاعر فعله؟ أمام العدم، وأمام «فك القدر»(2)، يقول الشاعر: «منذ توفي بسام وأنا لا أعرف كيف أصرف هذه المسألة»(3). إنه يظهر سؤالا جوهريا على مستوى آخر؛ أي عجز اللغة أمام جدار الموت؛ كما يظهر عجزها عن قول الموت، واللامعنى الذي يقترن به دائما؛ فالسؤال- الذي يطرحه الشاعر- رئيس يوضح اصطدام الشاعر بسلطة العبث الوجودي؛ لأنه يُبَين ضعف الكتابة في ترجمة الذهول والأسف، ويُفْصح عن عدم قدرتها في التعبير عن الحزن والألم المنبثقين من هول الصدمة؛ ولأنه تجربة قصوى، يقطع الموت حبل الكلام، ويصيب اللسان بالشلل، ويحدث في القلم نوعا خاصا من البُكْم. إن تجربة الموت هي في العمق- كما أكّد على ذلك إيمانويل ليفناس Emmanuel Levinas- تجربة «صراع بين الخطاب وما ينفيه، صراع يؤكد الموت على قوته السلبية.»(4) ماذا على الشاعر المفجوع المكلوم فعله إذن؟ هل يقفز على المسألة، أم يظل صامتا، أم ينكفئ على ذاته، أم يبقي آلامه وأحزانه طي الكتمان، أم يختار السكوت طريقة للرد على السكوت الآخر، السكوت الأبدي، أم يطرد من خلده فكرة موت الصديق العزيز؟ يأتي الجواب من الشاعر نفسه: «لا نتخلص من فكرة بطردها أو بتعذيبها إلى أن تنطق أو تطلق زفرة على الأقل.»(5)
وقد أصبح من اللازم على عباس بيضون اختراق الجدار بموت صديقه الشاعر بسام حجار، والدخول فيه لاكتشاف الغامض، والمخبوء، والمجهول لقول ما يستحيل قوله، وتسمية ما يصعب تسميته. لا خيار إذن، لدى عباس بيضون سوى أن يجعل من الكتابة الشعرية الوسيلة الكفيلة للصمود ضد الموت، والسبيل الأوحد لتخليد ذكرى «الصامت الكبير في نومه»(6). يقول الشاعر في هذا الصدد: «نسافر مع الكتاب/ إنه يقول إن التحضير للموت يتطلب وقتا أطول من الحياة/ الموتى يفضلون أن يسافروا في كتاب.»(7) لا يكتفي الشاعر إذن بزفرة يطلقها، بل يحولها إلى قول شعري، وإلى قصائد رثائية، وإلى «كتاب»؛ فالكتاب- هنا- هو الديوان نفسه، يريده الشاعر أن يكون بطاقة واحدة لشخصين اثنين بحيث سلم الأول «لأمير الظلام»(8)، وغاب نهائيا عن الوجود (بسام حجار) بينما سلم الثاني لنفسه -أي الشاعر- الذي مازال على قيد الحياة، على الرغم من أنه مسكون بالغياب والفقد، ويملأ الصفحات بكلمات وقصائد، ويكتب «بطرف العين /أو بالنفس الذي لا تسمع فيه كلمة»(9). بهذا المعنى يصير الكتاب- الديوان نصبا تذكاريا لإعادة تدوين الأثر الذي محاه الموت، ويصبح عبر الكتابة الشعرية، تشييعا جنائزيا لإخراج الكائن من اللاكائن. فتمكن بذلك الشاعر من الكتابة عن الموت، وأن يكون سيد نفسه أمام جبروت الموت بتعبير موريس بلونشو Maurice Blanchot، ليقيم معه علائق حميمية، بعيدا عن النظرة الباردة والسطحية ، والمبتذلة، والمتداولة.
ويلمس قارئ ديوان «بطاقة لشخصين» أن الشاعر يعمد إلى تصوير القصائد الرثائية، وتفكير بها، وحكيها بواسطة صيغة الماضي. يقول الشاعر:
«كان يريد/ بلا أمل/ أن يبقى في بال الباب أو المنضدة»(10)، «بسام الذي كان يؤلف الجمل التي يريدها»(11)، «كان يصيب لأنه لا يستطيع أن يفعل العكس»(12)، «حين كنت تصل كل عصر/ متباهيا بالعرق الذي نزفته من رياضتك»(13)، «كان جدارا فقط/ جدارا عاديا كأي جدار»(14) الخ.
نلاحظ أن فعل الماضي الناقص المتكرر في هذه الأمثلة وغيرها، يجعل الأحداث، والأشخاص، والأشياء، والأجواء تنتمي إلى اللاموجود، غير أنه يجعلها حاضرة هنا والآن بمجرد ذكرها، واسترجاعها، والحديث عنها في شكل صور وذكريات، عاملا على نقلها إلى دائرة الموجود بواسطة هذه الاستعادة؛ فالتذكر يصبح عبر القصائد الشعرية عملية ذهنية وكتابية محضة، تسمح بانبعاث الزمن الماضي من مرقده، وتحريره من الفناء، وإخراجه من عتمة العدم. يقول الشاعر: «أما الذكريات فتعمر طويلا بسبب الكساد الذي عَم./ هكذا ندفع للنهايات ثمنا أقل.»(15) تحيي الذاكرة والذكريات الأشياء التي انتهت واختفت إلى الأبد؛ بحيث يناقش بول ريكور Paul Ricœur في كتابه «الزمن والسرد» علاقة التذكر والذاكرة بزمني الماضي والحاضر: «ما معنى أن نتذكر؟ إنه الحصول على صورة الماضي. كيف يمكن ذلك ؟ لأن هذه الصورة هي بصمة تركتها الأحداث والتي تبقى راسخة في الذهن.»(16) هذه النظرة الفلسفية للزمن، والتي استوحاها ريكور من قراءاته للقديس أوغسطين Saint Augustin، تجد مكانا لها في ديوان عباس بيضون «بطاقة لشخصين» بوصفه كتابا يؤرخ عبر الشعر لعلاقة حميمة بين صديقين فرقت بينهما المنون. لهذا، يمكن التأكيد على أن الكتابة الشعرية في «بطاقة لشخصين» انتصرت على الموت، وجعلت منه تجربة «أقل مرارة» كما يقول مارسيل بروست Marcel Proust.
فالشاعر لم يكتف وهو يرثي صديقه الحميم فقط بتخليد ذكراه. بل مدته تجربة الموت – موت الآخر- بنسغ المعرفة، ودفعت به إلى التفكير في مصير الإنسان، وتعميق تأملاته في شرطه الوجودي بوصفه شرطا مقرونا- في عديد من القصائد- بمرور الزمن وانقضائه؛ الشيء الذي يحوّل الحياة إلى قَدَر بتعبير الكاتب والمفكر الفرنسي أندري مالرو André Malraux متخذا الزمن في بعده السلبي؛ لأنه يحمل في طياته بذور الفَناء، ويرمز لأشكال التحلل والخراب. يقول الشاعر: «إن انتهى الوقت/ لن نكون أحياء تماما/ سنكون مُبَنَّجين إلى الآخر ونطفو في الفضاء/ مع دببة القش والحقائق الرخيصة»17؛ حيث يدفع مرور الزمن بالإنسان تدريجيا إلى العدم؛ أي إلى أن يصبح الآدمي جسدا مريضا، أو ضعيفا أو عاجزا أو هشا؛ «يأسن وتصير له رائحة»18، فتتحول كل حياته إلى مجرد آثار، ويختفي نهائيا كل شيء يشير لإنسانيته، وتاريخه، وسيرته، وقوته. يقول الشاعر: «وبعد 29 عاما لن يكون بقي شيء من الشعر أو الجلد. 29 عاما كافية ليكون القبر اختفى.»(19) فكل ما يرمز للإنسان إذن، يكون مصيره الانقضاء والزوال والذهاب إلى غير رجعة.
من خلال قراءتنا لديوان»بطاقة لشخصين» يمكن استخلاص الآتي : استطاع الشاعر أن يمزج بين رؤية شعرية فنية، ورؤيا تأملية فلسفية، ليعبر بانسيابية عن المعنى التراجيدي للحياة، ويكتب بالتوازي موته المحتوم، ويؤرخ لقدومه الحتمي قبل حدوثه: «نختفي نحن في البعد الواحد، بدون أن نتحرر ولا يبقى على الحائط الواحد أي شيء»(20). بهذا المعنى يمكن قراءة الديوان، ليس فقط كبطاقة لشخصين، بل أيضا كسيرة لموتين: موت اكتمل وانتهى (موت الصديق)، وموت آت في الطريق (موت الشاعر)؛ فالموت الأول يُحْكَى بصيغة الماضي، والموت الثاني يحكى بصيغة المستقبل. إننا إذن، أمام سفر في الزمن والمكان معاً؛ إنه سفر تتحقق فيه معانيه المكشوفة والسرية، وإشاراته الواضحة، والمبهمة، وفي القول الشعري المفتوح على الغياب والحضور، والعدم والوجود، والموت والحياة، والنسيان والتذكر. يكتب الشاعر عباس بيضون سيرة الموت، ويقرأ ذاته عبر الآخر الميت، لينفذ إلى مجاهل كينونته الغامضة. يلتقي ديوان «بطاقة لشخصين» مع ثنائية الموجود واللاموجود؛ ليتعرف بعمق على إنسانيته، ويجددها باستمرار. لقد ترجم الشاعر، بشاعرية جميلة، مقولة موريس بلونشو: «الكاتب هو الذي يكتب لكي يستطيع الموت. هو الذي يستمد قدرته على الكتابة من خلال علاقته المُسْبَقَة مع الموت»(21).
الهوامش
(1)- عباس بيضون، «بطاقة لشخصين»، دار الساقي، بيروت, لبنان، 2010.
(2)- نفسه، ص8.
(3)- نفسه، ص65.
(4)- Emmanuel Levinas, « Dieu, la mort et le temps », Grasset &Fasquelle, Paris, 1993, p23
(5)- عباس بيضون، «بطاقة لشخصين»، ص65.
(6)- نفسه، ص66.
(7)- نفسه، ص13.
(8)- نفسه، ص61.
(9)- نفسه، ص10.
(10)- نفسه، ص5.
(11)- نفسه، ص9.
(12)- نفسه، ص19.
(13)- نفسه، ص33.
(14)- نفسه، ص79.
(15)- نفسه، ص44.
(16)- Paul Ricœur, « Temps et récit, 1. L’intrigue et le récit historique », Seuil, Paris, 1983, p31.
(17)- عباس بيضون، «بطاقة لشخصين»، ص90.
(18)- نفسه، ص59.
(19)- نفسه، ص74.
(20)- نفسه، ص12.
(21)- Maurice Blanchot, « L’espace littéraire », Gallimard, Paris, 1955, p114.
محمد برزوق