كتاب – “الشافيات” لعباس بيضون: جيل الخطيئة الأصلية

19،جريدة النهار
رلى راشد
21 آذار 2014

لا ندري إذا كانت التبدّلات الجيو – سياسية في مشرقنا القريب حدت بعباس بيضون إلى التقرّب، من إشكالية التزمت الديني، حين يصطدم بالموروث الشعبي المثقل بالخرافة. ولا ندري إذا كان التماس مع أحوال البلدان العربية المستسلمة للتعصب الأعمى، حلّ كممهّد لنصه الحديث حيث رسم الخط الرفيع بين الحاجة الى التمسك بما كان، كحالة مرحلية طبيعية، وبين سَحبِ المعيش الراهن عنوة الى منزل الماضي.

في “الشافيات” – في مطلعها خصوصا – مناخ يحيلنا على نشأة رواية “خرفان المولى” في رصيد الكاتب الجزائري بالفرنسية ياسمينا خضرا. عنده، تراءت الجزائر على امتداد النص، ساعية إلى أن تنفض عنها جبّة التطرف، بينما لا ينسحب إغراء الإقامة في وسط تيمة التعصّب على نص بيضون برمته، لأنه يفسح لمطارح أخرى كثيرة.
بين دفّتي “الشافيات” (لدى “دار الساقي”) يتأمّل الراوي جلال نفسه وما يحوطه في كل لحظة. قبالتنا راوٍ شديد الوعي إزاء نفسه يشحذ مشاعره الحسيّة ويحلل ويعجز عن وضع مصفاة بين ما يزنره وما ينبعث منه، كأنه تنويع على الزجاج الشفّاف. يهجع الراوي الى بلدة الصنوبرية التي تمثّل الملاذ والمطرح المشتهى وحيّز السقوط على السواء. يصل إلى مكان على طبيعة شبحيّة كأنه صورة سلبيّة “نيغاتيف” عن الواقع. في كل زاوية في قرية الحاجة هديّة، جدة الراوي المتوفاة، تبرز إمارات الموت: رأس منزوع من دمية على جانب الدرج، أطفال على صمت مريب لا تخرقه سوى كلمات قليلة تنطق بها إحدى الفتيات لتنفذ مهمة فحسب، أن تعطي الراوي مفتاح منزل الجدّة الحديدي. يدخل الراوي البيت حيث يرقد الهواء منذ عام، وحيث مناخ معلّق بين الواقع والخيال تضارعه كليشيهات فوتوغرافية عتيقة لإخوة الراوي في كولومبيا، تحت الأشجار وعلى الجسر وفي الغابة. ها هنا أعضاء أُسْرَتِه الملتبسو الهوية: علي الذي صار ألفونسو، وفريد الذي غدا فريدي، بينما يختفي الراوي من الصورة العائلية.
معطيات كثيرة في مطلع رواية بيضون تجعلنا نظنه سيأخذنا حكما الى حظيرة الواقعية المعطوفة على السحر، ليس أقلها أن تُمنح الجدّة هبة الشفاء واستشراف المستقبل والتواصل مع الأرواح التي تأتي الرواية بعنوانها “الشافيات”. ينتمي الراوي إلى جدّته على نحو لصيق، إن لم نقل على نحو شبه استثنائي. جلال إبن إبنة هدية، وهو تاليا أحد فروعها، لكنه يكاد يخصّها حصرا. نقرأ في مطلع الفصل الثامن: “الناس أبناء آبائهم وأمهاتهم أما أنا فابن جدّي”، وفي مطلع الفصل السادس: “الناس أبناء أمهاتهم وآبائهم إلا أنا فأنا ابن جدتي”. يجري تكرار الجملة عينها، مع بعض التعديلات، كأنها استدعاء.
جرى تخريب منزل الوليّة هديّة في أعقاب وفاتها، لكن تفاصيل الحادث جاءت وفق ثلاث نسخ. قال البعض ان شبّانا سكارى أقدموا على الفعل، بينما أكد آخرون ان المقترفين مجموعة “أهل الصراط” لظن أفرادها أن العجوز متعاهدة مع الشياطين، في حين أكد آخر ان العفاريت المربوطة بفعل سِحرِها تحررت يوم وفاتها، وانطلقت تحطم المكان. الشافيات مؤتمنة في المعنى الإغريقي على وظيفة الخلق. ولا لبس ان النسخات الثلاث التي تلت رحيل هديّة، تقربها من النماذج الأسطورية حيث مآل الآلهات الشافيات وموتهنّ، ملتبس دوما ومحطّ تأويلات وافتراضات.
في خضم الرواية يخيّل إلينا أن الكاتب يجاهر أحيانا بوجوده المادي فيكسر الحاجز الفاصل بين المتخيّل والواقع. نراه يقحم نفسه مواربة، بذريعة راويه، كما حين يأتي عدنان صديقه جلال بكتابين ومقالات كُتبت عن مؤلِّفَين أنجزهما. يفكّر جلال: “استطاع عدنان أن يصنع من لا شيء كاتبا بكل المقاييس”، ليزيد متسائلا في سره دوما: “ماذا يبقى للأدب إذا صار استثمارا ماليّا ستكون كلفة صنع أديب كعدنان أقل من كلفة دكان؟”. والحال ان هذه الفسحة المستقطعة في أرض الواقع، يعزّزها ذكر بيضون، بعد صفحات قليلة، نص الكاتب حسن داوود “غناء البطريق”، يُطالعها راويه.
من خلال شخصية هديّة، ثمة إمرار لجيل كامل محمّل أثقال الخطيئة الأصلية، وثمة تصوير لحاجة المجتمعات التقليدية الى أبلسة النساء وكأنهن الخطر الداهم، ولا سيما حيث يتجاوزن القفص المعدّ لهن. والحال ان ربط موهبة الجدة الرائية والشافية بالشياطين، يفشي قسطا من هذه الريبة، بينما لا يجري مهادنتها سوى حين يستبد بها مرض سرطان الرئة، حين ترجع الى المربّع الأول الموكل لبنات جنسها: سيدة هشّة بحاجة إلى شفقة.
يعود عباس بيضون الى مرتع الرواية بعد جفاء دام أعواما، من طريق نص مغرق في شاعريته المواربة، يفصح عنها قوله – في الحديث عن البعد الجغرافي بينه وبين والديه المهاجرين الى كولومبيا – “استهلكتُ ذكرياتهما” استهلكتُ صورتيهما”. في مقابل هديّة السيدة الطافقة الحضور، ثمة حفيد سلبي، بطل مضاد يقبع في فسحة اللاحراك. يستسلم لقرار زوجته التخلّي عنه ويخضع لتحرش صبيحة به، في حين لا يحرك ساكنا. أما في معظم الحوارات التي ينخرط فيها جلال، فينصرف الى كلام بصيغة غير مباشرة، بينما تتحدث النساء قبالته، بصيغة مباشرة. ها هنا نمط آخر من الإنسحاب اللفظي. يتبدّى جلال في هذا المعنى مسيّرا وغير مخير، كأن قدره مرسوم سلفا فيكون على هذا النحو سليلا ملائما لمنطق الفلسفة الإغريقية. يعزز هذا الاقتناع قوله في احدى اللحظات: “ربما نحن جميعا مسحورون ولا نعرف”.
لكن “الشافيات” ليست رواية تستقدم الفائق الطبيعة حجّةً، ذلك انها نص يرتطم بالروتيني أيضا حين يحاول الإرتقاء، ليقنُص شيئا من الألوهة. “الشافيات” رواية لجيل الإلتزام، اليساري خصوصا، أراد أن يجد مكانا داخل حلم مترامي الأطراف تجاوز الواقع الفردي المنمنم. يكتب بيضون عن هذا النوء الفردي الطوعي تحت صخرة العقيدة فنقرأ: “لم يكن إسمي يعنيني إلا بقدر ما هو في الحزب”.
“الشافيات” نص على تماس مع الحرب اللبنانية، يستفهم عمّا يمكن أن ينطق به أولادها. يسأل بيضون عنهم وكأنه يرثي مستقبلهم سلفا: “من سيَتّهِمون إذا الأيام انقلبت عليهم إذا انتهوا مجرمين تعساء ومهربين تعساء ولصوصا تعساء؟”.