سعيد عقل: الذاكرة والمستقبل
في رحيل الشاعر الكبير سعيد عقل ما يضيءُ الذاكرة ويستشرفُ المستقبل، إذا قرأنا تجربته في الشعر والصحافة والحياة من منظورٍ نقديٍ في المقام الأول. هل قدّمَ سعيد عقيل إلى اللغة العربية ما يضيفُ إبداعاً متفرداً على مستوى النوع؟ هل تعدُّ لغته الشعرية علامةً فارقةً في تاريخ الأدب العربي؟ بمعنى آخر، هل شكلتْ تجربتهُ قطيعةً في الرؤية وطرائق التعبير مقارنةً بما سبقها من تجارب؟
وفي الجانب الآخر، قبل أنْ نسعى إلى تقويم وتقييم مواقفه في الشأن السياسي والثقافي، لابدَّ أنْ ننتبهَ إلى أنّ بعضَ هذه المواقف أتتْ في سياق الحرب الأهلية اللبنانية الفلسطينية المحتدمة آنذاك.
في ما يخص الشعر بوجه عام؛ نلاحظ النقاط الآتية: أولاً – تجربته في الشعر- من وجهة نظري – تتخذ الطابع العربي التقليدي في التغني بالوطن وأمجاده وعظمته وجمال تضاريسه، على مستوى الموضوع. في هذا الإطار تطغى على مسيرة سعيد عقل الشعرية نزعةٌ تفاخريةُ الطابع، تكاد تلون شعره وكتاباته في معظمها. ثانياً – يعكسُ شعره الواقع، وصفاً وتصويراً، وتبعاً لذلك أقصى ما يمكن أنْ يصلَ إليه هذا الشعر هو التنويع على هذا الواقع. ثالثاً – على مستوى الشكل والإيقاع، التزم بنواحي الوزن والقافية في غالب الأحيان، وليس هذا كل ما يدخل ضمن مفهوم الشكل حصراً، إذ الشكل الشعري مفهوم أعمقُ من الوزن والقافية. على رغم ذلك، نلاحظ أنَّه لم يتعدَّ سوى التنويع على الوزن والقافية، من دون تغييرٍ في روح ونسغ القصيدة عُمقيّاً. رابعاً – الأنموذج الشعري الذي يمثله ما هو إلا ترداد وتكرارٌ لما كان عليه الأنموذج الشعري العربي السائد حينذاك في لبنان وسورية عندَ عمر أبو ريشة وإلياس أبو شبكة وبشارة الخوري وسواهم، والذي كان بدوره نسجاً على طرائق الأنموذج القديم.
الآن أستمع ُ إليه، وهو يقول بصوته الأجش: « أبتني في النجومِ لي بعلبكّاً وتدمرا». ثُمَّ أنظر إلى خارطة الشام الممزقة التي تحولت إلى ركام وقبور وجثث متناثرةٍ هنا وهناك. حقّاً كان يحلمُ أنْ يسكنَ الجمالُ بلاده، أنْ يستعيدَ صانع الأبجدية، ذلك الفينيقيُّ الخلاق، أمجاده وإبداعاتهِ. لكن هل تسعفُ أحلامُ الشاعر مدناً تحولت إلى رمادٍ أو تكاد تتحول؟!.
لقد كتب سعيد عقل باللهجة اللبنانية المحكية شعراً ونثراً، وصمم أبجديةً جديدةً احتوت على 36 حرفاً لاتينيّاً. إلى أي مدىً تمثل هذه التجربة قيمةً فنية ولغوية؟ لستُ أعرف؛ لكن ثمة دلالات ثقافية واجتماعية وسياسية في انكفائه نحو النزعة اللهجية، ودعوته إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية. أسمعهُ في مقابلة له يقول: «قبلي أنا لم يكن يُعرف أنَّ لبنان هو خالق أوروبا».(من مقابلة صوتية له مع مجمع أبوظبي الثقافي). وأتساءلُ في صمتٍ: أكانتْ هذه المدنية الأوروبية المتطورة من صنع لبنان حقّاً؟ هل خلق لبنانُ كل هذا الفكر والفلسفة والجمال الأوروبي؟ هل وقعَ سعيد عقل في وهم التفوق على الآخر؟ أيصلُ انتفاخُ الذات القومية إلى حدِّ الزعم أنَّ لبنان المتشظي هو من له الفضل الأول في تشكيل أوروبا وعظمتها الآن؟!
النقطةُ المضيئة أنَّ سعيدَ عقل وضعَ اليقينياتِ الراسخة المرتبطة تحديداً باللغة العربية الفصحى موضعَ تساؤلٍ. لقد فتحَ بابَ الشكِ حول قداسةِ النظام اللغوي السائد في المؤسسة التعليمية والإعلامية، وعلى الساحة الثقافية. لو ولدَ سعيد عقل في هذا الزمن العربي ماذا سيفعل، إذاً؟ أجيالٌ أصبحتْ تخترعُ لغاتٍ هجينةً، ربما ليسَ فيها من اللغة العربية شيءٌ. أهناك نتاجٌ ذو قيمةٍ خلقتهُ تلك اللغات حتى هذه اللحظة؟!