حازم العظمة.. تخفيف العالم بالماء
4 أغسطس 2015
رغم منشئه المديني وممارسته الطب في دمشق، إلا أنَّ الشاعر السوري حازم العظمة يفضّل العيش دوماً على أطراف المدن وضواحيها. ربما ينسجم هذا مع تأخُّر الشاعر (1946) في النشر، فكما يميل إلى النأي عن متن المدينة ومركزها، كذلك كان في الشعر فلم يُصدر مجموعته الأولى “قصائد أندروميدا” إلاّ في عام 2004، رغم أنه بدأ الكتابة في الستينيات، ثمّ أتبعها بمجموعة أخرى عنونها بـ “طريق قصيرة إلى عراس” في 2006، وانتظر ستة أعوام أخرى قبل أن تظهر مجموعته الأحدث “عربة أوّلها آخر الليل” عام 2012.
عن ذلك يقول الشاعر في حديث إلى “العربي الجديد”: “شاءت الظروف أن أقيم خارج المدينة. حين انتقلت عام 1994 إلى ضاحية بعيدة في طرف البادية السورية، هذه الصدفة أعلنت عن نفسها كما لو كانت ما حلمتُ به دائماً. خلال أقلّ مِن نصف ساعةٍ على الطريق السريعةِ، تستطيعُ أنْ تنتقلَ إلى قلب المدينة، وفي وقتٍ مثله أن تعود إلى ما هو تقريباً صحراء”.
ويضيف: “علاقتي بالمشاهد الفسيحة قديمة، هناك زرعت الكثير من الشيح الأزرق، النبات البري الذي ينتشر في كل مكان من مرتفعات شرق المتوسط، وزرعت أيضاً الكثير من الصنوبر”.
يلحظ المرءُ في نصوص العظمة، ميلاً إلى التشكيل، كلُّ حرفٍ ضربةُ ريشة، يشير: “العالم ملوَّن، حتى الظلال ملوَّنة والضوء ملوّن، الكلمات أيضاً ملوّنة، أحياناً من شدة ما هي ملوّنة، أرغب في تخفيفها بالماء، أو بالعكس أحياناً، في إطلاقها كما هي بألوانها البدائية الصارخة”.
على خلاف نزعة الشجن التأثيميَّة العزائيَّة التي وسمت كثيراً من النتاج الشعري لجيل الشاعر، جاءت تجربة العظمة الشعريَّة لتحتفي بالعالم المحيط، وترصد الطبيعة والمكان، مبتعداً عن الموضوعات التي تسود، حتى وهو يكتب “اليومية” و”السطر”.
عن ذلك يقول: “إن فشل تيَّارات الثقافة عموماً في الخروج من طهرانيات الشهيد والنبي والبطل ودرويش الضَيعة، والتائه في المدينة (العاهرة)، والخطابية التي ترافق ذلك كله، ويرافقها قرينها الموضوعي أي الشعور بالذنب والإثم. فشل كهذا على المدى البعيد، يؤدي إلى فشل آخر في زحزحة الكتلة الصماء المتفسخة التي تؤوي السلفية والأصوليات”.
يبيّن العظمة أنه لا يقصد أن الشعر يمكنه الوصول إلى الجميع، كما أنه لا يتحدث عن تأثير مباشر للشعر في كل شيء، موضحاً: “هذا طموح بعيد للشعر، أو ربما طموح للعالم وللفن، إنّما أتحدّثُ عن دور الشعر في تغيير اللغة تحديداً.انطلاقاً من تغيير اللغة، يبدأ التغيير في كيفية التفكير في الحياة والعالم، وفي صياغة جديدة لوجهات نظر طازجة ومتعددة في التلقي عموماً، إضافة إلى التأثر بما يحدث أمامنا، وكيف نقوله، كما في تحرير الكائن من جبال الموروثات التي تجثم فوقه، هكذا يمكن أن نتحدث عن الحرية”.
المسألة الثانية عند العظمة “هي الغوص في الذات، يندرُ أن نجدَ في الشعر العربي المُعاصر ما يرى العالم، ما يرى خارج الذات. فالرؤية غالباً موجّهة للداخل وتحولاته وتقلباته في نرجسية سقيمة، كأنَّ هؤلاء الشعراء يغمضون أعينهم حين يكتبون، وأنا أقترح أن يفتحوا العيون على وسعها”.
ينشرُ العظمة كثيراً من قصائده على صفحته الفيسبوكيّة الخاصّة، وعند سؤالهِ عن تأثير وسائط التواصل الاجتماعي على أساليب ومعاني الكتابة الأدبيّة الحديثة يجيب: “الفيسبوك لا يصلح مكاناً للشعر ولا يتحمّل الكثير منه، أحياناً أضع مقاطع أو قصيدة قصيرة. أنا من أنصار الكتاب المطبوع، الذي ينام معك، أوتقرؤه وأنت تغفو، وأبعد من ذلك، أنا من أنصار قراءة الشعر حياً، هي الطريقة البدائية التي وُلد منها الشعر”.
“الجماعات الإنسانية الأولى كانت تتحلق حول النار، وحول الشاعر، الشاعر وُلِد هناك، والشعر أيضاً، في الكهف أو في البراري” يقول الشاعر “حين أكتب، أفعل ذلك بالصوت، أي أن الكلمات التي تذهب إلى الورق تذهب مع أصواتها ونبرتها، حدث أكثر من مرة، أن يمسكني من يكون إلى جواري بينما أكتب، متلبساً وأنا أهمس ما أكتبه”.
“أحسن المرات التي قرأت فيها كانت بين أصدقاء قليلين في السهرة، والسهرة لم تكن للشعر. لكني أعشق أيضاً القراءة الحية أمام جمهور كبير، والأحلى في محيط غير تقليدي. حين أفقد الثقة في كل شيء أذهب إلى الشعر، هناك أستعيد الثقة في كل شيء، هناك تلمس الأشياء والكائنات بيديك” يؤكد.
لا يجد الشاعر الذي غادر دمشق العام الماضي ليستقرَّ في باريس، “فرقاً هاماً” يتعلق بمغادرته سورية، يوضّح: “أعني في وجهات النظر السياسيَّة. أنا أيضاً أكادُ لا أغيّر عَاداتي، بما في ذلك التدخينُ بشراهة، والكتابة بشراهة مماثلة”.
أمّا عن العلاقة بين المنتج الأدبي والحدث السياسي، فيردف: “العلاقة بين التبدّلات السياسيَّة العميقة والكتابة، أي بين الثورة والكتابة، هي علاقة مركّبة، وتدخل في ممرّات نادراً ما تكون فسيحة أو واضحة. قلت مرة، إنَّ الثورة أقصى ما يمكن من الشعر. وكنت أعني أنَّ الثورة بحدّ ذاتها شِعر بمفهوم بعيد، ولا تحتاجُ إلى شِعر إضافيّ، هناك الرغبة أو الإلحاح في أن تقولَ الأشياءَ بشكل مباشر”.
“كنتُ أعتقد دائماً أن قول الأشياء مباشرة أولوية حاسمة، لكنَّ هذا أدى إلى نماذج وخطابات ركيكة في الكتابة. المُشكلة أنَّ ثَمَّة نوعاً من الخِفّة، والأكيد أنها من النمط “الذي لا يُحتمل”، ونزعة عدميّة وشعبويّة في النماذج التي أراها مما يسمّى “شعر ما بعد الثورة”، التي تظنُّ أنها تنسف الخطابات، بينما أراها خطاباً جديداً مضاداً. تستطيع أن تقول بوضوحٍ ما تريده كرأي في مقال، ولا داعي لافتعاله وكتابته في قصيدة”.
يضيف العظمة: “الشعر لا يفصح عن آراء. حين نُعجبُ بعبارة الشاعر الأميركي غينسبيرغ: “أميركا اذهبي ضاجعي حالك بقنبلتك الذرية” فلأنها تعبير بليغ، ولأنها تعجبنا سياسياً، ليس لأنها شعر. أنا على الأقل لا أرى شعراً في هذا، كما في غينسبيرغ كله، أو معظمه، تماماً كما لا أرى شعراً في: “أميركا شخّي مزّيكة”.
بالنسبة للعظمة فإن “الشعر العربي معروف بالخطابات، حتى في الحب، ابتداءً من نزار قباني ربما، في الشعر الحديث، ومن المتنبي في الشعر القديم. من جهة ثانية الشعر هو ثورة، ذلك أن الشعر لطالما كان يغيّر اللغة، ويبدّل طريقة النظر إلى كل شيء، ابتداء من اللغة بعكس الخطابات التي تكرر نفسها، مهما كانت وجهات النظر التي تقولها متناقضة. كل أنواع الخطابات تثير ريبتي، وكذلك اللطم والعويل”.
– See more at: http://www.alaraby.co.uk/culture/2015/8/4/%D8%AD%D8%A7%D8%B2%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85%D8%A9-%D8%AA%D8%AE%D9%81%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1#sthash.0p24v7Iv.dpuf