الكاتب البحريني أمين صالح . “رهائن الغيب” نصوص بين السيرة والرواية
تفاصيل النشر:
المصدر: الحياة ،الكاتب: نبيل سليمان
تاريخ النشر(م): 3/9/2005
حملت رواية أمين صالح الأولى في عنوانها الحرف الأول من الاسم والحرف الأول من اللقب: تلك هي رواية هذا الكاتب البحريني المقلّ:”أغنية ألف. صاد. الأولى”، وإذا كانت السيرية تلوّح في هذا العنوان كما ستلوّح بضمير المتكلــم، فهي لا تني تعلن عن نفسها في الرواية التي صدرت عام 1982، بينما ذيّلها تاريخ كتابتها عام 1975.
بعد ثلاثين سنة من هذا التاريخ تأتي رواية أمين صالح”رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة”، فإذا بالسيرية أكبر تلويحاً وفعلاً منها في الرواية الاولى، كما هو شأن التجريبية والطموح الحداثي في الروايتين. فقد بدأت”رهائن الغيب”بمشهد ولادة المرأة”التي ستكون أمي”في البيت”الذي سيكون بيتي”بينما ينتظر الرجل”الذي سيكون أبي”كما تتوالى عبارات الراوي المعترضة. وإثر هذا المشهد ـ وعنوانه: في البدء ـ يأتي مفتتح بمثابة بيان للرواية سيتعزز في مظان عدة منها، ليجلو المنظور السيري الروائي. فالراوي هو حميد”الآخر الذي لم أكنه أبداً، والذي يشيد من حطام الذاكرة عالماً لم تطأه قدماي”. وإلى ذلك يضيف الراوي”وإذ أكتب ما تمليه عليّ الذاكرة وما لا تمليه، فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن”.
يغري هذا الإعلان بتأخير السيرية وتقديم التخييل. لكن السيرية سرعان ما ستتأكد في ما يلي من البيان / المفتتح إذ يتابع الراوي وهو يرسم مخطط الرواية:”أسرد البازغ من أيام راوغت فخاخ النسيان”و”أسرد الجسد الكامن خلف بكارة الأشكال”و”أسرد أنقاض خرائط خلفتها حروب وديعة”و”أسرد مرايا حيّ الفاضل في العام 1963″. ولا يفوت الراوي في بيانه أن يعلن لعبته الفنية إذ يقول:”أسرد السرد الذي يتبع مسائر الحلزون العائد نحو الشظايا ملتمساً شفاعة الجذور”. ولأن الراوي ليس الرهينة الوحيدة للغيب، وليس الوحيد الذي هبط في صحن الدار بلا أجنحة، بالأحرى لأنه واحد من الشخصيات التي ستملأ الرواية، فهو يختتم بيانه بالتوكيد على أنه إذ يسرد الآخرين الآن واحداً واحداً، فإنما يقتفي في سفر الالتباس”وجوهـــــــاً موهــــت ملامحهــا وانحدرت نحو السراب، أو ربما تقتفينــي الوجـوه إلى خلوة الحبر حيث أسهر متكئاً على حبر الكتابة، منصتاً إلى ما يرويه الحبر من ترف المصادفات ودبيب الحنين… وأذرف حلماً”.
بين فعل التذكّر والكتابة الآن وبين الماضي المرويّ يتطاول الزمن. وإذا كانت الرواية قد بدأت بمشهد الولادة من ذلك الماضي، فهي ستتركز إثر ذلك في مراهقة حميد وأقرانه كريم الأعرج ومفتاح وعزوز ابن الخباز ونبيل… ولأن الرواية تلاحق المصائر من ذلك الماضي إلى الآن فقد أفردت لهذه الملاحقة مستوى سردياً خاصاً جاء بالأحرف المائلة، وتكررت فيه كلمة الآن، كما تكررت في خواتيم فقراته الإشارات إلى الطفولة:”صباح الطفولة / زغب الطفولة / أرياف الطفولة / جمر الطفولة”. وفي هذا المستوى أوجزت الرواية مآل كريم الأعرج إلى ثوري ومعتقل وحزبيّ وعاشق فمخذول، وكذلك أوجزت الرواية مآل عزوز في التجارة، وجنون مفتاح بعدما طفر وأمه من ضرب أبيه ثم أحرق البيت وفيه أبوه.. وإذا كانت الرواية ستفرد لكل من أولاء الأقران فقرة من الفصل 56 ـ كما سيفرد الفصل 57 فقرة لكل لحظة من اليوم، فالرواية ستكرر فحوى بيانها الافتتاحي، كأن يقول حميد:”الآن من شرفة حاضر ـ يبيح لي فسحة للتأمل ويتيح لذاكرتي أن تخترق بعناد أغشية تبدو ظاهرياً شفافة، لكنها مراوغة مثل سحب عابثة ـ أرنو إلى ماض تدرج لونه حتى صار رمادياً”. على أن المهم هنا أن ذلك الماضي الذي يسهو عن مواعيده، يبحث عن فصله الأخير، وهذا الفصل الموعود ليس غير مزار هلامي، لذلك – ربما – انتهت الرواية بلقطات للشخصيات وللمفردات الكبرى التي تشكلت منها المشاهد، وجاءت الجملة الأخيرة تنادي عنوان الرواية، إذ يسدل حميد”أجفانه على أعوام صاخبة تتراكض في ربــوع الأمـــس… مثل غيب يسدل الستائر على رهائن لا يعلمون أنهم رهائن”.
في ذلك الماضي – الغيب – رمحت الرهائن – حميد وأقرانه – بين سجن المدرسة والسينما والعرس واقتحام الخرابة وكرة القدم وجولات الدراجات والعراك والعشق ومشاكسة الأساتذة والآباء والسرقة وصراع الديكة… واشتبك كل ذلك برهائن أكبر من الشبان والصبايا والآباء والأمهات. وقد نتأكد من ذلك أن تأتي قصة والد حميد بضمير المخاطب، بينما جاء رسم سلطان وأحمد وسنان كلحظات فاصلة في تكوّن حميد. فمن الأول القوي الذي يعمل مع الاستخبارات يطلب حميد”علمني لأكون قوياً مثلك”، ومن الثاني القومي المأخوذ ورفاقه بالسياسة والذين يتظاهرون ضد الاستعمار ويهتفون لعبدالناصر، يطلب حميد أن يعلمه السياسة. ومن الثالث الذي جاء وحيداً وغامضاً تواكبه أناشيد السكر وشجن الساكسفون، يطلب حميد أن يعلمه الموسيقى. والقوة والسياسة والموسيقى إذاً هي ما يصبو إليه هذا المراهق الذي وشمت ذاكرته قصة خلود في نشأتها”طفولة مشبوهة أم أنوثة مقمطة”، والتي اعتدى عليها مخدومها فيما شاع أن القمر هو الفاعل.
ثمة الكثير أيضاً مما وشم ذاكرة حميد، وتعاون على سرده المتكلم فرداً وجماعة كما تولاه الغائب بلغة تلفعها الشاعرية غالباً، ولا تعدم عبر ذلك المواطن التي تفيض بها المجازات على الشخصية أو الحالة أو الحدث. على أن اعتماد البناء المسرحي للمشهد قد خفف من وطأة ذلك كما خفف منه اعتماد اللقطة السينمائية.
ومن أمثلة ذلك أن يبدأ السرد بوصف الأزقة الأفعوانية الضيقة وبيوت الطين والسعف والمصابيح المعلقة، ثم يظهر في أورام المدينة هذه كلبان هزيلان وناطور أخرق وصمت زاهد و… حميد في الثالثة عشرة من عمره. وكذلك يبدأ السرد بريح خفيفة وشمس مذهبة وصيادين يصنعون الأقفاص وأسماك لاهية في البحر و… وعراك بين فريقين للصبيان. وقد يتوقف السرد في لحظة بعينها لتنتقل العين السينمائية من بيت إلى بيت ومن شخصية إلى شخصية، أو قد يبدأ السرد بلحظة بعينها كالظهيرة في الفقرات 8 – 9 – 10 – 11 وليلة الحلم في الفقرتين 17 – ولئن كان في كل ذلك – ومعه ما كان للحوار من حضور مميز – ما يغلّب الروائية على السيرية، فإن النظر من جديد إلى”رهائن الغيب”بجماعها يظل يلح بالسؤال عن ترجحها بين الرواية والسيرة، وبالتالي عن ترجحها بين رواية السيرة الذاتية ورواية التكون الذاتي، بين الذات المموهة وبين لعبة المرايا، مما بات غواية كبرى للرواية العربية.