مذاقات مختلفة وطازجة في نصوص مهيب البرغوثي
تختلف صورة الشاعر مهيب البرغوثي، وتختلف أدواته، لغته وعوالمه التي ينهل منها، ومآلات «قصيدته» التي تحفر في المغاير وغير المألوف، في الشعر الفلسطيني خصوصاً، والعربي على وجه العموم. فاختلاف الكائن/ الشاعر يجعل من نتاجه مختلفاً بالضرورة. ومنذ عنوان مجموعته الشعرية الجديدة «مُختبَر المَوت»، يذهب مهيب في وجهته المختلفة تلك، لكنّه يتجاوز «اختبار» الموت، إلى «مُختبر الحياة» بكل ما فيها من المآسي.
في ديوانه هذا، (الدار الأهليّة/ عمّان)، وهو الثالث له بعد الإصدارين «عتم» و«كأنّي أشبِهُني»، ينطلق البرغوثي من رؤية تتمركز في مهمّة الهدم، هدم لكلّ ما هو قائم من خراب و«سفالة» هذا العالم، لكنّه هدم يكرّس الطفولية والحبّ والبراءة، بل الحياة البدائية البرية المفقودة في عالمنا. نستمع إلى «صوت» مهيب وكأنه قادم من طبيعة مختلفة عن طبيعة البشر السائدة. فهو يقترب من حالات وتجارب شعرية خارجة على هذا السائد، إنه في اختصار صديق (رفيق) هؤلاء الخارجيّين: سيلفيا بلاث، فرجينيا وولف، دون كيشوت، وبوكوفسكي ومغنية الجاز والبلوز الأمريكية من أصول أفريقية نينا سيمون وسواهم.
وقبل الغوص في عوالم كتاب/ ديوان البرغوثي، مختبر الموت/ الحياة كما أحبّ أن أطلق عليه، أقتبس شيئاً ممّا كتبه الشاعر زهير أبو شايب على الغلاف الأخير للكتاب، الذي يرى أن البرغوثي «لا يكتب بوصفه شاعراً ذا سلطة، بل بوصفه ذلك المخلوق البدائيّ الضالّ الذي يجوس في ليله الشخصيّ، ويدخل إلى العبارة على هيئة الزّوبعة، مسبّباً الفوضى في اللغة والوجدان، ومُحمَّلاً بالغبار والعواء والشتائم والروائح البرية».
وفي حين يرى الكاتب الفلسطيني زياد خدّاش، في شهادة له على الغلاف الأخير للكتاب أن البرغوثي «يواصل مشروعه التهديميَّ لكلّ ما يقف على قدمين من شعر يختنق به الوطن، شعر من بلاستيك محروق وأسنان مسوّسة. لا يرضى مهيب بأقلّ من انهيار شامل لكلّ المنظومات الشعرية والتربوية والأصولية والثقافية»، ويختم أبو شايب شهادته بأنّ «ثمّة مذاقات مختلفة وطازجة في نصوص مهيب، أحبّها لأنّ أحداً آخر من الشعراء لن يغامر بالذهاب لالتقاطها، خشية أن يفقد موقعه في الحظيرة».
البرغوثي نفسه يكتب عن نفسه، خارج هذا الديوان، أنه «مجنون»، وأنه «مولع بأتفه الأمور، الطفل مطلق السراح بداخلي وأراه أمامي يركض بين بسطات الخضار، ويوزع الورد على قبور من مضوا دون المحبة»، ويعترف «هذا ما يجعل الآخريين لا يحبونني ويحسدونني، لكن لا أريد أن أجد الفاصلة بين الجنون والطفولة، أنا مجنون، وما الأعراف والتقاليد والدين والبطولة سوى تذكرة لتحطيم الروح وسجن القلب بالنسبة لي».
تركّز قراءتنا هذه على ثيمة أساسية في «مختبر الموت»، هي ثيمة «موت العالم» إذا جازت ترجمة العنوان على هذا النحو، بل ترجمة مجموع الخراب والسّفالة والقذارة التي يعيش العالم فيها. ثيمة تجمع بين سوداوية شديدة القتامة في الرؤية إلى الناس، وبين سوريالية في التقاط الصور وتحويرها أو تضخيمها على نحو يجعل منها حالة «تراجيكوميدية». هنا، نحن حيال «هذا العالم الساقط»، حيث كل الأمهات الثكالى/ اللواتي نسيهن العالم/ أمام دور العبادة». وغالباً فإنه يرى في «الناس غابة من الحيوانات المفترسة». وهو أيضاً «كقلب عامل زنجي أكلته حضارة الرجل الأبيض».
هذا من جانب، ومن جانب آخر نحن أمام عالم بلاستيكيّ بلا حياة، أو بحياة مشوَّهة، والشاعر يعلن طوال الوقت «لا أحب الأرواح التي ينبت فيها البلاستيك/../ بعض الوجوه البلاستيكية تحجب أمطار السماء»، كما أنه يرفض «العاديّة» والسائد، يصرخ «كم أكره العاديين/ أمِتْنى قبل أن أتحوّل إلى عادي»، ويرى إلى العالم من خلال الأوغاد الذين «يسرقون حلمنا»، ويصرخ في وجه «العالم الكلب: كم امرأة ستأكل اليوم؟ كم حبّاً سيموت؟»، ويرى وهو يخاطب صديقه «أن كل هذه الكراسي مصنوعة من عظامنا». لذلك يستنجد بروحه «اكبري في الخطيئة/ فالمجد للجنون».
وفي هذا العالم الممسوخ، الكثير من الخطايا ترتكب باسم الجمال والحبّ والإبداع، ما يدفعه للتساؤل بجنون «كم خطيئة ارتكبنا باسم الشعر»، هذا الشعر الذي يُفترض فيه أن يكون «وسيلتنا لتدمير تلك الفضيلة/ وإشاعة الفوضى بين القبور». ومن هنا، فهو لا يخفي رغبته «سأختار برج كنيسة قديمة/ في دمشق/ لأبوح لها بخطاياي»