عبدالوهاب البياتي صناعة الخصوم والأصدقاء والطرافة
الحديث عن الشاعر الراحل، الكبير والمجدد والرائد عبد الوهاب البياتي، يتجدد دائماً، ودائماً يجد مَن يحاول الكتابة عنه من زاوية جديدة ومغايرة، أو منفذ مختلف، يستطيع التسلل منه للكتابة عنه. ولعل ذلك يعود بدرجة رئيسية، حسب ظني، الى سعة تجربة هذا الشاعر المثير للجدل، ابّان حياته، عبر تصريحاته النارية الجريئة والثالبة، تجاه خصومه من الشعراء والنقاد، مما أدى بالعديد من الصحافيين الباحثين عن الإثارة والشهرة، والمهجوسين بحس المغامرة الى لفت الأنظار اليهم، ولكن عبر لسان البياتي، وهو يدلي بآراء نقدية لاذعة وكاوية، بحيث تكون الضحية في الغالب، إما شاعراً منافساً للبياتي، أو كاتباً، أو روائياً. وقد وقع في هذه المصيدة الكثير من الشعراء، وجلها كانت أسماء لامعة ومشهورة وفاعلة في المشهد الثقافي الأدبي والشعري والنقدي، كلها طالها قلم البياتي ولسانه الذرب والحاد الذي لم يرحم إلا القليل من الصفوة الأدبية تلك، كون تلك الصفوة،إما أن تكون مساهمة في مشروع البياتي الهجائي، أو هي قليلة الأهمية بحيث ليس بمستطاعه الالتفات اليها، أوكون إرثها الثقافي والشخصي والإبداعي متواضعاً، لا يسمح بشن حملة عليه، أو حتى في وارد مروره على قلم البياتي، ولكنه أحيانأ لا يترك مثل هذه الصفوة أن تمر بسلام، فهو خلال جلسات الشراب والطعام التي لا تحصى، أو خلال تزجية الوقت في مقهى أو حانة، او ملتقى ثقافي، سيتناولها ساخراً، متهكماً، كون العابر هو كائن ضعيف وينبغي التريّث أمامه، فيرمي كلمة حوله تشيع في الحال حول ذلك المعني الغائب، جواً من التفكه والتندر، الذي يحمل دون ريب في طياته الكثير من صخب الطفولة واللعب الملوّن بالبهجة والضحك تجاه ذلك الشخص الذي لاحظ سهم البياتي جزءاً من كيان تلك الشخصية، التي يعدها ضعيفة وغير قابلة للهجاء، من العيار الثقيل، ذاك الهجاء الذي يُحْسن البياتي صناعته وتوليفه وتركيبه، بطريقته الخاصة والمعروفة في فنّ القدح، حيث الإغارة ستكون إما لسانية أو كتابية نثرية، أو تأتي على شكل قصيدة .
بدأت هذه الخصلة النقدية عند البياتي، والتي تكاد أن تكون صادمة في بعض جوانبها، لكنها في الغالب الأعم لا تبلغ حد التشهير الشخصي الكبير، أو التجريح العالي الذي يستدعي إقامة دعاوى عليه، من قبل بعض المثقفين والشعراء، بل كانوا يعدّونها من باب الطرفة، أو يتجاهلونها بشكل تام، أو يضعونها في خانة الحسد والغيرة وعدم بلوغ الشأو، أو التقاصر في العمل الإبداعي لدى الشاعر البياتي. وبعضهم كان يردّها لعدم مجاراته للتحولات الكبرى التي حدثت في مسار الحداثة الشعرية والأدبية، تلك التحولات التي غاب عنها البياتي سنين طويلة، في منافيه السوفييتية وحتى المصرية، التي أبعدته عن مواكبته للتطوّرات الكبيرة والمتسارعة التي مست عمق الثقافة العربية، وبالأخص الشعر العربي الحديث، وما قدّمته مجلات «شعر» و«حوار» و«أدب» من مادة ثقافية اهتمت بجوهر الحداثة . تلك المجلات التي سوف لن تنجو من كلماته النارية وحملاته المقذعة تجاه كاتبيها ومحرّريها وناشريها. لقد كان خصماً لدوداً لأدونيس الى آخر لحظات حياته، لكن أدونيس لم يأخذ هجومات البياتي على محمل الجد ليرد عليها، وكذلك محمود درويش كان يسخر منها بكلام مقتضب في جلساته الخاصة مع الاصدقاء. لقد تأثر بالبياتي شعراء عديدون ولا يحصون بينهم سعدي يوسف ورشدي العامل وحجازي وأمل دنقل، وانسحب هذا على جيل كامل برمّته تقريباً، ألا وهو جيل الستينيات العراقي والعربي، ولقد صرّح بذلك أكثر من شاعر، إما في كتبهم النقدية ومذكراتهم، أو من خلال لقاءاتي الصحافية بهم، مثل فاضل العزاوي ومحمد سعيد الصكار وسركون بولص وفوزي كريم، وقبل فترة صرّح سامي مهدي بهذا التأثير، وكذلك هو الحال مع التصريح الأخير لشاعر يعد سريالياً وفانطازياً مثل صلاح فائق. وتصاعد هذا التأثير ليطال جيل السبعينيات أيضاً وأن بدرجات متفاوتة، وكنت أنا أول الذين تأثروا بالبياتي في فجر حياتي الأدبية نهاية الستينيات، وأعد هذا التأثر فخراً لي، كون قصائد البياتي كانت تحمل شحنة كبيرة من الثورية والمنافحة اليسارية، كما أنها ترسخ قيم الحرية والعدالة الإنسانية لدى الشاعر الشاب والقارئ ايضاً، بسبب عناصرها الفنية ورموزها الراديكالية التي كانت تنتشر في نسيجها البنائي، مبشرة عبر تلك الدوال، بعالم السلم والحلم والثورة، وتعد بالبشارة في شمول العالم الرخاء والمساواة وزوال الفوارق الطبقية، إنها قصائد نستطيع أن نقول عنها تبشيرية، تشبه المنشور احياناً، ولكنها من ناحية ثانية، شاعرية، حالمة وتحمل قدْراً كبيراً من الفن. في الوقت ذاته تلفاها فاعلة في محيطها، لدى طائفة واسعة من القراء، خصوصاً في فترتي الخمسينيات والستينيات، وصولاً الى فترة السبعينيات من القرن المنصرم .
لقد هجا البياتي عبر تصريحاته الصحافية ومقابلاته ونقداته الأدبية المنشورة، السياب منافسه الأول والأبرز، وذلك على صفحات مجلة «الآداب» البيروتية التي كانت تقف الى صف البياتي، هي ورئيس تحريرها سهيل ادريس، ومثلها مجلة «الأديب». وهجا المنافس الثاني الذي أزاحه عن طريقه بقوة موهبته وفطنته وذكائه الشاعر كاظم جواد صاحب ديوان «أناشيد الحرية»، والشاعر موسى النقدي، وابتعد عن طريقه كل من الشاعر بلند الحيدري وحسين مردان الذي كان يحبّه البياتي ويجامله ويدافع عنه، ولكنه صوّب كالعادة سهامه المُرّة الى نازك الملائكة التي كانت معتدة كثيراً بنفسها، قياساً بالبياتي، الذي تعدّه شاعراً شيوعياً في فترتها وهي القومية العروبوية، المتحدّرة من آل شمّر، حاملة راية الأمة في كتاباتها النقدية والنثرية وحتى الشعرية، وقد تجسّد ذلك حتى في قصيدتها الشهيرة «الكوليرا» وهي تتحدّث من خلالها عن مرض الطاعون الذي اجتاح مصر إّبان فترة الاربعينيات الفائتة، والتي جسّدت فيها شكل القصيدة الحديثة، والمتجدّدة والرافضة للعمود الشعري – الممتد زمنياً قرابة الألف وخمسمائة سنة. ايضاً نال منها البياتي لتجاهلها إياه، بينما هو أي البياتي، عدّ نفسه رائد الشعر الحديث، مستعيناً بالكتاب البارز والمعروف الذي كتبه عنه ناقد مرموق مثل احسان عباس «البياتي رائد الشعر العربي لحديث».
خصوم البياتي كانوا كثيرين في حياته الأدبية، فلقد هاجم البياتي الشعراء الماغوط وأنسي الحاج والفيتوري وسميح القاسم وخليل حاوي وصلاح عبدالصبور وسليمان العيسى وتوفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا ويوسف الصايغ ونزار قباني، وقد تلقى الأخير القسط الأكبر من غارات البياتي النقدية، في مقابلاته الكثيرة، في فترتي الستينيات والسبعينيات، وعبر مجلات بيروتية ذائعة ورفيعة وشهيرة، وجد فيها محرّروها، ورؤساء تحريرها، مادة تحريضية شائقة للقارئ الذي كان يحتاج، وهو يتابع النخب الثقافية العربية المتجهّمة، الى تلك الأجواء التي يعدّونها أو يتصورنها مُطرّية لها، وتحتاج الى مناخ من النميمة والمساجلة والمشاكلة، على صفحاتها الباحثة عن قفشة وموضوع شيّق وحديث ساخن وناري وكاو، كالذي كان يجريه الصحافي اللبناني المعروف فاروق البقيلي وغيره من الأسماء الصحافية العربية اللامعة في عالم الصحافة مع البياتي .
هاجم البياتي نزار قباني، ليس بالطبع لسبب شخصي، بل لسبب شعري بحت، لا يخلو من طابع الحسد والمباهلة، فنزار كان هدفاً للجميع، لشهرته الذائعة التي طبقت الآفاق والتي كان يحلم بها كبار شعراء العربية، وحتى البعض من شعراء العالم الذين سمعوا به أو شاركوا معه في مهرجانات شعرية عربية ـ عالمية. أما الثاني الذي نالته سهام البياتي فهو الجواهري، وأيضاً مرد ذلك يرجع لشهرة الجواهري التي لا تقل عن شهرة نزار قباني، كونه ملقباً أولاً بشاعر العرب الأكبر، وهذا ما لا يستسيغه البياتي، والشيء الآخر الذي يستدعيه لتوجيه نقوده للجواهري، هو أن الجواهري كان محبوباً من قبل كل فئات الشعب العراقي وشرائح واسعة من الشعوب العربية أيضاً، ومن ثم الجواهري ظل مرابطاً له في كل فترات حياته لأنه عاش مائة عام بالتمام والكمال. الشخص الثالث والذي حصد أهدافاً نقدية في شباكه الشعرية هو أدونيس، والعلة هي ذاتها الشهرة الكبيرة التي يتمتع بها أدونيس لدى النخب الثقافية العربية الواسعة والممتدة من المحيط الى الخليج .
لكن رغم الذي مرّ، لم يمنع هذا البياتي من جني صداقات وعدم التعرض لبعض الأصدقاء من الشعراء مثل أحمد عبد المعطي حجازي وعلي الجندي وممدوح عدوان وحميد سعيد وعبد الرحمن طهمازي ومحمد علي شمس الدين، وطائفة واسعة من شعراء المغرب وتونس والجزائر، وعقد صداقات مع شعراء سبعينيين وثمانينيين، وحتى من جاء بعدهم من شباب شعري طالع، وهذه ميزة وخصلة نادرة تحسب للبياتي، وقد ساعد الكثير منهم على الذي يقدر عليه ومما هو متاح تحت يديه، ولم يتوان عن طبع كتبهم ومساعدتهم في حياتهم اليومية خصوصاً حين كان في عمّان ودمشق وبغداد .
هذا دون أن ننسى أيام باريس أواسط السبعينيات وحتى نهايتها، كان البياتي يقوم بزيارتها بين الفينة والأخرى، هناك في مقاهي باريس كنت التقيه وأصاحبه في سهرات وسفرات يومية لبعض الأماكن، كنت حينها مشرداً بامتياز، وهو كان يعرف سبب مجيئي الى باريس، كان يعرف انني يساري، وقد كان هو في يوم ما وفي مثل سني حينذاك يسارياً، ويعرف مآزق ومعاناة هكذا تجارب. كان يحب من مقاهي باريس « فلور» بسبب شهرتها السارترية والديماغو بسبب ذيوع شهرة روادها الوجوديين، وأحياناً يحلو له الجلوس في مقهى «كلوني» و«اللوكسمبورغ» لقربهما من فندق سكنه في الحي اللاتيني، وكذلك مقهى «نوتردام» لتردد بعض الأدباء العرب والعراقيين عليها .
جلست مع البياتي طويلا في تلك المقاهي، وكانت أحاديثه شيّقة، متهكمة، وتحمل الكثير من الطلاوة والمتعة، متعة السخرية والنادرة كيف تحكى وتسرد بصوته البغدادي الجميل، وانتفاخ أوداجه حين يضحك، من فلان وعلتان، بطريقته المثالية التي لا يستطيع أحد تقليدها ومجاراتها. كان مجلسه ممتعا وحلواً، لا يمل، وأنت جالس فيه وهو يروي الحكاية والمُلح التي ذهبت مع زمن ذهب ولم يعد .
كان العديد من الأدباء والشعراء العرب يخشى لسان البياتي. مرة سرّني شاعر عراقي يعيش في لندن وكان يعمل في اذاعة البي بي سي البريطانية، وهو شاعر من جيل الخمسينيات، قال : انه يخشى البياتي ويتجنّبه في نقده الأدبي الذي يمارسه أحياناً أو يكتبه في مدوّنة، والسبب يعود في رأي الشاعر الخمسيني، الى أن البياتي قد يعمد الى التشهير به، وربما اتهامه بأوصاف غير لائقة، وهو الموظف في محطة أجنبية. مرة جرى حديث بيني وبين بلند الحيدري في أحد لقاءاتي الصحافية به وتطرّقنا الى البياتي، فقال بلند في معرض حديثه : « ماذا يريد البياتي مني، كرسي الشعر، فليأت ويأخذه» وكان بلند حينها في لحظة وقوف ومغادرة لمكانه معي في المقهى، وهو يقوم بحركة تمثيلية، هازّاً الكرسي بيده بَرِماً، ومبتسماً في الآن ذاته .
أما ما يؤخذ عليه البياتي، فثمة أمران كان عليه تجنبهما في حياته، الأول عمله في السفارة العراقية في اسبانيا لمدة عشر سنوات، والثاني الإقامة في دمشق لصالح جهات معينة ومعروفة في النظام السوري .
هاشم شفيق / كاتب من العراق